لم يظهر أثر التعويم بعد على معدلات التضخم في شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وارتفع المعدل السنوي بهامش بسيط عن شهر سبتمبر/ أيلول بلغ 16.3%، لكن الخبراء يقولون إنه بناء على تجاربنا الماضية فإن التغيرات الكبيرة التي تحدث في سعر الصرف مثل التي شهدناها في يوم الـ 27 من الشهر الماضي تخلق شرارة من الغلاء تنتقل بالتدريج من سلعة إلى أخرى، لذا فهم يتوقعون أن نعيش في موجة تضخمية تستمر معنا حتى منتصف 2023 على الأقل.
يحاول هذا التقرير أن يستشرف توقعات التضخم خلال الفترة المقبلة، وأن يتتبع أيضا تجربتنا مع موجات الغلاء التي تزامنت مع تراجعات الجنيه، والتي نشهدها بشكل متوال منذ عشر سنوات تقريبًا.
الموجة التضخمية الجديدة
خلال الفترة بين يناير/ كانون الثاني إلى سبتمبر/ أيلول الماضيين زاد معدل التضخم السنوي بأكثر من الضِعف، من 7.2% إلى 15%، قبل أن يمنحه شهر أكتوبر دفعة جديدة ليصل إلى 16.3%، ويقول خبراء إن "آثار تعويم أكتوبر لم تكن هي السبب الرئيسي وراء هذه الدفعة بقدر ما جاءت الزيادة كمحصلة لارتفاع الأسعار المعتاد في هذا الشهر نتيجة بدء العام الدراسي".
لكن بدءًا من نوفمبر/ تشرين الثاني سنجد قفزات أكبر في التضخم، كما تقول محللة القطاع الاستهلاكي في شركة العربي الإفريقي الدولي إيمان مرعي، وذلك بعد أن تجد تستشعر الشركات المنتجة للسلع المختلفة زيادات تكاليف الإنتاج وتبدأ في تمريرها للمستهلكين.
وساهم تعويم مارس/ آذار الماضي، عندما انخفضت قيمة العملة المحلية بنحو 16% في ارتفاع أسعار المنتجات الغذائية بنسب متدرجة، وحفز على هذا الغلاء أزمة نقص العملة خلال الشهور الأخيرة ما أوصل الزيادة في أسعار الأغذية إجمالًا بين مارس وسبتمبر بنحو 35%، وفقًا لتقديرات مرعي.
وبينما جاءت قفزة الدولار الأخيرة بنسبة أكبر من ما شهدناه في مارس، وارتفعت العملة الأمريكية بأكثر من 16%، تتوقع مرعي زيادة أسعار المنتجات الغذائية حتى نهاية العام الجاري فقط بنحو 5 إلى 10%، وتقول "لن تلجأ كل الشركات بالضرورة لزيادة سعر المنتج بنفس نسبة الزيادة في قيمة الدولار، فبعض الشركات تقوم بخفض حجم المنتج أو وزنه كوسيلة بديلة للحد من زيادة التكلفة".
وتشير مرعي إلى أن أثر الدولار على شركات الأغذية أقل وطأة لأن جزءًا كبيرًا من عمليتها الإنتاجية تتم محليًا، بينما المنتجات المستوردة بالكامل من الخارج مثل بعض السيارات والهواتف المحمولة سيظهر أثر التعويم عليها بشكل فوري، أي أن الشركات ستلجأ لزيادة الأسعار بنفس نسب زيادة تكلفة الاستيراد أو توفير الدولار.
وفي السياق نفسه يقول يوسف البنا، المحلل في النعيم القابضة للاستثمار "عندنا أزمة بشكل عام في الاستيراد منذ إجراءات خفض العملة في مارس الماضي، ما سبَّب ندرة في مواد الإنتاج، وجعل أرقام التضخم ترتفع منذ هذا الوقت، ومع التعويم الجديد في أكتوبر نتوقع المزيد".
وعلى هذه الخلفية، يتوقع محلل النعيم، أننا سنصل إلى معدل تضخم عشريني بنهاية العام الجاري،"نتوقع أن نصل لمعدل تضخم ما بين 19.5 إلى 20% بنهاية العام الجاري مدفوع بشكل أساسي بزيادة أسعار الدولار الأخيرة" بحسب ما قاله البنا.
ويضيف على ما سبق الخبير الاقتصادي هاني جنينة أن أرقام التضخم لا يزال أمامها قفزات بسبب الزيادة المرتقبة نتيجة الإصلاحات المتفق عليها مع صندوق النقد الدولي "فيه زيادة متوقعة في أسعار البنزين في ديسمبر مع قفزة الدولار، من المتوقع أن تتغير طريقة التسعير لتصبح شهرية بدلًا من ربع سنوية، كما أن هناك زيادة مرتقبة لأسعار الكهرباء من منتصف العام 2023" .
لكن بعض الخبراء يرون أن في يد الحكومة بعض الأدوات الممكنة لتهدئة الأسعار، مثل أحمد عز الدين المحلل الاقتصادي، الذي يشير إلى إجراءات "مثل مبادرات توفير السلع بأسعار مناسبة والتحوط ضد تقلب سعر صرف الجنيه إلى جانب أدوات المركزي مثل أسعار الفائدة، ما سيجعل المعدل المستهدف للتضخم في نظر البنك المركزي في حدود 10% بزيادة أو انخفاض 1%".
لكن البنا، يرى أن هذه الإجراءات سواء الفائدة أو المبادرت الحكومية لتوفير السلع، لن تكون مجدية لحل الأزمة لان التضخم الذي نعاني خاصة وأن أسعار الفائدة ليست محركًا أساسيًا للأسعار، وفي الوقت عينه تساهم في ارتفاع عجز الموازنة.
وخلال الفترة الماضية رفع البنك المركزي الفائدة 5% على ثلاث مرات منذ بداية العام الجاري.
وبناءً على تقديرات البنا، فإن معدلات التضخم لن تبدأ في التراجع قبل الربع الأخير من العام المقبل، بعد أن يكون الأثر الإيجابي للتعويم بدأ في الظهور، مع تيسير حركة الاستيراد وإنهاء نظام الاعتمادات المستندية وبالتالي توافر سلع مثل الأعلاف التي تسبب نقصها في الضغط على أسعار اللحوم والدواجن.
ماذا جرى لنا في عشر سنوات
بنظرة سريعة على أسعار الصرف سنجد أن الجنيه يعيش حالة من عدم الاستقرار غير المسبوقة منذ عشر سنوات تقريبًا، صاحبتها إجراءات تحريرية عدّة لأسعار الطاقة خاصة مع تعدد اتفاقاتنا مع صندوق النقد الدولي منذ 2016، ما أدى لموجات تضخمية متتابعة.
لذا قمنا بتحليل تأثير تغير سعر الصرف على أسعار الغذاء منذ 2012، نظرًا إلى أن جهاز الإحصاء يوفر أرشيفًا منتظمًا لرصد بيانات تلك السلع، في محاولة لاستقراء حجم التغير في الأسعار خلال هذه العشرية التي اتسمت بالانخفاضات العنيفة للجنيه.
وتشير بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، إلى أن تكاليف الغذاء والشراب زادت بنحو 200% تقريبًا خلال الفترة التي ارتفع فيها سعر الدولار من 6 جنيهات إلى 24، ويمثل الغذاء المكوِّن الأكبر في إنفاق الأسرة المصرية بنسبة 37% ما يجعل لزيادته أثرًا مهمًا على مستوى معيشة الملايين.
وبمقارنة الأسعار في يناير الماضي ببيانات يناير 2012، ارتفعت أسعار القمح (الذي يدخل في صناعة الخبز والمكرونة والحلويات وغيرها) بنسبة 172%، وقفزت أسعار اللحوم 147%، والعدس 147%، وفول التدميس 187%، وارتفع سعر الدجاج البلدي بنسبة 151%، والدواجن المزارع بأكثر من 70%، والبيض بنحو 175%.
ولم تقتصر الزيادة على السلع البروتينية، لكنها طالت أيضًا الشاي بأكثر من 200% فيما تراوح متوسط زيادة أسعار أنواع زيوت الطعام حول 150%.
ويقول جنينة إن تغير سعر الصرف كان له دور كبير في زيادة أسعار الغذاء بسبب الاعتماد الكبير على استيراده من الخارج" القمح والبقوليات كلها مستوردة، أما الدواجن والبيض تتأثر بارتفاع أسعار الأعلاف، واللحوم الحمراء تعتمد بشكل كبير على الاستيراد وتتأثر أيضا بارتفاع الأعلاف".
كذلك شهدت هذه الفترة قفزات في الأسعار العالمية للسلع "الذرة والقمح كان فيها طفرات خلال بعض السنوات خاصة مع الحرب الروسية الأوكرانية" كما يضيف جنينة.
لكن الخبر الجيد الذي يمكن استخلاصه من تحليل العقد الماضي هو أن أسعار الأغذية زادت بوتيرة أقل من زيادة الدولار، فسعر الصرف تضاعف بنحو 300% منذ 2012، وهو ما قد يرجع إلى تمتعنا بقدر من الاكتفاء الذاتي في بعض المنتجات، لذا يؤكد الخبراء على ضرورة تعزيز قدراتنا الإنتاجية المحلية من بعض السلع الأساسية.
تظهر معضلة الاكتفاء الذاتي بشكل واضح في حالة الدواجن التي نستطيع أن ننتج احتياجاتنا المحلية منها بالكامل، مع ذلك كانت أسعارها تتأثر بقوة بتغير سعر الصرف، وزيادة أسعار الأعلاف من نحو 3400 جنيه لطن فول الصويا إلى نحو 26 ألف جنيه للطن، وارتفاع طن الذرة من 2300 جنيه إلى نحو 10 آلاف جنيه للطن، وزاد الأمر سوءًا في حالة اللحوم الحمراء التي لا نزال نستورد نحو نصف احتياجاتنا منها.
وتشير بيانات الجهاز المركزي للإحصاء، إلى أن نسبة الاكتفاء الذاتي من اللحوم تراجعت عبر السنوات العشر الماضية، حيث بلغت نسبة الاكتفاء الذاتي في العام 2012 نحو 85.7% من الاستهلاك إلى نحو 52% في العام الجاري.
تناقص نسبة الاكتفاء الذاتي طال القمح أيضًا، حيث بلغت نسبة الاكتفاء الذاتي منه نحو 41.4% خلال العام 2020 مقارنة بنسبة اكتفاء ذاتي بنسبة 55.7% في 2012، أما الأسماك، فتراجع الاكتفاء الذاتي منها من 85.5% في 2012، إلى نسبة اكتفاء ذاتي بنسبة 16.7% خلال العام 2020.
ومع هذه الاحتياجات التي ربما لا يمكننا تغطيتها محليًا خلال فترة قصيرة، ومع استمرار اعتماد المصريين على تلبية تلك الاحتياجات عبر الاستيراد، تظل أسعارها مرهونة بتحركات سعر الدولار تارة، وبالتغيرات الدولية تارة أخرى، أو التعرض لضربة مزدوجة منهما معًا.