قدمت مصر تضحية كبيرة من أجل أن تؤمن الأسبوع الماضي تمويلات خارجية من صندوق النقد ومؤسسات مالية أخرى بقيمة 9 مليارات دولار، وفقًا للبيان الصحفي الذي أعلنه الصندوق.
للوصول إلى هذا الاتفاق الذي امتدت مفاوضاته أشهرًا، اضطرت مصر أن تترك قيمة العملة المحلية تهوي أمام الدولار لتفقد أكثر من 16% من قيمتها. ولكن رغم فداحة هذه التضحية يبدو أننا لا نزال داخل دائرة الأزمة، فالخبراء يقولون إن كل ما فعلناه هو تخفيف الضغوط القائمة فقط، وليس القضاء عليها نهائيًا.
ويتوقع الخبير الاقتصادي هاني جنينة، أن تبلغ الفجوة الدولارية 25 مليار دولار العام المقبل، أي أننا أمَّنا من خلال اتفاقنا الأخير نحو ثلث هذه الفجوة فقط. وتمثل الفجوة الدولارية حجم النفقات التي تحتاجها البلاد خلال عام ولا تجد لديها موارد مالية لتمويلها.
ويرجّح جنينة أن يتراوح عجز ميزان الجاري ما بين 10 مليارات إلى 12 مليار دولار خلال 2023، تدخل ضمنها مدفوعات الفائدة على الديون الخارجية لهذه المدة، يضاف إليها أصل الديون البالغة نحو 13.4 مليار دولار، طبقا لبيانات البنك المركزي.
وتنبع هذه النفقات من مصدرين؛ الأول هو عجز الميزان الجاري، أي الفرق بين حجم حصيلتنا الجارية من أنشطة مثل التصدير والسياحة وغيرها وحجم ما نحتاج لإنفاقه على أنشطة مثل الاستيراد ومستحقات المستثمرين الأجانب في مصر وغيرها. أمّا الثاني فهو مستحقات الديون التي يحل أجل سدادها خلال عام.
ويرى الخبير الاقتصادي مدحت نافع، أن التمويلات التي تجمعها مصر في الوقت الراهن من مؤسسات التمويل الدولية هدفها الرئيسي مساندة قدرة البلاد على سد التزاماتها الدولية، قائلًا "معظم ما سيتم جمعه في الأجل القصير جدًا سيخصص لسداد خدمة الدين".
وبحسب آخر المعلومات المتاحة من البنك المركزي المصري، عن مارس/ آذار الماضي، فإن القيمة الإجمالية لفوائد الديون الخارجية المستحقة خلال 2023 نحو 4.2 مليار دولار، أي ما يقارب نصف قيمة التمويلات التي أعلن عنها الصندوق في بيانه الأخير.
وتواجه مصر ضغوطًا بشأن سداد ديونها قصيرة الأجل، نظرًا لضعف تدفقات النقد الأجنبي منذ بداية العام في ظل أجواء الحرب الروسية الأوكرانية، واتجاه الولايات المتحدة لمنافسة الدول النامية في جذب رؤوس الأموال عبر رفع الفائدة لديها.
وبحسب بيانات البنك المركزي المصري فإن إجمالي الديون قصيرة الأجل، بلغ حتى مارس الماضي 42.1 مليار دولار.
الحل الثاني لتوفير مصدر تمويل سريع هو السير في مشوار بيع الأصول الحكومية الذي بدأناه العام الراهن
ولا تمثل الديون الخارجية التزامات حكومية فقط، إذ أن الرقم الإجمالي يعبر عن التزامات كل الجهات المصرية الخاصة والعامة، لكن المركزي باعتباره المشرف العام على السياسة النقدية مسؤول عن تدبير الدولارات الكافية لكي تستطيع المؤسسات المختلفة سداد التزاماتها، لذا عندما تمثل الديون قصيرة الأجل نحو 114% من احتياطي النقد الأجنبي يعني ذلك أننا نواجه صعوبات بشأن تدبير العملة الصعبة لسداد ديوننا.
الحل الثاني لتوفير مصدر تمويل سريع هو السير في مشوار بيع الأصول الحكومية الذي بدأناه العام الراهن، من خلال السماح لمستثمرين سعوديين وإماراتيين بالاستحواذ على حصص حكومية في شركات عامة، ويرى الخبير الاقتصادي هاني جنينة أن "ما لا يقل عن 75% من الفجوة المتبقية سيتم سدها من خلال بيع أصول أو طروحات في البورصة أو لمستثمر استراتيجي".
وتستهدف مصر جمع ما يقرب من 6 مليارات دولار من طرح أصول للخصخصة قبل نهاية العام الجاري، عبر الصندوق السيادي، تضاف إلى صفقات مع صناديق سيادية سعودية وإماراتية واستثمارات قطرية مرتقبة أيضا، على الرغم من الانتقادات بشأن انخفاض أسعار تقييمات الأصول المباعة.
هل نستفيد من شهادة الثقة؟
رغم محدودية حجم تمويلات اتفاق الصندوق أمام التزاماتنا الخارجية، لكن عادة ما ينظر لقروض الصندوق باعتبارها شهادة ثقة تعزز من قدرة الدولة على الاقتراض من جهات خاصة بمرونة أكبر وأسعار فائدة أفضل، وكذلك تعزز من قدرة الدولة على جذب الأجانب لأسواق المال لديها.
لذا يرى هاني جنينة أنه بعد اتفاق الصندوق أصبح التحدي أمام البلاد أن "تتمكن من إقناع المستثمرين الأجانب بأننا نسير على خطى واضحة وخطة سليمة لتتمكن من جذب تدفقات دولارية سواء من الشركاء الأجانب ومؤسسات التمويل أو المستثمرين في أدوات الدين".
وعانت مصر خلال العام الجاري من تراجع استثمارات الأجانب في سوق الديون الحكومية قصيرة الأجل، سوق أذون الخزانة، لتصل إلى 132.7 مليار جنيه في أغسطس/ آب الماضي بعد أن كانت نحو 360 مليارًا في يونيو/ حزيران 2021.
كذلك لم تطرح مصر سندات في الأسواق الدولية، يورو بوند، منذ سبتمبر/ أيلول 2021.
ويرى المحللون أن اتفاق الصندوق قد يساهم في تيسير عودة مصر لأسواق الديون الدولية، لكن سيظل أمامها تحدي ارتفاع الفائدة الأمريكية والتي سحبت أنظار المستثمرين.
"نحن نحاول تحسن الصورة تاني لاستعادة الاستثمارات والمستثمرين في أدوات الدين" بحسب ما قاله إلى المنصة، خبير الاستثمار بالشرق الأوسط، علي متولي.
ويرفع الفيدرالي (البنك المركزي الأمريكي) أسعار الفائدة بشكل متوالٍ منذ مارس الماضي، في محاولة لكبح جماح التضخم الذي وصل لمستويات قياسية هي الأعلى منذ 40 عامًا، وهو ما يجعل الاستثمار في الدولار بالدول المتقدمة اكثر أمانًا للمستثمرين من الأسواق الناشئة من مصر.
ويشرح جنينة أن الضغوط المالية على مصر ساهمت في رفع سعر الفائدة على السندات التي تطرحها في الخارج، حيث يعكس سعر الفائدة حجم المخاطر، ومن المتوقع بعد اتفاق الصندوق أن ينخفض سعر الفائدة على السندات المصرية إلى ما بين 7 و9%، مقارنة لما بين 12 و13% في طروحات النسدات الأخيرة "من المتوقع أن نبدأ بطروحات صغيرة في مايو/ أيار أو يونيو 2023 ثم طرح كبير للسندات في النصف الثاني من 2023".
يتوقع المحللون أن يمر سعر صرف الدولار مقابل الجنيه بمرحلة تذبذب خلال الشهرين المقبلين بسبب الطلب المتراكم على العملة الصعبة خلال الشهور الماضية
ويعتبر جنينة أن نجاح مصر في العودة مجددًا لأسواق السندات الدولية سيكون أفضل خطوة تمهد لعودة الأجانب للاستثمار في أذون الخزانة المقومة بالعملة المحلية، وكذلك أسهم البورصة المصرية.
"وأول ما السندات أو اليورو بوندز سعرها يرتفع أكثر، الأجانب سيبدأون في النظر باهتمام أكبر للأصول المقومة بالجنيه المصري ومنها الأسهم"، يضيف جنينة.
وتراجعت استثمارات الأجانب في البورصة المصرية بشكل كبير، منذ بداية هذا العام، ثم اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، فيما سبَّب نزوح الأجانب ضغوطًا بيعية هبطت بأسعار الأسهم بصورة حادة.
ثمن التضحية بالجنيه
لكي يمنحنا الصندوق شهادة الثقة طلب بشكل استباقي أن يترك البنك المركزي سعر الصرف ليكون أكثر مرونة، بحيث يعبر السعر الحقيقي الذي تتداول به الأسواق غير الرسمية الدولار منذ شهور، ومن المنتظر أن يساهم التعويم الأخير في إقناع حائزي الدولار ببيعه للبنوك ومن ثم زيادة احتياطي النقد الأجنبي وتخفيف وطأة الأزمة الحالية.
وفي هذا السياق يقول نافع إن الرهان الحقيقي سيكون على قدرة الإجراءات التصحيحية والنقدية في جذب مزيد من الاستثمارات. وفتح الباب لتحويلات العاملين التي انخفضت نتيجة التردد والانتظار والترقب في تحرير الدولار، هذا من شأنه أن يزيد من الحصيلة الدولارية.
وشهدت تحويلات المصريين العاملين في الخارج تراجعًا خلال الشهور الماضية، وانخفضت في مايو ويونيو على أساس سنوي.
لكن السؤال الأكثر إلحاحًا في الوقت الراهن ما هو السعر الذي سيستقر عنده الدولار ؟
يتوقع المحللون أن سعر صرف الدولار مقابل الجنيه سيمر بمرحلة تذبذب خلال الشهرين المقبلين بسبب الطلب المتراكم على العملة الصعبة خلال الشهور الماضية، خاصة منذ أن قيَّد البنك المركزي الاستيراد بشكل غير رسمي عبر إطالة الإجراءات من خلال فرض نظام الاعتمادات المستندية، الذي يستمر العمل به حتى ديسمبر/ كانون الأول المقبل.
ولم يستطع الخبراء تقديم توقعات قاطعة بشأن سعر الصرف، إذ يقول نافع إن السعر العادل هو ما استقرت عليه الأسواق خلال الخميس الماضي "وفقا للمؤشر الأكثر إقناعًا بالنسبة لي وهو سعر الصرف الحقيقي الذي حسبه بنك أوف أمريكا من شهرين، وكان يتوقع أن السعر العادل للدولار 23 جنيهًا".
لكن جنينة يرى أن ذلك لا ينفي إمكانية صعوده بشكل أكبر، بسبب تعطش الأسواق للعملة الصعبة "يرتفع سعر الدولار إلى 25 جنيهًا خلال الأسبوع الحالي، ومن الممكن أن يتدخل البنك المركزي، بالحد الأدنى المسموح وفقًا للاتفاق مع الصندوق، لدعم الجنيه في حال كسر 25 جنيهًا في اتجاه صاعد، دون الإضرار بالاحتياطي".
وقال جنينة "السعر العادل يعتمد على فوارق التضخم. أعتقد أن نوفمبر/ تشرين الثاني سيكون شهرًا صعبًا، وحتى بدء تدفق الدولار في ديسمبر (أي مع بدء وصول شريحة من قرض الصندوق أو التمويلات الأخرى)، قد يلجأ المركزي لرفع الفائدة مرة أخرى دون التقيد بوقت الاجتماعات، مع إمكانية طرح شهادة جديدة ربما بعائد 20%" مشيرًا إلى أن المركزي سيكون لديه زخيرة يستخدمها لمواجهة الدولرة دون إهدار الاحتياطي.