درجَ المصريون على تسمية محافظة دمياط بـ " بلد المشبك"، بالنظر إلى اشتهارها بصناعات الحلوى التقليدية التي لا تزال تجد لنفسها مكانًا في منافذ البيع، خاصة تلك التي تنتشر في المصايف القديمة بالإسكندرية ورأس البر.
لكن أرباب هذه المهنة القديمة يعيشون حاليًا أزمة استثنائية لم يشهدوها من قبل، ترتبط بارتفاع أسعار مكونات الإنتاج بسبب أزمة الدولار، ما دفعهم للحد من الإنتاج، بل وتسريح العمالة في بعض الحالات.
ويتفاخر أرباب هذه الصناعة بقصة الكفاح الطويلة التي بدأت منذ أربعينيات القرن الماضي، وكيف كانت بدايات جيل الأجداد تتسم ببساطة الحال، مثل الجد الأكبر لمحلات السيد بلبول الذي بدأ من معمل صغير لصناعة الحلوى بالمنزل، ثم اقتنى عربة لبيع حلويات للمارة كـ "البسبوسة والهريسة والبسيمة واللديدة"، وكانت تلك العربة هي النواة لعلامته التجارية ذائعة الصيت في الوقت الراهن.
وتتشابه قصة بلبول مع غيرها، "بدأنا من معمل صغير لتصنيع الحلوى بشارع النقراشي وأطلقنا عليه محل 'ركن النيل'، حيث امتازت دمياط في ذلك التوقيت بغرقها بالمياه بسبب الفيضان، وأصبح هذا فرعنا الرئيسي ثم توسعنا بمرور السنوات لنفتتح محلات ومصنع، وانتشرت فروعنا في محافظات دمياط وبورسعيد والدقهلية"، كما يروي محمد الجمل، رئيس مجلس إدارة مصانع الجمل للحلويات، قصته للمنصة.
خسائر الحلوى من وراء الدولار
"توقفنا عن إنتاج نحو 25% من منتجاتنا لعدم تمكننا من استيراد الكثير من المدخلات خاصة وأن 80% منها مستورد من الخارج. هناك خامات ارتفعت أسعارها بنحو 300%"، كما يقول الجمل.
ويقدم أمثلة عن الخامات التي بات من الصعب توفيرها "بعض أصناف المكسرات والحشوات لم تعد متوفرة في الأسواق، وعلاوة على ذلك فبعض أنواع الزيوت المستخدمة في التصنيع باتت نادرة، بخلاف الارتفاعات المتتالية في أسعارها إلى جانب الكريمات النباتية والحيوانية والسمن الفرنساوي والنيوزيلندي الذي يعد المفضل لدينا في التصنيع، لم يسلم أيضًا من الارتفاع، كما أن تلك الخامات أصبح الحصول عليها معقدًا للغاية".
وتعاني مصر من تراجع حاد في احتياطاتها من النقد الأجنبي منذ مارس/ آذار الماضي، بسبب تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية وسياسات الفائدة في الولايات المتحدة، ودفع شح الدولار البنك المركزي إلى تضييق الخناق على عمليات الاستيراد، عبر فرض نظام الاعتمادات المستندية، ومع تعويم الجنيه في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي تحدث البنك المركزي عن اتجاهه لإلغاء الاعتمادات المستندية تدريجيًا، لكن العديد من التجار يقولون إنهم لا يزالون يواجهون مصاعب في الاستيراد.
بجانب مشكلة نقص مدخلات الإنتاج، فإن منتجي الحلوى التقليدية باتوا أكثر حرصًا على حساب الجدوى الاقتصادية قبل طرح المنتجات بالأسواق، لما يلمسوه من ضعف الإقبال على الشراء مع عدم قدرة المستهلكين على تحمل زيادات الأسعار التي أعقبت التعويم الأخير.
تقول عزيزة بلبول، وهي شريكة بمصانع جلال بلبول في دمياط، للمنصة إنه رغم عدم توقفهم عن تصنيع أي صنف بسبب أزمة الدولار، فإنهم خفضوا إنتاجهم من كافة الأصناف، تزامنًا مع الزيادة في أسعار الخامات المستخدمة في الصناعة كالمكسرات والزيوت و السمن.
وساهم تعويم الجنيه في أكتوبر في رفع معدلات التضخم السنوي في مصر منذ 2017، وقت أن تأثرت الأسعار بانخفاض قوي للجنيه أمام الدولار. وبحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، بلغ تضخم أسعار المستهلكين في المدن المصرية 18.7% في نوفمبر/ تشرين الثاني هذا العام، مقابل 16.2% في أكتوبر من العام نفسه.
ويقول الجمل إن الإقبال على شراء منتجاتهم تراجع خلال الأشهر الستة الماضية بمعدلات تتراوح بين 18 و20%. بينما تقدِّر بلبول أن مبيعاتها هذا العام تقل بنحو 50% عن العام السابق.
تراجع فرص العمل
ساهم خفض الإنتاج وتراجع المبيعات لدفع منتجي الحلوى التقليدية إلى خفض عدد ورديات العمل، ما أدى للحد من فرص العمل في هذا المجال الذي كان باب رزق لكثيرين من سكان دمياط.
يقول الجمل "توقفنا قبل شهرين عن تعيين عمالة جديدة في محلاتنا أو مصنعنا، إلا أننا لم نستغنِ عن أي من الطاقم الموجود".
بينما تقول بلبول "اضطررنا للاستغناء عن نحو 50% من العمالة والاكتفاء فحسب بالعمالة الأساسية، كما تراجعنا عن افتتاح فرع في القاهرة".
في المقابل، يرى نائب رئيس شعبة مستوردي الياميش والمكسرات بالغرفة التجارية بالقاهرة إبراهيم العوام، أن وصف منتجي الحلوى للوضع الراهن به قدر من المبالغة، حيث يؤكد على توفر كافة المدخلات من مكسرات وزيوت وسمن، ويرى أن الدافع وراء هذه المبالغة هو محاولة الضغط على الدولة لتوفير قدر أكبر من العملة الصعبة لاستيراد "سلع استفزازية" كالمكسرات.
"الدولة أولى بالعملة الصعبة لاستيراد السلع التي تهم قطاعًا كبيرًا من المواطنين، والتي لا غنى عنها لحياتهم" كما يقول العوام، ويضيف "لم يتأخر أي بنك عن إنهاء إجراءات أي مستورد، كما أن الجمارك تفرج عن السلع المستوردة أولًا بأول".
ويقدّر العوام أن أسعار المكسرات والزيوت والسمن لم ترتفع بعد التعويم الأخير للجنيه بأكثر من 70%، وهي الزيادة التي يراها طبيعية، تتسق مع سعر الدولار الحالي في السوق الموازية، والذي يقدره بـ 32 جنيهًا، وقت سؤاله.
وعن عدم توفر السمن نفى العوام، وهو وكيل لمنتج سمن شهير في مصر، صحة ما ردده أصحاب المصنعَين قائلًا "السمن والمكسرات متوفرة ومش لاقية اللي ياخدها" على حد تعبيره.
أيًا كانت الرواية الأكثر دقة، فالمؤكد أن صناعات الحلوى التقليدية تعيش تحت ضغوط مثل العديد من القطاعات التصنيعية التي تعاني من استمرار نقص مدخلات الإنتاج، وسينكشف بمرور الوقت طبيعة الحجم الحقيقي للأزمة ومدى تأثيرها على أنشطة تساهم في تشغيل قطاعات واسعة من العمالة.