ارتفاع الأسعار يُهدر سلة الغذاء الصحية للأطفال

لسلمى الطفلة ذات الـ14 سنة جسد هزيل، يخونها أحيانًا فيغشى عليها في الطرقات. لا ترى أمها منى جمال التي تعمل بائعة في المترو، أن حالة ابنتها تحتاج إلى طبيب، شخصتها هي قائلة "بتنزل أحيانًا مدرستها من غير فطار أو بتأكل شوية إندومي أو بطاطس".

حضور الإندومي في إفطار الطفلة "مش دلع" كما تقول منى للمنصة، لكنه واقع تغذية الأسرة المكونة من خمس فتيات سلمى أكبرهن، وأب وأم، مع الغلاء.

تقول الأم "الأسعار بتغلى لدرجة إننا مش عارفين ناكل، اللحمة ما عملنهاش من شهور إلا مرة واحدة لما جاتلنا حتة في العيد الكبير، أما العادي فبقى أكلنا شوية بطاطس أو إندومي أو مسقعة وعدس". وليست اللحمة فقط التي انقطعت عن البيت، فوراءها غادر البيض واللبن "عشان أأكل الخمسة بيض محتاجة كرتونة".

وإذا كانت سلمى تعاني الهزال فشقيقاتها أقل حظًا، إذ بُنيت أجسادهن في سنوات الطفولة المبكرة المهمة دون ألبان أو لحوم أو بيض. وربما لذلك دور في "المناعة الوحشة لليلى"ذات الأربع سنوات والتي "تسخن من أقل حاجة"، بحسب الأم.

ونقص غذاء سلمى وشقيقاتها ليس حصرًا عليهن لكثرة عددهن؛ فمثلهن تأثر طعام عمر ذي الثمانية أعوام، الطفل الوحيد لأبويه. تفيد والدته نهلة عبد المنعم، وهي صحفية "من فترة قررت إني مش هخلف تاني عشان أعرف أعيش ابني كويس. النهاردة أنا حتى الطفل الواحد بلاقي صعوبة في تغذيته، أنا مخلفتش كتير عشان تقولي عملتي كده في نفسك".

جيل مهدد

وبين استقبال منى خسارة بناتها "لكل حاجة لا أكل ولا صحة ولا لبس" بضحكة ساخرة، واضطرار نهلة لاستبدال أصناف نباتية الدهن بالجبن الطبيعي على وقع زيادة الأسعار، تأتي تحذيرات منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف" من ارتفاع معدلات سوء التغذية بين أطفال مصر بفعل الأسعار والحرب الروسية الأوكرانية.

وأفاد برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة في يوليو/ تموز الماضي، بأن 21.4% من الأطفال بين عمر 6 أشهر و5 أعوام في مصر يعانون من سوء تغذية مزمن. وتعرف منظمة الصحة العالمية سوء التغذية بأنه عدم التوازن سواء بالنقص أو الزيادة في مدخول الطاقة، فيؤدي إلى هزال أو تقزم أو أنيميا أو سمنة.

من واقع عمله، أيّد أستاذ طب الأطفال وحديثي الولادة بمستشفى أبو الريش قصر العيني تامر عبد الحميد، تحذيرات يونيسيف، قائلًا للمنصة  "كل المعطيات تؤكد أننا في انتظار اتساع أمراض سوء التغذية بين الأطفال".

 ويعتقد عبد الحميد أن التقصير في تغذية الطفل بفعل الأسعار يبدأ من مرحلة الحمل "اللي بقت مكلفة جدًا مع الغلاء"، وحتى المتابعة الشهرية للطفل بعد الولادة، انتقالًا إلى مرحلة تناوله الطعام بعد الشهر السادس، والتي تحتاج إلى تنوع في الأكل.

وشدد الطبيب المتخصص على أن التنوع والكفاءة في الطعام بتوفر العناصر الغذائية فيه، ضروريان من عمر عام وحتى ثلاثة أعوام كونها مرحلة لا تعوض "يُبنى فيها الجسد ويكتسب المهارات"، على حد وصفه.

ضرورة تصبح رفاهية 

وتنوع الغذاء وكفاءته يمثلان لمنى رفاهية لا تملكها، فهي من حزب "الأكل لسد الجوع". لذا كلما ارتفعت الأسعار قل اهتمامها بتنويع الأصناف أو التفكير في عناصرها، "شوية مكرونة بقوطة يقضوا الغرض".

فيما تشترط أستاذة التغذية التطبيقية بالمركز القومي للبحوث نهاد حسن، في حديثها للمنصة، وجود بروتين ونشويات وخضراوات وفاكهة لاعتبار الوجبة متكاملة.

وتعد تلك الوجبة المتكاملة أملًا صعبًا ليس لدى بائعة المترو وحدها، بل بالنسبة لأسر كثيرة برواتبها "التعبانة" كما وصفها الرئيس في الجلسة الختامية للمؤتمر الاقتصادي في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، بالإضافة إلى الزيادات المتواصلة في الأسعار، مع فقدان الجنيه نحو 40% من قيمته خلال الشهرين الماضيين.

سلة غذاء

ولصورة أكثر قربًا عن سوء التغذية التي تهدد الأطفال في مصر، صممنا سلة غذاء تضم ما يحتاجه جسد الطفل في كل مرحلة، بالاستعانة بالجداول الإرشادية للتغذية اليومية للطفل التي نشرتها وزارة الصحة ضمن كتيب دليل الغذاء الصحي للأسرة المصرية، وحسبنا أرقامًا تقريبية للتكلفة المتوقعة في اليوم الواحد ومنها في الشهر، علمًا بأنها تعبر عن الحد الأدنى، إذ فصلت جداول الغذاء ثلاثة مستويات من التغذية، منخفضة التكلفة، ومتوسطة، وعالية، فاكتفينا بالمنخفضة. 

 

تغذية الحامل

تعد الحامل ضمن "الفئات الحساسة" التي تحتاج إلى عناية خاصة في التغذية، بحسب كتاب الغذاء والتغذية الصادر عن منظمة الصحة العالمية، الذي قال إنها تحتاج إلى زيادة كميات الأكل بداية من الشهر الرابع بمقدار "السدس من مصادر الطاقة، والثلث من البروتينات، والثلثين من الفيتامينات والأملاح المعدنية".

 تتكلف وجبة الإفطار بأسعار النصف الثاني من سبتمبر/ أيلول الماضي، 250 جنيهًا شهريًا، حين كان سعر الدولار دون الـ20 جنيهًا، أما وجبة الغداء فتتكلف هذه الوجبة للمرة الواحدة نحو 44 جنيهًا منها 34 جنيهًا للحم وحده، ما يعني أنها في الشهر ستحتاج إلى 1300 جنيه لبند الغداء فقط، وتتكلف وجبة العشاء الموصى بها، نحو 120 جنيهًا في الشهر. أما بند بين الوجبات فيتكلف نحو 240 جنيهًا شهريًا.

ووفقًا لذلك، فإن سلة غذاء الحامل في الشهر تبلغ نحو 1900 جنيه تقريبًا. هذا بخلاف الفيتامينات التي ينصح بتناولها بداية من الشهر الرابع وتستمر مع الأم طوال فترة الرضاعة، فضلًا عن التحاليل الدورية التي تجريها الأم، والمتابعة الدورية التي تستدعي زيارة الطبيب مرتين شهريًا.

تجد رانيا وهي شابة في العشرينيات، حامل بالشهر السادس، صعوبة في تغطية كل هذه البنود. تقول للمنصة " كان المفروض أجيب الفيتامينات النهاردة بس هأجلها لحد ما أدفع درس ابني وإيجار البيت والكهرباء والميَّة".

والفيتامينات في حالة رانيا التي تعاني جسدًا هزيلًا ونسبة أنيميا كبيرة (8 في حين المعدل الطبيعي 12)، ليست رفاهية. توضح "الدكتورة قالتلي في طلق مبكر ممكن يولدني في السابع"، مضيفة "نصحتني بالراحة والالتزام ببرنامج غذائي يعالج الأنيميا".

 تنفق رانيا على الفيتامينات شهريًا 340 جنيهًا، "هيزيدوا مع الشهر السابع عشان هعمل تحاليل استعدادًا للولادة".

وعلى مستوى الغذاء تؤكد رانيا التي تعمل مشرفة حضانة وزوجها يعمل في جراج، إنها شعرت بغلاء الأسعار لكنها لم تعاني بسببها، وتفسر "نفسي اتسدت عن اللحمة والفراخ في الحمل"،فيما تفخر  بقدرتها حتى اليوم على توفير اللبن والبيض لها ولأبنها، متابعة "المائة جنيه مابقتش تكفي اليوم". تمامًا مثل منى بائعة المترو التي تحتاج لأكثر من مائة جنيه يوميًا لتكفي فطار وغداء وعشاء خمسة من الأطفال.

 الطفولة المبكرة

بالنسبة لمنى التي تتكون سلة الغذاء في منزلها من "الإندومي والبطاطس والمكرونة، ولا تعرف اللحمة"، فأطفالها لا يقتربون من السلة النموذجية، بما فيهم تمارة ذات السنة وثلاثة أشهر.

يتكلف الفطار نحو 90 جنيهًا في الشهرة والغداء 200 جنيهًا، أما العشاء 90 جنيهًا بأسعار سبتمبر، أما ما "قبل النوم" فيتكلف 75 جنيهًا شهريًا، ومما سبق نجد أن سلة غذاء تمارة وغيرها من الأطفال في تلك الفئة، تتكلف في الشهر على أقل تقدير نحو 450 جنيهًا.

لا تتناول تمارة البيض بشكل منتظم ولا اللبن ولا الخضار. كل ذلك لا يكون خطرًا طالما استمد الطفل غذاءه من الرضاعة، إلا أن حظ تمارة السيئ حرمها ثدي أمها من يومها الأول، فعرفت الطريق إلى لبن الصحة "قليل الجودة" بحسب طبيب الأطفال عبد الحميد.

ليس ذلك فقط بل مع الشهر السادس لتمارة قررت الأم وقف اللبن الصناعي "قولت كفاية عليها لبن، تأكل من أكل أخواتها".  رغم ذلك تصف منى صحة نجلتها بأنها "حلوة"، دليلها هنا "جسمها المليان". وككثيرين تعتبر منى أن الوزن الزائد صحة لا سمنة.

نشاط أكبر

في شريحة عمرية أكبر، تزداد حاجة الطفل إلى الطعام، بزيادة نشاطه. وكمثال عليها اخترنا فترة من سبعة إلى تسعة أعوام. 

يوزع دليل إرشاد الصحة وجبات الطفل في هذا العمر بين خمسة بنود. يتكلف الإفطار شهريًا أكثر من 200 جنيه، وعصير ما بين الوجبات 90 جنيهًا، ثم يأتي وقت الغداء بتكلفة نحو 30 جنيهًا للوجبة الواحدة، أي 900 جنيه في الشهر. أما العشاء فيتكلف 90 جنيهًا في الشهر، وزبادي ما قبل النوم 180 جنيهًا للشهر، وبذلك تكون التكلفة الكلية لسلة الغذاء الصحية أكثر من 1400 جنيه شهريًا.

هذا عن الغذاء وحده دون التطرق إلى بنود الملابس والمصاريف الدراسية التي قد تحتاج إلى مبلغ يساوى التغذية بواقع حوالي 3000 جنيه للطفل.

ويشار إلى أن الحد الأدنى للأجور بلغ في آخر تحديث له 3000 جنيه. ويعني ذلك أن الأسر التي تعيش عند الحد الأدنى ولديها طفل واحد في السابعة أو أكبر "مجبرة على التقصير في احتياجاته كي تتمكن من سداد مصاريف السكن والتنقل وغذاء الوالدين الذين للمفاجأة بشر يحتاجون لغذاء"، بحسب نهلة التي كانت تسخر من اضطرارها للتقصير في غذائها لصالح غذاء عمر، بسبب ارتفاع الأسعار.

التقصير في تغذيتها أسوأ الحيل التي لجأت إليها نهلة، قبلها "كنت بعمل حاجات بيتي، أو أقلل الكميات أو أدور على بدائل نباتية رخيصة". ولأنها على يقين بأن الصرف على الغذاء يوفر "فلوس العلاج"، تعتبر نهلة بعض البنود خطًا أحمرَ لا يمكن المساس به، مثل "اللبن والبيض والفاكهة".

تستمر نهلة في حيلها وتستمر الأسعار في الارتفاع، وكل هذا كان مقبولًا لديها "طول ما عمر بيفتح التلاجة ويلاقي فيها أكل كافي ومفيد".

استراتيجية للتغذية 

وليست نهلة وحدها المهتمة بملف التغذية، فالدولة تتبنى خطابًا رسميًا يحمل الشعار نفسه، لكن الممارسة مع واقع الأسعار تعكس فجوة.

في مطلع سبتمبر/ أيلول الماضي أعلنت وزارة الصحة "الاستراتيجية الوطنية للغذاء والتغذية 2022-2030" استجابة لخطة التنمية المستدامة 2030 التي أطلقتها الأمم المتحدة في 2015. وفق الاستراتيجية يفترض أن تكون الدولة ألزمت نفسها بتوفير الطعام الصحي للمواطنين بحلول 2030، فيما هي تتبنى سياسات رفع الدعم في ظل نسبة فقر تبلغ 29.7% من السكان.

لم تحدد الجهات القائمة على الاستراتيجية آلية لتنفيذها. وعلمت المنصة من مصدر في المعهد القومي للتغذية، طلب عدم ذكر اسمه، أن وزارة الصحة وجهت بمنع التحدث للإعلام حول الاستراتيجية الجديدة.

وإلى جانب الاستراتيجية التي تبدو كحبر على ورق، سبق للدولة أن أطلقت حملة "اعتني بالطفل" للكشف على أمراض سوء التغذية عند الاطفال في العام 2018 وإعادة تفعيل توزيع الوجبة المدرسية، وذلك عقب أحاديث متتابعة للرئيس ينتقد فيها سمنة الأطفال. 

الوجبة المدرسية 

توزع الوجبة المدرسية بانتظام، وهي تتكون من البسكويت فقط، أي لا تضم أيًا من العناصر الأخرى التي تنصح بها وزارة الصحة لتغذية جيدة، مثل البيض أو الجبن وهكذا. 

ورغم أنها غير كافية، يعتقد كل من الدكتور تامر عبد الحميد، وضحى عبده، رئيسة قسم التغذية بالمركز القومي للبحوث، أن العديد من الأسر سيزيد اعتمادها على الوجبة المدرسية بعد الغلاء. 

ومن بين هؤلاء عائلة الشابة أسماء التي تنحدر من بني سويف وتعيش في مدينة 6 أكتوبر حيث يعمل الزوج بوظيفتين لتحمل أعباء الحياة. لأسماء وزوجها جسدين هزيلين ورثه عنهما طفلهما يوسف، 8 سنوات، والذي يبدو في عمر الرابعة على الأكثر.

أمام بوابات المعهد القومي للتغذية تحدثت أسماء للمنصة عن العبء الذي تحملته عندما ألزمها أطباء المعهد ببرنامج غذائي لعلاج تقزم يوسف. تقول "وصوني بالخضار والفاكهة واللبن والفراخ أو اللحمة كل يوم، مش ممكن ألتزم بكل دا"، وأضافت "هضطر أغذي يوسف لوحده، ووجبة المدرسة هتساعد".

لا تختلف أسماء عن منى عن نهلة عن كثيرات يخضن كل يوم مواجهات مع ارتفاع الأسعار. وكلما سقطت واحدة منهن أمام الغلاء، فقد طفل جديد فرصة في جسد معافي. كل لها صعوباتها، وإن كانت معركة منى هي الأصعب، فيما لا تملك إلا مواصلة تجوالها بين عربات مترو الأنفاق نهار كل يوم، سعيًا خلف مئة أو مئتي جنيه، لتضمن لبناتها ما تبقى من الطعام.