سكرينشوت
مشهد من فيلم "فلسطيني على الطريق"، إخراج إسماعيل الهباش (2025)

"فلسطيني على الطريق" إلى آلام المسيح

منشور الأربعاء 26 تشرين الثاني/نوفمبر 2025

في مهرجان القاهرة السينمائي، وفي غيره من المهرجانات الأجنبية، يؤكد المخرجون الفلسطينيون وفاءهم لسلالة "الجبارين". في أسوأ الظروف السياسية والأمنية والإنتاجية يستطيعون أن "يغزلوا بِرجل حمار".

يُبدعون أفلامًا تُخلِص للشرط الإنساني، تتفادى الصراخ والاستغاثات واستجداء التعاطف. وإذا كان الفيلم يُنسب إلى جهة الإنتاج، فقد انتزعوا اعترافًا دوليًّا بالفيلم الفلسطيني، أيًّا كانت دولة الإنتاج أو جنسية مخرجه الفلسطيني، يتساوى في ذلك مخرج غزاوي ممنوع من زيارة القدس، وآخر آمن تحميه جنسية أوروبية، وثالث يخضع لإكراهات العدو في الداخل الفلسطيني المحتل منذ عام 1948.

لا فرق بين محمد بكري ورشيد مشهراوي والأخوين ناصر وإيليا سليمان وهاني أبو أسعد وشيرين دعيبس وآن ماري جاسر ونجوى نجار وعامر شوملي.

انتزاع حق الاعتراف بالفيلم الفلسطيني من بين أنياب إدارات المهرجانات الدولية تطلّب مثابرةً وإصرارًا، وأحيانًا اقتداء بقول جاليليو "ولكنها تدور"، حين اضطر إلى الإذعان لسطوة سلطة تنكر دوران الأرض حول الشمس، وترى في الحقيقة العلمية جريمة. آمن بالمستقبل، بإنصاف الزمن، ولم يهتز يقينه بأنها "تدور". هكذا أيقن المخرجون الفلسطينيون، وقاوموا الشعور بمرارة انتساب أفلامهم إلى هذه الدولة أو تلك، ورددوا في أنفسهم "ولو، لكنها تدور". دارت بالفعل، وصار للفيلم الفلسطيني حضوره السابق على الاعتراف الكامل بالدولة. فلسطين أيضًا حقيقة، ولو تأخر استخراج شهادة الميلاد.

على درب آلام المسيح

لفلسطين حضور خاص في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي. وفي الدورة السادسة والأربعين هذا الشهر، تأكَّد هذا الحضور في الأقسام المختلفة، بأعمال فلسطينية بعضها لغير الفلسطينيين. وقد تنافس الفلسطينيون بتجارب ثرية، روائية ووثائقية، توّجت بجوائز: فيلم الأخوين طرزان وعرب ناصر كان ياما كان في غزة حصد ثلاث جوائز، هي الهرم الفضي لأفضل مخرج، وأفضل ممثل لبطله مجد عيد، وأفضل فيلم عربي طويل. وفي مسابقة أسبوع النقاد الدولية فاز فيلم "حبيبي حسين" لأليكس بكري بجائزة أفضل فيلم. وذهبت جائزة الجمهور إلى فيلم ضايل عِنا عرض، إخراج مي سعد وأحمد الدنف.

يذهب فيلم "فلسطيني على الطريق" إلى أن المسيح لو عاد الآن فسيكون أول الثائرين

بعيدًا عن المسابقات، عُرَض في البانوراما الدولية فيلم "فلسطيني على الطريق" لإسماعيل الهباش الذي تقصى أثر المسيح، في طريقه من الناصرة إلى القدس، مهتديًا بعنوان كتاب فلسطيني على الطريق.. من الناصرة إلى بيت لحم لسلمان ناطور.

الفيلم، كما قال الهباش، رحلة للتعافي. لكنه للمشاهدين رحلة جديدة لآلام الشعب الفلسطيني. لم يعد المسيح وحده هو النبي الشهيد. المسيح الآن هو كل فلسطيني يُقاسي تجربة الحواجز العسكرية، كل شهيد ومشروع شهيد. الفلسطيني الآن مسيح مصلوب يوميًّا على خشبة الاحتلال. درب المسيح يعانيه الفلسطيني المحروم من حرية السفر في بلاده. درب المسيح اليوم أكثر طولًا، والشعب يتقاسم أنصبةً من الآلام.

يبدأ الفيلم بالخاص، ولا يلبث أن يتورط في العام. أراد إسماعيل الهباش مرافقة زوجته "سلام" إلى القدس للعلاج، ولم يحصل على التصريح. ماتت الزوجة المريضة بالسرطان، ثم جاءه تصريح بالدخول. في الفيلم يخاطب زوجته الراحلة، ويستحضر روحها في الرحلة، ويبحث عن بيت أهلها، فلا يجد بيتًا ولا أهلًا. تفرقوا وتغيرت ملامح المكان.

ينطلق الفيلم من "أنا" المخرج، وينخرط في "نحن" الشعب. لا يميل إلى الوعظ بالتعليق الصوتي، بل يُدخلنا تجربة بصرية بحمولات روحية تشمل تحولات وأساطير وأماكن محيت معالمها، كما يحتفل بفنون المقاومة التي تعنى بالذاكرة. يذهب إلى مسرح بمدينة جنين كان من رواده منذ أكثر من عشرين سنة. أحد رفاقه اغتاله الاحتلال. رفيق آخر قضى سنوات في السجون، ثم خرج. يريدون تجديد المسرح، وقد اقتُطع من أرضه جزء خصص لمقابر الشهداء. الساحة الخلفية حديقة تنبت فيها شواهد القبور. صارت شواهد قبور الشهداء شهودًا.

في هذا الدرب الطويل، من الناصرة إلى جنين ونابلس وبيت لحم وغيرها من البلدات الفلسطينية، وانتهاء بالقدس، يتساءل الهباش: ماذا لو عاد المسيح اليوم وقطع الرحلة نفسها، وصولًا إلى طريق الآلام؟ كيف يتصرف معه الصهاينة المجلوبون من شرق الأرض وغربها؟

العدو أدنى من أن تعنى به كاميرا تراه شبحًا، مضادًّا لحركة التاريخ

رمزية المسيح يُجسدها يقينه وإيمانه في مواجهة الرومان. كان ثائرًا مسالمًا. والمشهد اليوم مأساوي، تقسّم فيه البلاد بالحديد والنار والجدار العازل، وتفرض الرقابة على الشعب بأحدث وسائل التكنولوجيا. يذهب الفيلم إلى أن المسيح لو عاد الآن، فسيكون أول الثائرين.

"فلسطيني على الطريق" ينتمي إلى أفلام الطريق. وتتيح طبيعته الوثائقية الاستجابة المرنة لمتغيرات الرحلة ومصادفات الطريق. في استراحة لتقديم المشروبات تتكلم عاملة صبية عن المقاومة، ولو بالكلام باللغة العربية. أطفال يتدربون على الغناء. يتحدَّون الجدار العازل بشعارات تؤكد بقاء فلسطين، وغير ذلك من عناصر تلقائية حيوية لا يثقلها المخرج بمشاهد لم يصورها بنفسها، مهما تكن قوة تأثيرها، مثل سياحة جرافات العدو في الضفة الغربية، بعد السابع من أكتوبر، وإزالتها معالم ميادين تحمل أسماء الشهداء، وتدمير نصب ياسر عرفات في مدينة طولكرم مثلًا. سخافة الانتقام والمكايدة بلغت سقفًا هزليًّا، بتجريف أسفلت الشوارع.

وحشية الصهيونية الناعمة

في هذه الرحلة الصعبة، استغنى المخرج عن مشاهد الاجتياحات المستمرة، لعله صورها ثم قرر إهمالها، كما تجاهل بذكاء تصوير العدو. في كل خطوة توجد آثار عدو مسلّح، مثل كهرباء عالية الفولت تصعق ولا تُرى. العدو أدنى من أن تعنى به كاميرا تراه شبحًا، مضادًّا لحركة التاريخ. سيزول باستغناء منشئيه وداعميه عن خدماته. سوف يستبدلون به كيانًا وظيفيًّا أقل تكلفة وإزعاجًا وعبئًا أخلاقيًّا يدّعون التجمل به. وجه واحد من وجوه العدو يظهر في نهاية الفيلم. وجه تجتمع فيه ثلاث صفات تؤهله، نظريًّا، لأن يتّسم بحدٍّ أدنى من الآدمية، فيأبي إلا الإخلاص لصهيونيته. هي امرأة عجوز يسارية. ما تؤمن به ينسف أوهام مثقفين عرب يراهنون على اليسار الإسرائيلي.

أمام أحد البيوت، يقف الهباش مع الكاتبة الفلسطينية نسب أديب، التي جاءت إلى القدس منذ سنوات، فوقعت في هواها ولم تغادرها. يتردد المخرج في خوض تجربة الدخول ولا يضمن النتائج. يريد أن يطرق الباب ويتمنى ألا يفتح له أحد؛ فكل باب مفتوح على جرح تاريخي.

ترحب بهما العجوز التي تتكلم الإنجليزية، وتشرح الطراز المعماري للبيت. كدتُ أقول "لبيتها". هو ليس بيتها، وهي مقيمة، عابرة. وعن هذه القضية سألتها نسب أديب: ماذا تفعل حين يرجع أصحاب البيت الأصليون ويطالبون به؟ لا تنفعل المرأة، تتمتع بقدرات خبيرة دبلوماسية على المراوغة، وتجيب عن السؤال بمثال، بشرح تاريخي تكسوه منطقًا. أصلها تشيكي، وبعد الاجتياح النازي غادروا إلى فلسطين. كان لأهلها بيت في مدينة براغ. فهل يمكنها بعد هذه العقود أن ترجع وتطالب ساكني البيت باستعادته؟ لا تترك للضيفين الواقفين فرصة للإجابة، وتضيف أن "بيتها" رائع، بموقعه وتصميمه، وأنها لا تتنازل عنه.

يخرج الهباش من البيت مُحبطًا، وكذلك نسب أديب التي قرأت مفردات وتفاصيل منها صحيفة هآرتس، وغيرها من إشارات دالة على الانتماء اليساري للعجوز. لا اختلاف بين الإسرائيلي اليميني واليساري، كلهم صهاينة. تقول للمخرج إن المرأة متصالحة تمامًا مع نفسها، لا تشعر بأي تأنيب للضمير، لا تؤلمها مأساة الضحايا الفلسطينيين. الاختلاف الوحيد بين اليمين واليسار، الذي لا يعوّل عليه، أن رموز التيار الأخير يتبنَّون "الصهيونية الناعمة".

تجميل الصهيونية لا ينزع سمومها.