الأمومة هي قدس الأقداس. السر المستعصي على فهم امرأة حتى تجربه. وكما العذراوات في الكهف اللاتي يتداولن الكأس التي سيشربن منها يومًا ما، تنتظر كل امرأة أن يأتي دورها. ولهذا تتحطم معظم النسوة عندما يعبرهن قطار الأمومة فيشعرن باﻹقصاء والوحدة، كأنما هناك ذلك النادي الخصوصي الذي تتحصل المرأة على عضويته السرية بصعوبة وتشعر بالنبذ إذا تحدثت أمامها صديقاتها عن مميزات العضوية (أو عيوبها) بينما لا تجد هي ما تقوله في هذا الشأن.
في نادي الأمهات كنت أنا الطفلة الوحيدة. تتكلم صديقاتي عن الرضاعة فأتكلم عن كوب النسكافيه الصباحي الذي تعده لي أمي. تشرح صديقة كيف تقيأ ابنها فلوّث ملابسها والأثاث فلا أجد ما أقول سوى ما سمعت وقرأت عن نظريات التربية الحديثة. تنظر لي جماعة النسوة كأنني قادمة من كوكب آخر وتتنهد إحداهن بدراماتيكية وهي تخبرني "أنتِ لا تعرفي صعوبة أن تكوني أمًا".
الأمومة في أفلام الرعب
في أفلام الرعب كان المتنفس. أمهات كثيرات شريرات ومتحكمات، حتى في طريقتهن لحب أبنائهن لسن كاملات بأي شكل من الأشكال. في كثير من تلك الأفلام تكون الأمهات قاسيات أو عنيفات دون محاولة لتجميل هذا، فتعنيفها للوحش، البطل الرئيسي والخصم في آن واحد، هو الذي يجعل منه قاتلًا منزوع الرحمة، ففي أفلام مثل كاري وسايكو تدفع الأم طفلها للهاوية، وتتسبب في جنونه بشخصيتها المتسلّطة ووازعها الديني السلطوي، وفي فيلم Friday the 13th تخلق الأم وحشًا صغيرًا بحمايتها المستمرة له من العالم الخارجي، واستغلالها مرضه لتتحكم في جميع تفاصيل حياته، بحجة حمايته من الاندماج في المجتمع الذي سيقسو عليه أكثر من وجهة نظرها.
في تلك اﻷفلام يمكنك أن تجد هذه الأم العصابية الخائفة الكئيبة، التي لم تأخذ من الأمومة ما يصبغ عليها شكلًا ملائكيًا أو قدسية تمنعك من المساس بكيانها الفطري الهش.
في أفلام الرعب، كانت أمهاتي المفضلات من بين أمهات السينما.
Mama.. رعب الفقدان
كما تطيح أفلام الرعب بالثوابت وتدمر جميع القيم والمعاني التنظيرية الراديكالية، فلا شيء كامل أو مقدس أو جميل أو معصوم من النقد والاستهزاء، تظهر الأم في كثير منها كرمز، يتمدد فيه الجانب المظلم حتى يبتلع كل شيء في طريقه؛ لا تتصرف الأم كما ينبغي ولا تحب أطفالها كما تملي عليها الطبيعة.
في فيلم Mama الأمريكي الذي عُرض عام 2013، تأتي الأمومة على هيئة طاقة الطبيعة المتوحشة بقطبيها المتناقضين؛ القسوة والحنان، اللامبالاة والشفقة. تلعب الطبيعة بقواعدها وتقسو على من يحتمي بها لتعلمه دروسًا حياتية. وهذا هو حال الطفلتين فيكتوريا وليلي اللتين يحاول والدهما قتلهما بعد أن فقد صوابه وقتل أمهما البيولوجية، فتهاجمه "ماما"؛ امرأة انتزعوا منها طفلها لإيداعها مصحة نفسية، وبعد أن حاولت الهروب به سقطت من أعلى وماتت، دون أن تأخذ معها جثة طفلة، فهامت روح الأم المكلومة تبحث عن روح وليدها، وتأخذ في طريقها الأطفال الذين نبذتهم أمهاتهم الأصليات أو تخلين عنهم.
ليست ماما طيبة أو حنونة، هي الأمومة غير المقيّدة أو المروّضة، الأمومة حينما تتحول وحشًا كاسرًا يبتلع في طريقه كل ما يحول بينه وبين ما خرج من أحشائه. بعد أن تحتضن ماما الطفلتين البائستين في قلب الغابة، تسبغ عليهما من حنانها وحبها الفطري، ولا تخفي غيرتها من أن يصل إليهما غيرها. وعندما يتم إنقاذ الطفلتين وإعادتهما للمدنية، تظل ماما متمسكة بالطفلة الأصغر ليلي حتى ينتهي الأمر بتضحيتهما سويًا، والابتعاد عن الابنة الكبرى فيكتوريا التي تريد الانفصال عن ماما والتمرد على الحب الفطري بالإنطلاق في الحياة العادية.
تمثل ماما غريزة الأم غير المقننة عندما تبدأ ابنتها في التمرد عليها، تمل كل التفاصيل التي كانت تربطها وأمها سويًا، فكل مزحة تصبح سخيفة، كل الذكريات تصبح مصدرًا للضيق أو الإحراج، عندها يأخذ الحنان شكلًا من السيطرة، وتشعر الأم بأن الطفلة التي كانت تضفّر لها شعرها وتلبسها كما تريد مثل باربي كبيرة الحجم، أصبحت كيانًا مستقلًا عن الأم، الحبل السُري قد انقطع فعليًا هذه المرة. وعلى الأم التأقلم أو المخاطرة بخسارة ابنتها للأبد.
لكن ماما هي الأم غير المنافقة، التي لا تترك أطفالها نهبًا للغرباء، حتى لو أرغمتهم على البقاء إلى جانبها للأبد، تظل قادرة على إبقاء الحبل السُري بينها وبين الطفلة ليلي متصلًا، حتى تقرر ليلي طواعيةً الرحيل معها وترك الحياة المدنية التي أبهرت أختها فيكتوريا، الأكثر تمردًا وميلًا للابتعاد.
The Babadook.. وحش الاكتئاب
يأتي فيلم The Babadook كقطعة سينمائية عن الأمومة وشبح الاكتئاب. في الفيلم، تعيش الأم إميليا مع ابنها صامويل وحيدين بعد أن توفي زوجها في حادث سيارة وهو ينقلها للمستشفى بعد أن داهمتها آلام المخاض. يتكون شبح الاكتئاب داخل إميليا لينهشها كحالة من عقدة الذنب المركّبة لخسارتها زوجها الوسيم أوسكار في مقابل أن يولد طفلها صامويل، ولأن مشاعر الأمومة مقدسة وأسمى من أي شعور آخر لدى أي امرأة، لا تجرؤ إميليا حتى على مصارحة نفسها بأنها سرًا تمقت صامويل لأنه بحياته تسبب في موت أبيه الذي أحبّته، فتتحجر مشاعرها السُمية على هيئة اكتئاب حاد، يتعاظم حتى يتحرر منها ويصبح وحشًا باسم البابادوك، يجعلها هي وصامويل سجينيّ منزلهما، وكأنهما ينتقمان من بعضهما بعضًا كجزء من عقدة ذنب الناجين التي تسيطر على كثير ممن يبقون بعد وفاة أحبائهم في حادث جماعي.
تريلر فيلم The Babadook
Lights Out.. ندوب لا يبرئها الزمن
في سياق مشابه، نزل فيلم Lights Out دور العرض عام 2016 ليحمل عمقًا أكثر بكثير من كيانه المخيف ديانا، التي تظهر بملامحها المشوهة في مشاهد خاطفة، فلا تترك أثرًا يُذكر على عكس الحكاية الرئيسية عن أم مصابة باضطراب نفسي يجعلها خطرة حتى على أبنائها أنفسهم، مما يترك في نفوسهم ندوبًا ومخاوفًا لا يمحوها الوقت.
يضع Lights Out إصابة الأم باضطراب نفسي في نفس كفة الاستحواذ الشيطاني أو استوطان الأشباح لمنزل، فمنزل ريبيكا وطفلها مارتن مظلم، لا يدخله الضوء، والنوم يجافيه، والوقت الذي يقضيه مع أمه قليل ومرتبك، حتى الأم نفسها، تحبس نفسها في غرفتها المظلمة لساعاتٍ طوال، وبينما يظهر الفيلم الكيان الشبحي ديانا على أنه استحوذ على الأم ويدفعها لرفض العلاج، يبدو الأمر وكأنما للأم جانب مظلم هو اضطرابها النفسي الذي لا يجعلها تشعر بالوحدة، ويخيفها أن تفقده على الرغم من أنه سبب انهيار جميع جوانب حياتها الأخرى، حتى علاقتها بأبنائها.
وبتأمل فيلميّ The Babadook و Lights Out يمكن استنباط أن هذين النموذجين لامرأتين تمسكتا بالاضطراب النفسي كمحاولة منهما للتمرد على فناء كيان الأم في أطفالها، فالاكتئاب كان هو الشيء الوحيد الذي شعرت فيه الأم بأنها مجرد امرأة وليست وعاء لإنجاب وإرضاع ومراقبة الطفل الذي خرج من أحشائها ليستولى على وجودها ويهدد كيانها.
The Others.. خطيئة اﻷمومة الكبرى
ما هو رعب الأمومة الأكبر؟ أن تتسبب في موت طفلها دونما قصد، يعاني الجميع من لحظات انفلات أعصاب مفاجئة، يتسببون أثناءها في حماقات أو إيذاء دون قصد. نسمع كثيرًا عن القتل بطريق الخطأ، فماذا عن أم قتلت طفليها في لحظة جنون غاضبة؟ هذا هو حال جريس في فيلم The Others والذي عالج إحدى التابوهات العظمى في عالم الأمومة، وهو قتل الأم لطفلها، ففي لحظة محبطة كئيبة، تقتل جريس طفليها بعد سماع خبر مصرع زوجها في الحرب العالمية الثانية، وبعد أن تفيق من جنون اللحظة، تنهار وتعاقب نفسها بنفسها تطهيرًا لإثمها الكبير (وهي الأم المتدينة التي ربت طفليها على التعاليم المسيحية) وتنتحر.
جريس المرأة هنا انتصرت لحظيًا على جريس الأم، بعد أن وجدت نفسها وحيدة مع طفلين يتعلَّقان برقبتها قررت التخلص منهما بعد أن فُجعت في فقد الزوج الحبيب، لم تحركها عاطفتها الفطرية بل لوعة فقد الحبيب، وكان الاكتئاب والعزلة يمهدان لتلك اللحظة الجنونية المتعطشة للانفجار.
قتلت جريس طفليها لكنها لم تحتمل لحظة الحرية التي نتجت عن فنائهما، عادت إليها غريزتها الأمومية على هيئة شعور متعمق بالذنب لما فعلت، ولم تنتظر عقاب الرب فعاقبت نفسها بنفسها. لكن ظلت روحها هائمة في المنزل الكبير، متعلقة بالأمومة التي فشلت فيها، محاولةً إعادة التجربة بنجاح هذه المرة، لم ترَ الأمر على أن أرواحهم القلقة سكنت البيت بسبب الوفاة الدموية الخاطفة، لكنها رحمة الرب الذي مسح بيدٍ من حنان على جريس الأم، وغفر زلتها مع طفليها. فأعادهم للحياة جميعًا من جديد.
الأمومة مخيفة لمن لم تعبر نفق الولادة المظلم
ما الذي يدفع النساء أمثالي اللاتي لم يمرّن بتجربة الحمل والولادة إلى الكتابة عن الأمومة؟ ما يدفع أي باحث للركض وراء موضوع كان عابرًا في طريقه وليس جزءًا من حياته. اقتربتُ من الأمومة مثلما اقترب إيكاروس من الشمس، وبعد انتهاء التجربة شعرتُ بخواء. ما تلك المشاعر التي خرجت مني ولماذا؟ ولو أنها كما مررتُ بها، بعض العسل وقناطير من المرارة، فلماذا تدفع بعض النسوة من حريتهن واستقلالهن وتأقلمهن مع الحياة العزباء ليحصلن على قبسٍ منها؟ هل تستحق الأمومة الزواج برجل كريه أو الإسراع في زيجة فاشلة أو المرور بعدد من تجارب الحقن المجهري المزعجة أو التعرض للإجهاض المتكرر؟ هل الأمومة حقًا نعمة أم امتحان لا تجتازه سوى قلة مختارة؟
أشك أنني في حياتي القصيرة هذه سأجد إجابة تروي ظمأي.