تصميم سيف الدين أحمد، المنصة، 2025
الصورة الذكورية النمطية عن الصعيدي تحاصره في كل مكان وتفرض عليه سلوكًا مغايرًا للفطرة البشرية

ذكورة قسرية.. الصعيدي "فحلًا وطنيًا"

تأملات عن الجسد المُراقَب والتوقعات الجنسية

منشور الجمعة 25 يوليو 2025

أن تكون "رَاجِلْ صِعيدِي" لا يعني فقط أن تُولد في الجنوب. بل ترثُ توقعاتٍ جاهزةً، ويُحكم عليك بناءً على جسدك، صوتك، سلوكك، رغبتك الجنسية، وقدرتك على إخفاء الألم، وربما مقدرتك على كبح الحب.

في المجتمعات الأبوية، يُنظر للرجولة باعتبارها عُملةً اجتماعيةً، تُنتزع وتُمنح، وتتفاوت قيمتها حسب الجغرافيا والطبقة واللون، وفي الصعيد، الرجولة ليست عملة فقط بل عملة صعبة، لا تُقبل فيها النواقص ولا يُسمح بالتراخي. والصعيدي، شاء أم أبى، مشروع رجل عليه إثبات فحولته؛ كل فعل، كل لمسة، كل علاقة عابرة، يُفترض بها أن تؤكد "الفحولة" لا أن تضعها موضع تساؤل.

في قلب هذه المنظومة تكمن نمطية عنيفة؛ أن الصعيدي بطبيعته قوي، شرس، شديد البأس، يمتلك طاقة جنسية "خارقة"، لا يخطئ ولا يخيب، والأهم من كل ذلك أنه لا يُكسر. هذه الصورة تتغذى على إرثٍ طويلٍ من القصص والدراما الشعبية والسياسات الثقافية وعلى خيال مركزي صنعه الإعلام والدولة والمؤسسات الدينية معًا.

في علاقاتي العابرة، لم يكن الخوف من تبادل المشاعر هو الأشد، بل الخوف من ألَّا تكون على قدر التوقعات، ألا تبدو كما يظنون "صعيدي يعني جامد"، "صعيدي يعني بيعرف"، "صعيدي يعني دايمًا جاهز". هذا الضغط ربما لا يُعبر عنه بالكلام، لكنه لا يخفى في تعبير الوجه، في اللهفة، في التلميحات، في اختبارات الصمت.

كنت أجد نفسي أحيانًا أتلعثم، أخاف، أفكر كثيرًا قبل أي خطوة. أقع تحت ضغط نفسي كأنني في اختبارٍ على جسدي أن ينجح فيه. والمشكلة ليست فقط في التوقع، بل في داخلي أنا. لأن هذه التوقعات لم تكن تأتي فقط من الخارج، بل صارت جزءًا من إدراكي لنفسي.

الفحل الوطني

في فيلم النوم في العسل، يقف النائب الصعيدي ليصرخ في وجه الحاضرين "بلدنا بلد الرجالة! بلد الرجولة!". لم يكن هذا البرلماني يدافع عن مشروع قانون أو رؤية وطنية، بل عن القدرة الجنسية، فالفيلم الذي كتبه وحيد حامد وأخرجه شريف عرفة يتعامل مع "العجز الجنسي" الذي يسود باعتبارها كارثة قومية، كأن عجز الرجل تهديد للدولة، وجسده ملكية عامة يجب صيانتها.

أحمد عقل في دور النائب الصعيدي أبو الوفا دردير، من فيلم النوم في العسل، بطولة عادل إمام، وإخراج شريف عرفة، إنتاج 1996.

هذه الصورة ليست عارضة، فالدولة، بالأخص في سردياتها الإعلامية، صنعت من الصعيد "مصنعًا للرجال"؛ رجال لا يشتكون، لا يتراجعون، لا يبكون. وحين تظهر النساء في الدراما الصعيدية غالبًا ما يكنّ تابعات. وحين يظهر الرجل الحساس أو العاجز أو الرقيق، يُقدَّم إما بوصفه كائنًا شاذًا أو ضحية للسخرية.

صورة الرجل الصعيدي اليوم خصوصًا في المدن بما تمثله من ضغط اجتماعي وتوقعات فحولية مفرطة، تشبه صورة الرجل الأسود في الخطاب الاستعماري الغربي.

في رواية شوق الدرويش لحمور زيادة التي تدور أحداثها في السودان، نجد شخصية "بخيت" الذي كان يُباع في سوق العبيد، ليشتريه رجل أبيض لا يريد منه إلا ممارسة الجنس بعنف. فهو لا يرى فيه إلا جسدًا يصلح للإشباع. لا روح، لا تعقيد، لا حق في الخطأ.

هذه النظرة الاستعمارية للجسد الأسود باعتباره مشروعًا للقوة والاستعمال، وجدت طريقها أيضًا في أفلام البورن التي نمّطت الرجل الأسود باعتباره وحشًا جنسيًا، لا يكلّ ولا يملّ، ولا يعبّر. وفي وضع مشابه، يصير الرجل الصعيدي في نظر كثيرين حتى من خارج الصعيد فحلًا افتراضيًا. تَصوُّر مرعب لا يتيح له الفشل، ولا حتى التعب.

الريلز وصناعة الفحولة اليومية

مع صعود السوشيال ميديا، لم تعد صورة الصعيدي حكرًا على الدراما أو الخطاب الثقافي الرسمي. بل تسللت إلى اليومي والعادي، وتحوّلت إلى ريلز قصيرة يعاد إنتاجها على مدار الساعة؛ مقاطع قصيرة مأخوذة من مشاهد درامية تركّب عليها موسيقى "مهيبة"، ويُعاد نشرها على تيكتوك وإنستجرام عشرات آلاف المرات.

محمد رمضان من مسلسل نسر الصعيد، إخراج ياسر سامي، وإنتاج 2018

مشهد البطل الصعيدي وهو يقول "القضيب لو ماكنش حديد، مكانش شال القطر!" من مسلسل نسر الصعيد، أو مشهد أحمد السقا في ولد الغلابة وهو يقف وسط العتمة ويقول "أنا راجل، راجل صعيدي!".

هكذا، لم تعد الدراما تتابع فقط، بل تُؤدّى، تُستعاد، تُعجن في خطاب جديد يعيد ترويج الذكورة باعتبارها طبيعية، مستحقة، بل ومرغوبة.

ما تبقّى من الجسد

لكن المفارقة القاسية أن هذا الرجل، الذي يُقدَّم دومًا في الخطاب العام رمزًا للأصالة والنقاء والرجولة "اللي لسه على الفطرة"، يعيش واقعيًا على هامش الدولة. فالصعيد من حيث الخدمات والبنية التحتية وفرص التعليم والصحة والعمل مهمّش، قليل الحظ، يُطلب منه الكثير ولا يُمنَح سوى القليل.

يُحتفى بالرجل الصعيدي في الأغاني والمسلسلات بوصفه مصنع الرجولة والراجل الجدع، بينما يعيش في بيئة محرومة من أبسط ضمانات الحياة الكريمة.

هذه المفارقة المخادعة تمثل ضغطًا نفسيًا هائلًا، أن تكون مهمّشًا وفي الوقت نفسه مطالبًا بأن تمثل صورة الكمال. أن تُحرم من الموارد ثم يُقال لك الصعيدي دايمًا ريس علشان متربي كويس، "إحنا الصعايدة.. إحنا الأسود".

خريف آدم ونهاية أسطورة الفحل 

تتعرض صورة الصعيدي أحيانًا للانكسار، ففي فيلم خريف آدم (2002) لمحمّد القليوبي يتهاوى "الفحل الصعيدي" في صمت. "آدم"، الأب الذي يُنتظر منه أن يثأر، يختار المراقبة بدل القتل، الرعاية بدل الانتقام. الأكثر انكشافًا لسطوة التقاليد هو مشهد زوجة ابنه "ناهية"، التي تُغتصب في الحقول، ثم تعود مرارًا إلى العلاقة نفسها بموافقتها، بينما "آدم" يعلم ولا يتدخل.

هشام عبد الحميد في دور آدم من فيلم خريف آدم، من إخراج محمد النقلي، وإنتاج عام 2002

هنا تنكسر الهيمنة الذكورية في أوضح صورها؛ رجل يُفترض أنه رمز السيطرة والشرف، لكنه صامت وعاجز. حتى "شداد" ابن أخيه، العائد من الحرب، يفشل جنسيًا ليلة زفافه. في مجتمع يُقاس فيه الرجال بقدرتهم على فرض سلطتهم على أجساد النساء، يكشف الفيلم هشاشة هذا المعيار.

كلّ الشخصيات الذكورية تتصدع أمام اختبار الفحولة: من آدم، إلى شداد، إلى الخصوم. والنتيجة؟ جسد الرجل الصعيدي، المُفترض أنه رمز القوة، يتحوّل إلى مرآة لانهيار أوسع في الرجولة، وفي السلطة، وفي الوطن.

ضد النمط

في مواجهة الصورة النمطية لصورة الصعيدي، تخرج من الجنوب المشبع بالتصورات الثقيلة عن الرجولة أنماط أخرى أصرت على تقدم صورة مغايرة، من بينهم شاعر نحيل، مريض، يكتب من قلب غرف المستشفيات عن الألم، والخذلان، والوداعات.

أمل دنقل استثناء لافت. لم يقدم نفسه في صورة الفحل بالمعنى الذي ترسخه الثقافة الشعبية، بل كان جسدًا حساسًا هشًا، يقاوم الموت بالشعر، ويقاوم الذكورة الخشنة بالمزيد من الرقة وانكشاف الهشاشة.  

ابن قنا، ابن الجنوب الذي أراد له الإعلام أن يكون ساحة للرجال الغلاظ، كتب قصائد بكائية عن التآكل والاستنزاف والرقة كقيمة لا عيبًا، وفي سيرته، كما في شعره، يفضح هذا التناقض العنيف؛ أن تولد في مكان يطلب منك أن تكون أكثر من إنسان، ثم تختار أنت أن تكتب لتكشف أنك "أقل" من الأسطورة، وأنك تتنفس وتحب وتخاف وتُهزم. أن يقول ببساطة؛ من حق الصعيدي أن يكون حساسًا، هشًّا، مترددًا، مرتبكًا، من حقه أن يُرفض ولا ينهار، أن يحب ولا يُطالب بالقوة دائمًا، من حقه أن يكون إنسانًا، وليس "الصعيد يا دولة يا أرض العتاولة".