بعد عامين من انعقاد دورته الخامسة، وشهرين من تأجيل دورته السادسة، مرتين، انطلق مهرجان الجونة أخيرًا يوم 14 ديسمبر/كانون الأول الحالي، في دورة عدها صناع المهرجان استثنائية نظرًا لما شهدته من صعوبات أثرت بالقطع على شكل المهرجان، ولما يشهده الوضع السياسي العام من حرب ودمار واكتئاب، قد تتعارض مع جو الاحتفالات والفعاليات الفنية للمهرجانات.
وبغض النظر عن هذه النظرة الجاهلة للفنون والمهرجانات، فالفعاليات الفنية فرصة هائلة لإظهار الحقائق المسكوت عنها سياسيًا وإعلاميًا، وإعلان المواقف المناهضة ضد الفاشية والقهر والظلم بأنواعه.
ربما تكون قشور المهرجانات أكثر بريقًا: السجادة الحمراء والفساتين ومظاهر الرفاهية. أو العكس، مثلما شهد افتتاح الدورة السادسة من مهرجان "الجونة"، من كلمات متجهمة وملابس الحداد وأغانٍ "مدرسية". ولكن ما يتسلل ليؤثر ويبقى حقًا هو الأفلام الجيدة، التي تحمل روح القيم الإنسانية، التي ترصد ما لا تبصره العين العادية، الغافلة، وتحلل الغامض والمربك في حياتنا، فتضيئه بنور البصيرة. هذه الأشياء قد تبدو صعبة على الإمساك والوصف، لكنها تنتقل إلى المشاهد وتبقى داخله.
نظم "الجونة" برنامجًا خاصًا للسينما الفلسطينية، لمواكبة الحدث الأهم والأخطر في العالم، خاصة بالنسبة لمنطقتنا وشعوبنا، وهو، مثل معظم الفعاليات السينمائية "الفلسطينية" التي تقام بغزارة حاليًا، فرصة كبيرة للتعريف بالقضية، وبالسينما الفلسطينية التي شهدت خلال العقدين الأخيرين أكبر فترة ازدهار في تاريخها، واستطاعت من خلال أفلامها المتعددة أن تحفر اسم فلسطين في معظم المهرجانات السينمائية الكبرى، رغم أن غالبية تلك الأفلام لم يُشاهد على نطاق واسع، خصوصًا في العالم العربي.
هوس الهدم
في إطار هذا البرنامج شهد اليوم الأول من مهرجان "الجونة" عرض فيلم الأستاذ، إخراج فرح نابلسي وبطولة صالح بكري، وهو فيلم حديث الإنتاج شارك في المسابقة الرسمية للمهرجان.
من لا يعرف شيئًا عن غزة والضفة الغربية، وما يلقاه سكانهما من جحيم مقيم على يد قوات الاحتلال، من يتعجب من فعل "حماس" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ومن يدين اختطاف "الرهائن" باعتباره فعلًا إرهابيًا بشعًا، من لا يفهم خلفيات الصراع وتاريخه وجولاته السابقة على مدار سبعة عقود، أعتقد أنه سيفهم الكثير مما يحدث من خلال هذا الفيلم، ربما أفضل من عشرات الكتب ونشرات الأخبار.
يبدأ الفيلم بباسم (صالح بكري) أستاذ اللغة الإنجليزية في إحدى مدارس الضفة الغربية، يحاول إعادة طالب اسمه يعقوب خرج للتو من سجون الاحتلال إلى ممارسة حياته واستكمال دراسته بشكل طبيعي. ولكن كيف يمكن للمرء أن يكون "طبيعيًا" في ذلك المكان؟ يتعرض بيت يعقوب وأخيه آدم وأسرتيهما للهدم ببلدوزر الاحتلال. يبدو أن هناك هوسًا مرضيًا لدى الإسرائيليين بهدم البيوت، منذ أيام فيلم .Hanna K (كوستا جافراس، 1983) الذي لعب بطولته محمد بكري (والد صالح)، والذي يبدأ أيضًا بقوات الاحتلال تفجر بيوت المدنيين.
بعد هدم البيت يتعرض حقل الزيتون لهجمات المستوطنين الذين يحرقون الأشجار، وعندما يقوم يعقوب بالتصدي لأحدهما يسحب بندقيته ويقتل يعقوب. كالعادة لا يحاكم المستوطن، رغم قيام محامية إسرائيلية (تذكرنا بـ.Hanna K) بتبني القضية. والنتيجة أن آدم، الأخ الأصغر ليعقوب، المسالم والمتفوق في دراسته، لا يفكر سوى في الانتقام لمقتل أخيه.
في الوقت نفسه هناك أخبار تتناقلها وسائل الإعلام حول اختطاف مراهق إسرائيلي أمريكي، يأتي والداه الأمريكيان، الثريان، إلى إسرائيل ويضغطان على السلطات الإسرائيلية للإفراج عنه.
لكن السلطات تماطل، رافضة أن تفرج عن ألف أسير فلسطيني في مقابل الشاب، وتأمل أن تستعيده بالطرق الأمنية. وفي تحول مفاجئ يتبين أن باسم يعمل مع المقاومة، وأثناء نقل المراهق المحتجز من مكان إلى آخر، يصل إلى باسم، حيث يخفيه في قبو منزله.
لمن يرى
هذه هي الخلفية السياسية التي تدور حولها قصة فيلم "الأستاذ"، وهي خلفية حاضرة بقوة أثناء مشاهدته، إذ يبدو أن لا شيء يتغير، وأن الحاضر نسخة مضخمة من الماضي، وربما يكون نسخة مصغرة من مستقبل أضخم، وتنص عناوين الفيلم الافتتاحية بأنه مستلهم من أحداث حقيقية، في إشارة ربما لقصة اختطاف الجندي جلعاد شاليط.
قبل السابع من أكتوبر وأحداث غزة، صنع فيلم "الأستاذ"، مثل عشرات غيره من الأفلام التي تتناول الأوضاع في فلسطين المحتلة، والتي تُجمع، حين نراها، أن الأوضاع باتت صعبة حد الاستحالة، وأن العنف والانفجارات والحروب المتعاقبة ما هي إلا نتيجة طبيعية لهذه الأوضاع، وأن قتل المدنيين وخطفهم وأسرهم سلوك يومي، يمارسه الاحتلال على نطاق واسع ومؤسسي، ويمارسه المحتَلون رد فعل ومقاومة.
السينما قامت بواجبها، ورصدت وشرحت وحللت، على عكس وسائل الإعلام التي تكتفي بنقل الأخبار والصور المتفرقة وتستعين بمحللين يتشاجرون فيما بينهم. ولكن لأن قليلين على مستوى العالم يشاهدون هذه الأفلام، فإن أغلب الناس لا يعلمون.
يضم البرنامج الخاص بفلسطين في مهرجان الجونة، أيضًا، عددًا من الأفلام المهمة، منها ملحمة باب الشمس ليسري نصر الله، المصنوع منذ أكثر من عشرين سنة، ويروي في جزأين قصة فلسطين منذ النكبة في 1948، وحتى مأساة 1982 في لبنان، ما بين هراوة الإسرائيليين وسنديان الغدر العربي، وحماقات وصراعات أبناء القضية.
كثير من أفلام البرنامج الفلسطيني تدور عن غزة وداخلها، مثل إسعاف (محمد جبالي، 2016)، الذي يروي بعض القصص الشخصية عن فظاعات الحرب على غزة في 2014. نفس ما يفعله فيلم الشجاعية (محمد المغني، 2016) الذي يرصد حالة إحدى العائلات التي دُمر منزلها وقُتل عدد من أفرادها. عندما تشاهد الفيلم ستفهم من أين أتى الغضب والرغبة في الانتقام، وما الذي يمكن أن يؤدي إليه ما يحدث في غزة من غضب أكبر وعنف أكثر.
الحياة تحت القصف
لا تقتصر السينما على رصد العناوين الكبيرة، لكنها تروي القصص الحميمة للبشر. والأخوان عرب وطرزان ناصر، صاحبا ديجراديه وغزة مونامور، متخصصان في حكي قصص الحياة اليومية العادية تحت وطأة الحرب والظروف السياسية الصعبة، مثل فيلمهما القصير الأول كوندوم لييد (2013) المعروض ضمن البرنامج، الذي يرصد محاولة زوجين شابين قضاء وقت حميم تحت وابل القصف الإسرائيلي الذي لا يتوقف.
ومثله يظهر فيلم التحريك الرسم لأحلام أفضل (مي عودة وضياء العزة، 2015) الذي يؤكد أن الحياة يجب أن تستمر، وذلك باستخدام عشرات من رسومات أطفال غزة، الممتلئة بالكوابيس والأحلام.
ربما يكون تمثيل الحياة والتمسك بالبقاء ورصد لحظات الكوميديا والفرح أقوى رد على محاولات الإبادة. وكذلك يكون الفن أبلغ أسلحة المقاومة، ساعتها يصبح فيلم واحد أصدق تعبيرًا من كل نشرات الأخبار وبكائيات السوشيال ميديا عما يجري في فلسطين، ويصير أسبوع الجونة، الذي لُقم على عجل، رغم ذلك، صالحًا للمقاومة.