لم يتوقع أحد ما جرى في فلسطين يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي. كانت فرحة شعبية بتحقيق انتصار كبير ضد مغتصب للأرض، فاستحالت كابوسًا دام شهرين مرشحين للزيادة. السينما منذ اخترعها الإنسان كانت أداته لتسجيل أحلامه وكوابيسه على السواء. تُرى أيام مثل هذه كيف ستظهر على الشاشة؟
في الواقع لم تبتعد السينما المصرية عن فلسطين منذ نكبتها عام 1948. صحيح أنه لا يوجد إحصاء محدد لعدد الأعمال التي تناولت القضية بشكل مباشر أو غير مباشر على مدار سبعة عقود، لكن يستطيع المتابع العادي معرفة أنه عدد ليس بقليل.
فهل استطاعت تلك الأعمال الفنية أن تؤدي دورها سجلًا يوثق أحلام الفلسطينيين وكوابيسهم؟ وهل استطاعت كذلك أن تحفظ السردية الحقيقية دون تسفيه أو تسطيح في وجدان المتلقي المصري والعربي عمومًا؟
الناقد والمؤرخ السينمائي محمود قاسم، يقول لـ المنصة إن أول فيلم تناول القضية كان فتاة من فلسطين إنتاج عام النكبة نفسه، بطلاه محمود ذو الفقار وسعاد محمد، وأنتجته عزيزة أمير، وكان فيلمًا غنائيًا، يتناول قصة طيار مصري يدافع عن فلسطين ضد العدو الصهيوني، ويقع في حب سلمى الفلسطينية التي تستخدم منزلها مركزًا لتخزين سلاح الفدائيين.
أما ثاني الأعمال فحمل اسم نادية وأنتجته عزيزة أمير أيضًا ولعبت دور البطولة فيه، ويحكي قصة شابة قُتل أخوها في حرب التحرير.
ظلت أفلام تلك الفترة متأثرة بالحرب، وصفقة الأسلحة الفاسدة التي فجّرها الصحفي إحسان عبد القدوس عام 1950، حسب قاسم الذي يرى أن الدولة بنظامها الجديد بعد ثورة 1952 ساهمت في تسليط الضوء على القضية باعتبارها أحد أسباب الهزيمة في حرب 48، للتأكيد على كراهية النظام الملكي، "كلها كانت أفلامًا مُوجهّة لحشد الناس عاطفيًا بعد ثورة يوليو".
لكن المؤرخ السينمائي يستثنى منها فيلمًا نادرًا اسمه الدخيل للمخرج نور الدمرداش، إنتاج عام 1967، يحكي عن فلسطين بشكل رمزي، حيث يدخل بائع متجول/خواجة، قام بدوره محمود المليجي، قرية يستضيفه أهلها، فيقوم بالاحتيال والاستحواذ على عدد من الأراضي الزراعية دون دفع ثمنها.
لا يُعتدّ برصد تلك الفترة في تاريخ السينما المصرية دون الحديث عن فيلم الناصر صلاح الدين إنتاج عام 1963، الذي تتفق فيه المخرجة والمنتجة هالة جلال مع حديث قاسم أن هدفه الرئيس تلميع صورة الرئيس جمال عبد الناصر "فيلم الناصر زيه زي أفلام أكتوبر، هو تجميل صورة بطل كأنه سوبر مان، مفيهوش رصد للشخصية (صلاح الدين) بأن ليها عيوب وأخطاء".
لم تكن الإرهاصات السينمائية الأولى عن فلسطين وفق ذلك الرأي إلا مشحونة بالغرض السياسي للجمهورية الوليدة، لذلك خَلَت فترة السبعينيات تقريبًا من أي فيلم يتناول فلسطين، بسبب هزيمة 67، ثم من بعدها انتصار أكتوبر، ما جعل أغلب أفلام تلك الفترة تتحدث عن هذين الحدثين اللذين يرتبطان بشكل أو بآخر بالقضية الفلسطينية دون الحاجة إلى استحضارها، يذكر قاسم.
في تسجيل الغضب
في الثمانينيات عادت فلسطين إلى السينما، لكن على استحياء، مع فيلم خيري بشارة الأول الأقدار الدامية، المقتبس من مسرحية للكاتب الأمريكي يوجين أونيل، وحسب قاسم فإن الفيلم "تم تمصيره، واستُبدِلت حرب فلسطين بالحرب الأهلية اللي بتحكي عنها المسرحية"، لكن من الناحية الفنية لم يُقدّم الفيلم شيئًا للقضية.
يُعدّ الفيلم الثاني ضمن تلك الفترة هو كتيبة الإعدام، الذي عُرض بعد الانتفاضة الأولى (1987) بعامين، صحيح أنه لم يتناول أحداثها بتاتًا، لكنك تشتمّ فيه رائحة الغضب بسبب تطبيع مصر مع إسرائيل، كما تذكر هالة جلال، التي لا تراه ذا مستوى فني عال، لأنه قال رسالته بطريقة مباشرة.
في السنة نفسها التي اندلعت فيها الانتفاضة الأولى، اغتيل رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي في لندن، بعد ذلك بخمسة أعوام عُرض جماهيريًا فيلم ناجي العلي للمخرج عاطف الطيب، إنتاج عام 1992، وتأليف السيناريست بشير الديك، الذي يقول لـ المنصة إن رغبة جمعته والطيب ونور الشريف لصناعة فيلم عن القضية الفلسطينية، فيما جاءت فكرة العلي بالتحديد من نور الشريف، الذي جسّد دوره وشارك في إنتاجه.
رغم ذلك لم يمرّ الفيلم مرور الكرام، سبّب أزمة كبيرة حين عرض "كتير من المثقفين كانوا بيقولوا إن ناجي مكنش بيحب مصر، فكنت بسألهم يعني ايه مبيحبش مصر؟ فيردوا إنه رفض سياسات السادات. ده مش معناه إنه مبيحبش مصر، إحنا كمان كنا مختلفين مع السادات زيّه، ده كان ادعاء أهبل، وبسبب الادعاء ده استمرت الجرايد والأقلام الصحفية في التشنيع على نور الشريف"، يقول الديك.
كان ذلك الفيلم مُباشرًا أكثر من اللازم في رأي المخرجة هالة جلال، بسبب رغبة السينمائيين في التعبير عن غضبهم مما يجري في فلسطين، فجاءت أعمالهم انفعالية، حتى إن بعضهم عبّر عن ذلك من خلال مشهد واحد، مثلما فعل السيناريست مدحت العدل في فيلم صعيدي في الجامعة الأمريكية.
التعقيد البشري هو ما يفتقده التناول السينمائي عن فلسطين برأي هالة جلال، التي تقول لـ المنصة "إحنا مش لازم نعمل كوتة في السينما عن القضايا الوطنية، لكن في رأيي اللي بيخلي الأفلام ضعيفة لما المستوى الفني فيها بيكون ضعيف، بالتالي انفعال المشاهدين بالفيلم بيبقى قليل".
"أنا بكره إسرائيل"
في عام 1998 عُرض "صعيدي في الجامعة الأمريكية" جماهيريًا، تتذكر المخرجة آيتن أمين ذلك الفيلم في عرضه الأول، شاهدته في شبابها في سينما مترو بالإسكندرية "لما حصل مشهد حرق العلم الإسرائيلي الناس صقفت في السينما، لأن كره إسرائيل شيء أساسي في جينات المصريين".
تصدر الفيلم قائمة أعلى الأفلام تحقيقًا للإيرادات في تاريخ السينما المصرية، لسنوات طويلة، إذ حقق حوالي 27 مليون جنيه من عرضه داخل مصر، حسب ما ذكر الكاتب بلال فضل في سلسلة مقالاته الأسلحة السينمائية الفاسدة، مؤكدًا أن الأمر وصل إلى احتجاج إسرائيل رسميًا على مشهد حرق العلم، وتحدث بعض المراقبين عن المناخ السياسي المتوتر بين مصر وإسرائيل، وأنه كان سببًا في أن يرى مشهد كهذا النور لأول مرة منذ توقيع معاهدة كامب ديفيد عام 1978.
كمُتفرجة عادية تتفق فدوى غربية مع وجهة نظر أمين، فالشابة التي وُلدت في أواخر الثمانينيات كان "صعيدي في الجامعة الأمريكية" أول عهدها بالقضية الفلسطينية "دا كان أول احتكاك حقيقي برمزية العلم، وساعتها كنت بسأل أسرتي يعني إيه علم، وإيه اللي بيمثله حرقه"، حينما تستدعي فدوى الآن ذلك المشهد ترى أنه كان تعبيرًا عن ثقافة وموقف شعبوي "زيه زي أغنية أنا بكره إسرائيل"، تُفسّر قولها بأن المشهد عبارة عن "شخص ضرب الأدرينالين في نافوخه، فقرر باندفاع حرق العلم".
جاءت الانتفاضة الثانية التي اندلعت في سبتمبر/أيلول 2001، ليظهر أثرها بشكل أكبر في فيلم أصحاب ولا بيزنس من تأليف مدحت العدل أيضًا، وإخراج علي إدريس.
تتذكره فدوى جيدًا، حيث استقرّ في قلبها المشهد الشهير الخاص بالعملية التي قام بها جهاد "لأن صناع الفيلم قدموا شخصية الاستشهادي محبة للحياة والأرض"، تراه فدوى مشهدًا مؤسسيًّا لفكرة المقاومة الفلسطينية الحقيقية.
تتفق آيتن أمين وكاتب السيناريو محمود عزت مع وجهة نظر فدوى، فقد عداه واحدًا من الأفلام المهمة، خاصة أنه فيلم جماهيري "وده خلاه مهم في الوعي الجمعي عند المصريين، وأصبح في دماغنا رسالة مهمة إن احنا مش متوافقين مع إسرائيل، مهما كنا مش فاهمين سياسة"، كما تقول مخرجة فيلم "سعاد"، وبالنسبة لعزت فقد شاهده في مرحلة المراهقة "أد إيه كان مؤثر وقتها في شخصيتي، واللي يثبت أهميته إنه اتحول لميم على الفيسبوك دلوقتي".
بعد أشهر قليلة من نهاية الانتفاضة الثانية، كان المُتفرج المصري على موعد مع فيلم تجاري آخر يتناول القضية الفلسطينية، خاصة أن عادل إمام هو من لعب بطولته.
يرى عزت فيلم السفارة في العمارة "فيلمًا ذكيًّا وقويًّا جدًا وجماهيريًّا، وبيوصل رسالة قوية إنه مهما كانوا جيرانا فهما أعداؤنا، قاتلو الأطفال". ويضيف "هو بقوة ميت ألف فيلم مستقل".
ناقش الفيلم التطبيع من عدة جوانب مهمة؛ فسؤال الفيلم الرئيسي "ماذا تفعل لو كان الإسرائيليون جيرانك؟"، كما يناقش زاوية مهمة؛ "الفيلم يبدو إنه بيتريق على المثقفين، لكن هو في الحقيقة بيقدّم سؤال مهم جدًا، هل تهمة التطبيع تلتصق بكل من اضطر للتعامل مع الإسرائيليين؟".
الحب سبيل المقاومة
في العام نفسه اختُتِم فيلم باب الشمس بجزئه الثاني "الرحيل"، للمخرج يسري نصر الله، والمأخوذ عن رواية بالاسم نفسه لإلياس خوري، ورُبما يكون الفيلم الوحيد الذي لم يختلف أحدٌ على أهميته.
تقول فدوى "هو فيلم قدّم المقاومة على أنها فعل الحب والحياة والتناسل، كأنه بيقول إن ده سلاح رادع في انتصار القضية وتحرير الأرض على يد أبنائها".
لم تتعرض السينما المصرية بعد فيلم "باب الشمس" لفلسطين بشكل عميق، فبقية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين خلت إلا من فيلم بارز هو ولاد العم 2009.
أما العقد الثاني من الألفية الثالثة فسَاده البُعد عن القضية، وربما يكون السبب في ذلك الأحداث السياسية التي ملأت الساحة المصرية بدءًا من ثورة 25 يناير وما تلاها، كما لا يجب إغفال العلاقة المتوترة بين مصر وحركة حماس ما جعل السينمائيين يبتعدون عن صناعة أفلام عن فلسطين "العشر سنوات الأخيرة كانت العلاقة بين المصريين والفلسطينيين باردة، وكأن القضية كانت مجرد ديكور خارجي في الفترة دي"، يقول بشير الديك.
سينما السؤال الشائك
في بداية العقد الحالي أُنتج فيلم قوي للغاية، بوصف محمود عزت، هو الفيلم الأردني أميرة للمخرج المصري محمد دياب، وتأليف شقيقيه شيرين وخالد، فمن وجهة نظر مؤلف فيلم "أبو صدام"، فـ"أميرة" عبّر عن الروح العصرية لفلسطين في الوقت الحالي.
يتناول الفيلم قصة فتاة فلسطينية وُلدت بعملية تلقيح مجهري بعد تهريب منيّ والدها الأسير في سجون الاحتلال، واكتشفت الفتاة بعد ذلك أنها مولودة لأب إسرائيلي "الفيلم طرح سؤالًا مهمًا جدًا، وهو هل المجتمع بشكله الحالي هيقدر يتعايش مع بعضه، بطرفيه الفلسطيني والإسرائيلي ولا لا"، يقول عزت.
أثار الفيلم ضجّة كبيرة وصلت إلى إلغاء الأردن تمثيله لها في سباق أوسكار أفضل فيلم دولي، كما أصدر مخرجه بيانًا يعلن فيه وقف عرض الفيلم بسبب إثارته مشاعر عائلات الأسرى، وفي رأي عزت فإن الفيلم نجح في إثارة أسئلة مهمة، قلّما ظهرت في الأفلام المصرية التي تتحدث عن فلسطين.
تعقيد القضية وحساسيتها، حسب محمود عزت، أديا إلى ابتعاد الكثير من السينمائيين عنها، وفيلم أميرة يعد مثالًا حيًّا لما يُمكن أن يحدث بسبب عدم قبول الرأي العام لتناول القضية دون تمجيد، وهو ما يؤكده بلال فضل في ختام سلسلة مقالاته السابق ذكرها، حيث قال "لا أعتقد أن هناك أملًا في رؤية السينما المصرية وهي تصبح سلاحًا فاعلًا غير فاسد في قضية مثل الصراع العربي الإسرائيلي من القضايا الجادة، إلا حين تسقط سلطة الرقابة بالكامل، ويدرك المجتمع المصري أهمية حرية الفكر والتعبير من أجل تغيير واقعه".
هل ستُنتج أحداث 7 أكتوبر أفلامًا سينمائية؟
كل ما سبق يعيد السؤال الأول إلى الواجهة، هل ستظهر الحرب الحالية في السينما، وكيف يكون شكلها؟
يُجيب عزت بأن 7 أكتوبر وما تلاها ستُلهم مبدعين كُثرًا "لأنها حدث كبير زي النكبة"، ورُبما سيشجّع جهات رسمية على إنتاج أفلام عن القضية، وترى هالة أنه لطالما كان لجهات الإنتاج دومًا توجه ما، حتى مع وجود المنصات الإلكترونية "فيه سياسات في التوزيع وطريقة العرض"، التي تبتعد عن الرقابة الرسمية "لكن عامة مفيش حاجة تمنع صانع السينما إنه ينفذ أي عمل هو مؤمن بيه".
لفت عزت النظر لنقطة مهمة أن أحداث 7 أكتوبر وما تلاها يتوفر فيها عُنصر، ربما لم يتوفر في أحداث سابقة، مثل حرب غزة 2008 و2014، وهي الدراما "المختلف المرة دي هو إن إحنا بنشوف المأساة في عرض حي مستمر، وبنشوف كمان قصص جانبية جذابة للسينما، زي إن شباب أمريكان بيلبسوا الكوفية". كما أن تغير صورة حماس "من شباب إخوان لمقاتلين أحرار"، على حد قول عزت، سيجذب أيضًا أعين السينمائيين، فضلًا عن ظهور أبطال عرب بشكل جديد، مثل صناع المحتوى الفلسطينيين، أمثال بلستيا العقاد ومعتز عزايزة وبيسان الحكواتية.
من ناحية أخرى لم تُفكر هالة فيما يُمكن أن تصنعه كسينمائية عن الحدث الدائر، فالسينما بالنسبة لها تدور حول شخصية جذابة ترغب في حكي قصتها، وليس الحدث نفسه، وربما تدور في مُخيلتها صناعة فيلم عن الصداقة التي جمعت بين الشاعرين الفلسطينيين، سميح القاسم ومحمود درويش، فهي قصة جذابة كما تراها، وشاعرية أيضًا "الاتنين استمروا كأصدقاء رغم البعد، واحد قرر يظل داخل فلسطين، والثاني عايش بره، ومن خلال القصة هنعرف كتير عن فلسطين".
تناولت السينما المصرية منذ بدايتها المأساة الفلسطينية مدفوعة إما برغبة سياسية أو انفعال عاطفي، ولا تخلو مشاهد المجازر اليومية التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين من الأمرين، لكن خمس وسبعين سنة منذ النكبة، وليست الحرب الحالية وحدها، تستحق عملًا سينمائيًا يحكي القصة أو بعضها، دون صخب الشعارات الزاعق أو الشحن العاطفي. ربما ساعتها يمكن للأحلام والكوابيس أن تترافقا معًا، لأن كلاهما واقع أبناء القدس. كلاهما واقع الإنسان عمومًا.