نشرت أول ترجمة أمريكية لألف ليلة وليلة عام 1838، لإدوارد وليم لين، ومن بعدها توالت الترجمات والنسخ المنقحة، ومنها طبعات خاصة للأطفال والقراء الشباب. وانتشرت الطبعات الشعبية ووجدت طريقها لمكتبة جورج فيرشايلد عميد كلية كانساس، ومن المكتبة التقطها ابنه ديفيد فيرشايلد المولود في 1869، الذي وقع في حب حكايات شهرزاد واحتفظ بنسخته حتى تم تعيينه في مكتب البذور والنباتات في وزارة الزراعة الأمريكية.
حين استعمر الأوروبيون أمريكا وجدوا أنفسهم في مواجهة نباتات وفواكه لم يعرفوها سابقًا، وبعضها لم يعرفه العالم كله قبل اكتشاف العالم الجديد، على رأسها الطماطم والذرة، والأفوكادو وعجائب أخرى من العالم الجديد. لكن أيضًا خلت القارتان الأمريكيتان من نباتات وفواكه أخرى يعرفها العالم القديم.
بنظرة سريعة على سلة الغذاء الأمريكية في القرن التاسع عشر نكتشف محدوديتها، وتمركزها حول العناصر الثلاثة المسيطرة حتى الآن؛ البروتين الحيواني، الذرة، وجذور البطاطا والبطاطس بفصائلها المتعددة. لذا شكلت وزارة الزراعة الأمريكية في عام 1898 وحدة "الاستكشاف الزراعي" من العاملين في مكتب البذور والنباتات، لإرسال الباحثين في رحلات حول العالم لجلب أنواع من النباتات والفواكه يمكن زراعتها في البيئة الأمريكية، وعلى رأس تلك الفواكه كان الشغف الأمريكي بالفاكهة المحرمة والمقدسة… لا مؤاخذة البلح!
غالبية الجيل الأول من المستعمرين الذي جاءوا لأمريكا، هربوا الاضطهاد الديني والاقتتال الكاثوليكي البروتستانتي في أوروبا، لتنمو في الفراغ الأمريكي الكنائس البروتستانتية المتعددة. أغلب المستعمرين قرأوا كثيرًا في الكتاب المقدس، ونظرًا لأن بعضًا من قصصه تدور بين مصر والعراق، فيتكرر ظهور النخيل، لكنَّ المهاجرين حين وصلوا إلى أمريكا لم يجدوا بلحًا ولا نخلًا، باستثناء شريط ساحلي ضيق في فلوريدا.
عاش الأمريكيون لأجيال يقرأون الإنجيل ويتداولون ما فيه من قصص عن التين والبلح، وهم لا يعرفون ماهيتها ولا طعمها، مما أكسبهما، خصوصًا البلح، طابعًا مقدسًا في الوعي الأمريكي، أضاف له انتشار ألف ليلة وليلة في القرن التاسع عشر بعدًا ساحرًا.
لذا كان البلح على رأس الفواكه التي كلفت الحكومة الأمريكية وحدة الاستكشاف الزراعي ببحث سبل استزراعه وجلبه إلى أمريكا، فكان اختيار ديفيد فيرشيلد الأول السفر إلى بغداد، لأنه طبقًا لما قرأه في ألف ليلة وليلة، يوجد فيها أجود أنواع التمر والبلح.
تشكلت وحدة من وزارة الزراعة الأمريكية للعمل على استقدام النخيل والبلح بالذات، واختير وادى "كوتشيلا" في جنوب كاليفورنيا نظرًا لمناخه الرطب وارتفاع درجة الحرارة لإجراء التجارب الأولى لزراعة البلح، ولاحظ فيرشيلد وزملاؤه أن الطبيعة الجغرافية ومناخ الوادي يتشابهان مع الواحات الزراعية في الجزائر والبصرة في العراق.
فشلت التجارب الأولى لاستزراع البلح، وإن اعتمدوا على استقدام بذور النخيل، لكن جودة وخصوبة البذور تختلف من بذرة لأخرى، فانتقل فيرشيلد وزملاؤه للخطة التالية وهى قطع فسائل النخل ونقلها إلى وادى "كوتشيلا" بحيث تكون النخلة الموجودة في كاليفورنيا تماثل في تركيبها الجيني وجودة بلحها النخلة الأم في بغداد أو الجزائر أو المغرب.
في بدايات القرن العشرين، وزعت فسائل نخيل العراق بأسعار مخفضة وأحيانًا شبهه مجانية على المزارعين الأمريكيين، ومن مزارع وادى "كوتشيلا" انتشر النخيل على طول ساحل كاليفورنيا والجنوب الأمريكي حتى سواحل تكساس.
من عائلات المزارعين الأوائل التي توسعت في زراعة النخيل والبلح كانت عائلة جون بوبينو، الذي أرسل أولاده لجمع فسائل النخيل النادرة والممتازة من واحات في عمق الصحاري العربي. سافر الأبناء إلى سلطنة عمان، والبصرة، ومن هناك كان يشترون فسائل النخيل، ثم يحملونها على السفن إلى أمريكا في رحلات شاقة وطويلة.
في واحدة من تلك الرحلات مثلًا؛ واجهت إحدى السفن في البحر الأحمر نقصًا في المياه العذبة، فقام بوبينو الابن بمقايضة آلته الكاتبة مع قبطان السفينة مقابل الاستمرار في ريِّ فسائل النخيل على المركب، ويقدر إجمالي فسائل النخيل التي قامت عائلة بوبينو جمعها بحوالي 9 آلاف نخلة، كان يتم نقلها بالسفن إلى ميناء جيلفستون في تكساس ومن هناك بالعربات لوادي كوتشيلا.
بعد زراعة النخيل، أتت مهمة تسويق تلك الفاكهة الجديدة في السوق الأمريكية، وبدأ المزارعون يستثمرون الولع الأمريكي بألف ليلة وليلة وصور الشرق في الأدب الإنجليزي لتسويق البلح العربي، لدرجة نقل طقوس الاحتفالات العربية المرتبطة بمواسم جنى البلح.
نظم المزارعون مهرجانات ورحلات لآثرياء لوس أنجلوس ثم للعامة يركبون فيها القطار حتى كوتشيلا، وحين يصلون يجدون في استقبالهم المزارعين وقد ارتدوا ملابس بدوية، وعارضات أزياء من هوليود يرتدين ملابس شفافة تحاكي تصورات المستشرقين عن "الحريم"، وبالطبع فقرة ركوب الجمل.
ثم في عام 1922 ومع اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون التي جددت الولع الغربي بذهب الحضارة المصرية القديمة، أضاف المزارعون البعد الفرعوني لفانتازيا الصحراء العربية، بل حاول بعضهم التواصل مع هوارد كارتر والحكومة المصرية وقتها لشراء بعض ثمار البلح والتمر التي قيل إنها وجدت داخل المقبرة، لم تنجح هذه المحاولات لكنها كانت كافية لكي يسوق بعضهم بلحه تحت جمل من نوعية "بلح الملك الذهبي".
ابتكر المزارعون الأمريكيون قصصًا وأساطيرَ مرتبطةً بكل نوع بلح، فمثلًا البلح الأصفر من نوع برحي، والذي استقدموا فسائله من على ضفاف شط العرب في العراق، جرى تسويقه باعتباره ثمرة النصر والمجد، والفاكهة التي تناولها الإسكندر الأكبر حين غزت قواته بلاد فارس.
استثمر الأثرياء في كاليفورنيا البلح كذلك في إنتاج أفلام تعزز هذا الشغف بالشرق الغامض وخيراته وفواكهه المحرمة. أبرزها فيلم "ملكة سبأ" The Queen of ShebaK عام 1921 وأعيد إنتاجه مرة أخرى عام 1952، وفيلم الشيخ The Sheik عام 1921.
في الفترة من عشرينيات القرن الماضي وحتى خمسينياته، تحولت مدن في جنوب كاليفورنيا إلى نماذج تحاكي المخيلة الغربية عن الشرق. ضمن عدة مقابلات توثيقية لتلك الفترة سجلها متحف تاريخ وادى كوتشيلا، يروي من عاصروا ذلك الوقت كيف انتعشت سياحة "الشرق" في جنوب كاليفورنيا، ففي مدن مثل إنديو Indio في جنوب كاليفورنيا، كانت عاملات المطاعم يرتدين ملابس "الحريم" كما لوحات المستشرقين، ديكورات دور السينما والمسارح على الطراز الفرعوني ومن يقطع التذاكر يرتدى عِمَّة وعباية، سباقات للجمال تجذب السياح لحضورها من مختلف الولايات، حتى أن الفريق الرياضي لمدرسة كوتشيلا الثانوية كان معروفًا باسم "العرب" وتيمة حظهم تمثال لعربي غاضب يرتدى العقال الأبيض.
نظام اقتصادي كامل قائم على زراعة النخيل وثمار البلح، يسوق نفسه بفانتازيا الصحراء والعرب. استمر هذا الأمر حتى السبعينيات حين بدأت صورة العرب في أمريكا تتغير بداية من أخبار حوادث خطف الطائرات من قبل فصائل المقاومة الفلسطينية، ثم أزمة البترول أثناء حرب 1973، وأخيرًا احتجاز رهائن السفارة الأمريكية في إيران.
لم تعد صور سحر الشرق تستهوي أحدًا، وبدلًا من العربي الراقص برزت صورة العربي الغاضب. منطقة وادي كوتشيلا ذاتها، بدأت في التحول من الاقتصاد الزراعي إلى الاقتصاد الصناعي.
اختفت آثار صور الشرق من على صناعة وتجارة البلح في أمريكا الشمالية، وبدلًا منها برز اسم "كوتشيلا" حيث يزرع أكثر من 90% من البلح الذي يباع في قارة أمريكيا الشمالية أو يصدر لمختلف دول العالم، لا يزال مهرجان البلح يقام سنويًا، لكن للأسف دون سباق جمال أو عارضات أزياء، وبدلًا من فقرات الرقص الشرقي، والعروض المقتبسة من ألف ليلة وليلة، أصبح هناك مهرجان كوتشيلا الموسيقي، الذي صار أهم مهرجان موسيقى سنوي، استقطب منذ التسعينيات كل عظماء موسيقى الروك والبوب.
حمت أمريكا محاصيلها الزراعية طوال القرن المنصرم، عبر منع البذور والنباتات إلا عبر طرق محددة من خلال وزارة الزراعة، وهو ما مكَّن مزارعي البلح من الحفاظ على النخيل من الأمراض والأوبئة التي فتكت طوال القرن بالنخيل العربي.
هناك أنواع كاملة من النخيل اختفت ولم تعد موجودة في العراق والمغرب، لكنها موجودة في كاليفورنيا. مثلًا هناك نوع من تمر المجدول، يعامله الأمريكيون حتى الآن كواحدٍ من أثمن الفواكه. يروى دوج اديار أحد مؤرخي زراعة النخيل في حديث مع إذاعة NPR أن كل نخيل تمر المجدول في أمريكا يعود أصله إلى تسع نخلات من واحة بوذنيب على الحدود المغربية الجزائرية، لكن الآن هذا النوع من النخيل لم يعد موجودًا في تلك الواحة ومن النادر العثور عليه في المغرب أو الجزائر بعدما فتكت به الأمراض.
نفس الأمر مع بعض أنواع البلح الأصفر "البرحي" التي لم تعد موجودة في العراق، بل تصدر أمريكا ومزارع كوتشيلا هذا البلح إلى العراق. ولكي تكتمل الدائرة، فالظاهرة الجديدة أن المهاجرين العراقيين الذين لجأوا لأمريكا بعد الحرب، اتجهوا لشراء مزارع النخيل في كوتشيلا، منها استثمار ومنها حنين، ليستمتعوا بأجواء شط العرب وهم في جنوب كاليفورنيا.