تصميم سيف الدين أحمد، المنصة، 2025
القرى السياحية في الساحل الشرير

الشرور الخفية في المسألة الساحلية

منشور الثلاثاء 7 تشرين الأول/أكتوبر 2025

انتهى كرنفال السيارات النادرة وماركات الحقائب والفساتين والبيكيني والبوركيني فلكية الأسعار.

إنه الخريف.

وعاد المصيفون، بعد أن شدَّت يد الطقس فيشة الساحل، وصار بإمكاننا النظر إلى الخلف لنرى بقية البلاد ومشكلاتها الحقيقية، وحيث التحديات والصراعات الأخطر من معركة تسببت بها "ناني" دنَّست بيسين السادة، أو مستأجر تسلل إلى النطاقات الخاصة بالأونرز. (لاحظ أن التفرقة حتى في اللغة، تستخدم العربية في الإشارة إلى المستأجر والإنجليزية إلى المالك!).

دون أن أسعى، تصلني تفاصيل الحياة الموسمية القصيرة المدهشة على الشاطئ، مثلما يتابعها الملايين من سكان البلاد. لم أطأ أرض الساحل الشمالي إلا الشهر الماضي، في نهاية الصيف، دون أن أُوفّق إلى السباحة في بحره.

كان الذهاب إلى مرسى مطروح آخر عهدي بالطريق الساحلي، عندما كان للمصيف وظيفة بسيطة: شمس وبحر. وقتها كان بوسع المصيفين على شواطئ المعمورة والعجمي وعشش رأس البر الالتقاء بالفنانين ونجوم المجتمع في الماء والتجاور معهم في الشاليه والعشة.

مع بدء انتشار القرى السياحية في المسافة بين مطروح والإسكندرية، لا رأيت هذه القرى ولا عدت إلى مطروح. عامًا بعد عام كانت الرغبة والقدرة تتناقص. ومؤخرًا، في ظل النهضة الإنشائية العظيمة والتدهور الحضري المؤسف للطرق، أصبح اسم الساحل رهابًا شخصيًّا؛ لا أقدر على النوم إذا كان أحد أحبابي يتحرك على طريقه ذاهبًا أو عائدًا.

فكرتي عن خطورة الطريق تطابقت مع تجربتي العملية في السفر. لم يستقر لي قلب إلا بعد الدخول من بوابة القرية، وفي اللحظة نفسها ولد الخوف من رحلة العودة. بعض الخطر من مواصفات الطرق نفسها والبعض من جشع القيادة.

أن تعيش كأن تشاهد

الساحل الشمالي بمصر، أرشيفية                                                                                                                 

نشكر السوشيال ميديا التي تمنحنا عرضًا أقرب إلى الحقيقة لأماكن نعجز عن بلوغها أو نتحفظ على زيارتها. لدينا فيديوهات مُسرَّبة وأخرى منشورة تباهيًا، وتلك التي يعدها اليوتيوبرز من المروجين العقاريين المُرحَّب بهم، يتجولون بالسيارة داخل المنتجعات الفاخرة، يشرحون مميزاتها العظيمة. يُسوِّقون مظاهر الطبقية والعزل الاجتماعي بوصفها مميزات، مثل التمتع ببوابة للأونرز وأخرى للمستأجرين والزائرين، والدخول  بـ"الكيو آر كود" وعدد الأكواد المسموح لكل "أونر" بالحصول عليها لضيوفه حسب حجم ملكيته.

بعض المزايا تصعب حتى على أفهام معظم الأونرز، كأن تتمتع ملاعب جولف الكمباوند بـ18 حفرة. كم من الأثرياء يمارسون الجولف؟!

كان حتميًا أن تضع هذه الفيديوهات المسألة الساحلية على قاعدة العدالة الاجتماعية في وجهها التبسيطي، الذي وصل بنا إلى شرخ عميق بين أثرياء يُنظر إليهم بوصفهم "لصوصًا"، وبين طبقات أخرى يراها هؤلاء الأثرياء مجرد رعاع حاقدين. وهذا هو الفخ الأكبر بين جملة الأفخاخ المنصوبة في طريقنا، مجتمعًا ودولة.

السياسة إذن هي مخ الاقتصاد والمجتمع وهي التي تؤسس للسلم العام وتضع الحفر الأكثر عددًا من حفر ملعب جولف في طريق التنمية

اخترع الحس الفكاهي صفتيّ "الساحل الطيب" و"الساحل الشرير" للتفريق بين القرى الأقل بذخًا والأخرى الجديدة الباذخة. وهذه تسمية غير دقيقة وغير عادلة، إذا كنا جادين في توصيف الشر وتحديد مصدره.

لا يمكن أن تكون الثروة بحد ذاتها مصدرًا للشر، ولا يمكن للفخامة بحد ذاتها أن تكون كذلك، لكنَّ الشر يكمن في الثروةِ إذا انطوت على حقوقٍ للغير لم تؤدَّ وهناك ثروات بالفعل نشأت بالتمييز عند الحصول على أصلها من أرض وتسهيلات ومن الثروات ما لا تؤدى عليها الضرائب. وكذلك فخامة القرية السياحية ليست شريرة إلا من جانب حرمان غير الأثرياء من حقوقهم الشاطئية.

قبل أن أرى بعينيَّ كنت أحس ببعض المبالغة في الحديث عن تلاصق القرى، والمحزن أن التجربة العملية طابقت الصورة النظرية عن المكان. على امتداد الطريق لا يمكن لمسافر أن يُوقف سيارته ويهبط باتجاه الشاطئ ليرى إن كان البحر موجودًا في مكانه.

فكرت حتى بالهدر الناتج عن تكرار الأسوار بين كل مجموعة شاليهات تستحوذ على مساحة من الأرض والبحر وتغلق عليها بسور ولافتة وبوابات وحراس. هذا شيء لا مثيل له في العالم، باستثناء بعض المنتجعات الآسيوية التي ارتضت لنفسها دور سياحة الترفيه والسياحة الجنسية خضوعًا للترسيمة الرأسمالية  العالمية، وهناك ماليزيا، في المنطقة ذاتها لم تتحول إلى ماخور للعالم. كانت محظوظة بمهاتير محمد صاحب العقل التنموي الوطني. تحظر ماليزيا على الفنادق والمنشآت السياحية احتجاز أي مساحة خاصة لنفسها من البحر، رغم وفرة شواطئها.

هذه العدالة في استخدام الشواطئ الماليزية ليست معزولةً عن تدابير عمرانية أخرى، منها مثلًا أن الدولة تبني غالبية المساكن، وتحول دون استقلال أبناء أي عرقية أو دين واحد بعمارة سكنية. 

السياسة إذن هي مخ الاقتصاد والمجتمع. هي التي تؤسس للسلم العام وهي التي تضع الحفر الأكثر عددًا من حفر ملعب جولف في طريق التنمية. السياسة وتوجهات الحكم هي التي تتسبب في التوصيفات الخاطئة حتى للمفاهيم الكبرى كالخير والشر.

هل هناك ساحل طيب أصلًا؟

في رحلتي اليتيمة عرفتُ سوء الحظ، ورأيت الخطأ في توصيف الخير والشر. قبل ليلة من السفر بدأت آلام في ركبتي. لم أكترث لها فتزايدت. ولم يكن العارض الطبي هو المانع فحسب؛ فحتى الأصحاء منعتهم راية الخطر المرفوعة على الدوام من نزول البحر. ويبدو أن لغة التخاطب بالرايات اختُصرت في الراية الحمراء، بينما كانت في الماضي مطابقة لنظام الإشارات الدولي على الشواطئ من الأبيض إلى الأسود.

مصيفون في بورسعيد عام 2010
 

عرفت أن سوء الحظ ذاك يمكن أن يلازم ملاك القرى الموصوفة بـ"الطيبة" في معظم أوقات إقامتهم، لأن البحر أمامها خط مستقيم، بخلاف القرى الشريرة التي استحوذت على القطع المميزة من البحر الذبيح.

بعضها يبتلع مصايف الماضي بخلجانها الطبيعية التي تروض الموج، وبعضها أقام مصدات صناعية دون نظر للتداعيات البيئية. بهذا المعنى سكان الساحل الطيب اشتروا التروماي على قد فلوسهم، لهم من البحر رائحته فحسب، وبهذا التمتع المحدود، فهذه القرى مظلومة، دون أن يصح وصفها بالطيبة، لأن وضعها كبنيان مرصوص إلى حد مصادرة حق الوصول إلى البحر يجعلها شريرة، لكن علينا أن نؤكد أن الشرير هو من سمح بهذا التراص.

بالانتباه إلى التفاصيل بعيدًا عن قسمة الساحل إلى كتلتين، يمكن بسهولة أن نلتقي بالشر في كل مكان.

المواطن الجشع هو مواطن شاطئي لنحو شهرين فحسب لكنه منا بقية العام

في يومي الأول من زيارتي أردت استنشاق هواء البحر. ذهبت إلى الشاطئ. لم أجد كرسيًّا واحدًا، وكانت هناك امرأة كهلة مع أخرى شابة، تجلسان على كرسيين وتحتجزان ستة. كل ثلاثة ملبَّسة في بعضها لتبدو كرسيين فحسب. رفضت المرأة أن تتخلى لي عن كرسي واحد، رغم أن الشمس مالت للمغيب، ولم يعد سوى نصف ساعة على انتهاء اليوم. في بقية الإقامة لمست طبقية تقسم سكان القرية الطيبة حسب نماذجها: الفيلا والشاليه والشقة في عمارات محاذية للطريق، لكن طبقية كل سكان القرية الطيبة تتوحد معًا على الشاطئ  ضد من يصفونهم بـ"السرسجية والهمج" من سكان قرى جنوب الطريق بلا بحر الذين يدخلون القرية البحرية نظير رسوم.

الجشع والطبقية غير العقلانيين في قرية ساحلية موصوفة بالطيبة يؤكدان أن الشر لا ينبع من ماء البحر ولا من شاليهاته، لكنه قادم من عمق الجغرافيا والتاريخ المصريين، فالمواطن الجشع هو مواطن شاطئي لنحو شهرين فحسب، لكنه منا بقية العام. والجشع نفسه نراه في أغرب الصور؛ التدافع أمام البوفيهات المفتوحة، لا يقتصر على شراهة غرف طعام فوق الحاجة، بعض الشرهين يحاولون إعاقة الآخرين لمنع وصولهم إلى ما تركه في الأواني! ونرى تلك الشراهة لدى من يزيد سرعة سيارته، ربما لترويع المشاة الذين يعبرون، وربما اعتقادًا بأن الطريق ستختفي.

هذا التمييز العريق

خصخصة نِعم الله وتصنيف البشر طبقيًّا وسيادة مبدأ الجباية العامي والبسيط والمؤذي تدبير سلطة تزايدت وتيرته خلال العقود الثلاثة الأخيرة، مظهره الأبرز والأكثر عرضة للنقد هو الاستثمار الساحلي وموضة الكمباوند بالمدن، لكنه عريق عراقة نوادينا الرياضية ونوادي الفئات ذات الامتيازات الخاصة تحت الاحتلال الأجنبي وتحت التسلط الوطني على السواء.

أي وجدان عام يمكن أن يجمع المصريين في الوقت الراهن بينما نعاني التمييز من المدرسة إلى المصيف

كثيرًا ما وجدتُ صعوبة في شرح معنى أنني تناولت إفطارًا أو غداءً في النادي لصديق أجنبي. لا أحد يفهم معنى أن يكون الناس أعضاء في النادي الأهلي أو نادي الزمالك، أليست هذه فرق كرة قدم؟! أشرح طبيعة النوادي المصرية والمميزات التي تخولها العضوية، وأجد أنها كلها موجودة في الحدائق العامة والغابات الكبرى المجانية في كل مكان بالمدن على مستوى العالم، فأفهم لماذا لا يفهم الأجنبي ضرورة أن يكون عضوًا في نادٍ.

اللامساواة نفسها مؤسسة منذ نعومة الأظفار في التعليم. تمتعت مصر بحقبة ذهبية للمساواة في الفرص التعليمية ولدت على يد ضباط يوليو وتآكلت على يد الضباط أنفسهم. انهيار التعليم العام وفتح باب التعليم الخاص والأجنبي بدَّدا مبدأ تكافؤ الفرص، وضرب تمرين العيش المشترك في مقتل، حيث لم يعد الأطفال يذهبون لمدارس متشابهة ولا يتلقون مناهج واحدة، ومن الطبيعي أن يكون تطلعهم لأوطان اللغات التي يدرسونها.

اليوم أصبح من باب التبسيط أن نشير إلى ثنائية تقسيم البلاد اجتماعيًّا إلى بلدين؛ مصر وإيجيبت، بل صارت مصر إيغبتن، وإيجيتو وآيجي.. إلى آخر اللغات التي يتعلمها المصريون في مدارس النخب، بينما لا يتعلم أبناء غير القادرين العربية حتى. والأدهى أن هذه المسيرة التعليمية تنتهي بهجرة المؤهلين للعمل في بلدان أخرى وهجرة غير المؤهلين للعمل في المهن البسيطة بالبلدان الأخرى!

أي وجدان عام يمكن أن يجمع المصريين في الوقت الراهن بينما نعاني التمييز من المدرسة إلى المصيف.

حُفر أخرى

أحد مشروعات الساحل الشمالي ، نوفمبر 2024

ليس من العقل تحميل الساحل كل شرور الفوضى واللاعدالة. وأتصور أن سؤال العدالة الاجتماعية الموسمي لم يكن لينطوي على كل هذا التباغض الاجتماعي والعنف في الطرح، لو أن الدولة حافظتْ على شيء من تكافؤ الفرص، وتركت ولو مساحة كمباوند بين كل مجموعة كمباوندات، وزودت هذا الخلاء الحر بالخدمات البسيطة كالمغاسل والحمامات، لتتيح إمكانية مصايف التخييم كما نرى في كل شواطئ الدنيا.

غياب العدالة الاجتماعية حقيقة صنعتها دولة لا تضع كل السكان في عين واحدة، لكنها ليست الحفرة الوحيدة التي تنطوي عليها هذه العشوائية الفاخرة على الساحل.

هناك حفرة اقتصادية لأن كل هذا العمران معطَّل معظم العام. وقد بدأت الدولة تعي هذا المأزق، وهناك خطة معلنة لتنمية العمق والاستفادة من إمكانات المياه للزراعة والتصنيع. ولكن يبقى سؤال الجدية في تنفيذ هذه النيّات، والمهارة في ربط عناصر التنمية ببعضها البعض، وهذا الشرط الأخير يعيدنا إلى مبدأ الدائرة الذي ألح عليه دائمًا لتحقيق الاستدامة والتوازن والتكامل في التنمية.

من العناصر المهمة على سبيل المثال، النقل. هل من المعقول التفكير باستثمارات في المنطقة في ظل هذا العدد الرهيب من المركبات الخاصة والشاحنات؟ هل سينجح القطار الكهربائي في تخفيف هول يوم القيامة عن الطريق البري عبر مساره المعلن الذي يُحتِّم على سكان القاهرة السفر للوصول إلى محطة من محطات الأطراف؟ هل ينبغي تدارك الأمر وربطه بمحطة رمسيس في قلب القاهرة؟

بجوار الأسئلة الاقتصادية وفي القلب منها سؤال البيئة. مخاطر ارتفاع منسوب البحر لم تعد بعيدة؛ فهي مضطردة، ومن المتوقع أن يبلغ الارتفاع مترًا في عام 2100 وهذا يهدد بتهجير 6 ملايين مواطن من المناطق المنخفضة بطول الساحل. وليس هذا التاريخ بعيدًا، مواليد هذا العام سيعيشون هذه المشكلة عندما يبلغون السبعين. لكن ارتفاع النصف متر أقرب من ذلك، وستكون له تداعياته. ونحن نتذكر عام 2000 كما لو كان بالأمس. ربع قرن أفنيناه وقوفًا في مكاننا.

الغابات من الحلول البيئية الناجعة لترويض موج البحر، وليس زراعات القرى السياحية من نجيلة الجولف إلى النخيل الهش الذي يتعرض لنحر الريح. من الطبيعي أن النظر إلى الزراعة بوصفها "لاند سكيب" يحقق الجمال ويتيح الرؤية يختلف عن النظر إلى الغابات الكثيفة التي تفيد في شأن التحولات المناخية العنيفة.

الحفر كثيرة بالفعل، ولردم هذه الحفر يجب أن تتحرر الرؤية السياسية من البيزنس، لأن الدولة أوسع وأعقد من بقالة، وليس من المنطقي أن يحكمها الربح وحده.

وأما عن الشر؛ فهو يقينًا، لم يولد في الساحل. لكنه يغطي مساحة القطر المصري، ترفده أنهار تتوحد في مجرى واحد يصب في البحر صيفًا، كما يصب النيل. وللمصادفة فالصيف أيضًا وقت فيضان النيل، لكن الغالبية لم تعد تنتبه لموسم الفيضان بعد ترويضه بالسد العالي، ثم تضاعف الأمر بعد إخفاء النهر خلف المطاعم والنوادي الفئوية في كل المدن التي تقع على مساره.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.