أعادت لنا السوشيال ميديا، خاصة فيسبوك، صورة مثالية للروابط الإنسانية، سواء كان مكانها البيت، أو محيط الأصدقاء، أو حتى الزملاء. هذه الصورة التي فقدناها في الواقع، مع التفكك الذي يحدث في المجتمعات العالمية، والمصرية، منذ عقود، تبعًا لعلاقات استهلاكية جديدة، أفقدت أي روابط إنسانية حسها القديم، الذي كان بدوره يبدو مثاليًا، عكس الحقيقة.
في كلا الحالين، قديمًا وحديثًا، كانت هناك حقيقة وواقع مفقودين. ربما لإحساسنا، كأعضاء في هذا المجتمع الافتراضي، بأننا مغتربون وسط ذلك الفضاء الأزرق الكبير، نعيش حالة من الوحدة المجسمة التي أصبح لها صوت وجمهور يمكن أن يستمع إليها، وكونٌ نقش اسم أحدهم بمثابة تخليدًا لن يزول.
أدوار متناقضة للحزن
قبل أن يسيطر ذلك العالم الافتراضي، وأدبياته، كانت هناك أشباح تمرد من قِبل الفرد على الجماعة، العائلة، أو الأصدقاء، فظهرت العديد من الأدبيات، على نطاق ضيق، تؤرخ لتلك الحالة، وتصف بموضوعية كبيرة الصدام بين الفرد والجماعة. قضت السوشيال ميديا على أشكال كثيرة من النقد الذاتي والتمرد، وخلقت أشكالًا أخرى ارتبط أغلبها بالجانب السياسي المباشر من الحياة، وليس الحميم الذي يحوط بالفرد منا. قبل ذلك.
تنتابنا مشاعر خوف خاصة عند مرض أحدهم أو حزن جارف عند وفاته، ينزع عقال العقل، وتنطلق مشاعر غريزية لم تكن تبدو بهذه القوة في الواقع، ولكنها حررت بدون أخذ مسافة منها، لتعبر عن فداحة الفقد، الذي يذيب صاحبه تمامًا ويلغيه، كأنه رثاء للذات نفسها وليس للآخر. فحضور الجمهور غير المرئي يشدد من وطأة الحزن على صاحبه، ويلغي تلك المسافة بينه وبين الآخر. ربما مشاعر عميقة مثل الحزن تدمج في داخلها عدة أدوار متناقضة.
يفرض علينا الإحساس الجماعي بأننا جزء من كل، كأننا عندما نتكلم أمام ذلك المجتمع الكبير نستعيد روابط قديمة ترتبط بالجماعة وذاكرتها الشخصية والصور المنقوشة في لاوعيها الجمعي
ذاتية مفرطة
ربما سيطرة السوشيال ميديا، وحضور الجمهور/ المجتمع، بهذا الشكل المفرط وغير المسبوق، الذي نتكلم أمامه ونستعيد معه روابطنا الرمزية؛ كان السبب المباشر في عودة تلك الصورة المثالية للعلاقات، وتوسيع مجال المشاعر الجماعية الغفل، ويفرض علينا الإحساس الجماعي بأننا جزء من كل، كأننا عندما نتكلم أمام ذلك المجتمع الكبير نستعيد روابط قديمة ترتبط بالجماعة وذاكرتها الشخصية والصور المنقوشة في لا وعيها الجمعي، الذي يمثله ذلك العالم الافتراضي.
كل هذا كان يتم موازيًا لمفهوم "الذاتية المفرطة" التي أخذت تتضخم بجوار الفضاء المتوسع، التي تريد أن تسيطر عليه، وترسم أمامه صورتها بحساسية فائقة، لتكون عند حسن ظن الجماعة، ولاوعيها بها.
أصبح فيسبوك "النسخة السالبة" من الحياة نفسها، وعندما نجلس أمام الشاشة يتحد العالمان، الواقعي والافتراضي، نشارك بأجسادنا من العالم الواقعي، ونشارك أيضًا بخيالنا في ذلك العالم الافتراضي، ربما كنا جاهزين للانقسام، أو كان الانقسام يحدث من قبل بين واقعي وافتراضي، ولكن بطرق أخرى يعبر بها عن نفسه، بدون أن يتم لأم ذلك الازدواج.
الاعتراف أمام الجماعة
هناك ممارسة أخرى يضطرنا إليها فيسبوك، على سبيل المثال: ذلك الاندفاع المفاجئ لكشف كل شيء والاعتراف أمام "الجماعة" بكل ما يجري أثناء يومنا العادي، حتى ولو كان بسيطًا، أو لا قيمة له، فأمام الجماعة لا شيء لا قيمة له، لأنه نوع من الاعتراف الشفاف الذي يحقق لتلك "الجماعة المتخيلة" داخل فيسبوك جدواها.
بجانب الفائدة التي تعود على صاحب الحساب، كونه يمنح "لا وعي" تلك الجماعة القوة في استنزاف الحقائق، ويغذي، في الوقت نفسه، تلك "الذاتية المفرطة" التي خلقتها وسائل التواصل، كونها ذاتية دون آخر، تتضخم في فضاء من غير حواجز، ولكنها تحاول أن تصنع ذلك "الآخر" تحت شروط جديدة، ليس فقط العزلة، ولكن التعامل مع ذلك "اللاوعي الجمعي" المسيطر على تلك الوسائل بوصفه "آخر".
للمرة الأولى يتشخصن ذلك اللاوعي الجمعي داخل حيز فضاء أو مكان ما، مهما كان متسعًا، بعد أن كان في السابق طليقًا في خيالنا فقط،، وفي بعض الرموز الجمعية بدون تعيين لمكان يحدده.
ربما التركيز على اضطرارنا لتلك "الشفافية غير المختارة" التي تجبرنا عليها السوشيال ميديا، هو استجابتنا لنوع من الرقابة التي يفرضها علينا "اللا وعي الجمعي" لذلك الواقع الافتراضي، مقابل سماحه لنا بأن نمارس "ذاتيتنا المفرطة"، بل ونتلاعب بها، بحرية وأحيانًا نزق.
عائلة جديدة تظهر على الشاشة
أصبح لدينا سجل بالتفاصيل الدقيقة لعائلة كل فرد منا، ومن أصدقائنا الافتراضيين حتى ولو لم نعرفهم مباشرة.
هناك عائلة تسكن شاشة صاحب الحساب، وهناك الكثير من الرسائل الموجهة لهم وعنهم، بالرغم من أن صاحبها يعيش مع أبطال حكايته يوميًا. ولكنه يمكن تفسير ذلك النشاط بأنه، عبر السوشيال ميديا، يتم الحديث عن ومخاطبة "عائلة جديدة"، ليست استمرارًا للعائلة القديمة، تم خلقها على الشاشة.
تلك العائلة التي تبرز خوفنا من فقدها وذاتيتنا معًا. يخلق فيسبوك أمًا وأبًا جديدين، مرتبطين بذلك اللا وعي الجمعي، يتم الحديث عنها ومعها.
ربما ساهمت السوشيال ميديا في خلق مجتمع جديد يسمى افتراضيًا، ولكنه في الحقيقة أصبحت له قوة المجتمع الحقيقي لكثرة الحاضرين فيه، وعودة السيطرة للاوعي الجمعي عليه. بجانب ازدواج الأدوار وسهولة التنقل من الواقعي للافتراضي، والعكس.
ربما سمح فيسبوك بصناعة "نص كبير"، وأصبحنا جميعًا كتابًا ومؤلفين، ننظر لأنفسنا من تلك الزاوية
مجتمعات متخيلة
أصبح فيسبوك رواية الحياة اليومية، بسبب سرعة الانتشار والتأثير للكتابات، بجانب ذاتية البوستات لصاحب الحساب، التي تجعل فكرة "الكاتب"، حاضرة في الكتابة، وفي عدواها، فالنسْخ والعدوى أيضًا أصبحا جزءًا من تلك الآلية.
من قبل أطلق بندكت أندرسون، المؤرخ واستاذ العلوم السياسية، في كتابة المهم "المجتمعات المتخلية"؛ أن الصحافة والرواية، اللتان انتشرتا في القرن الثامن عشر، كانتا الأداتين اللتين ساهمتا في إعادة تقديم "المجتمعات المتخيلة"، ألا وهي الأمة.
فالصحافة استفادت من الرواية في اعتمادها على فكرة "التزامن"، داخل " الزمن المتجانس الفارغ" حسب تعبير الفيلسوف الألماني فالتر بنيامين، وضمن ذلك الزمن يسير العالم إلى الأمام، ويمكن استبدال خبر بآخر في الصحيفة، ويظل القديم موجودًا في ذهن القارئ. هذا الشكل الروائي الذي تتسم به الصحيفة تجعلك تنتظر ظهور خبر اعتدت عليه من جديد.
هذا "التزامن" يجمع مجموعة من الأخبار، أو القصص، أو الأحداث المتباعدة لتوضع بجانب بعضها البعض في الصحيفة، كل منها حدث على نحو مستقل، دون أن يعلم الفاعلون بوجود الآخر بجواره أو ماينون القيام به.
الرابط بين تلك الأحداث المتناثرة متخيل، بسبب ذلك التزامن الذي حدث صدفة. بذا يتكون الشكل الروائي التزامني، كمجموعة من الأحداث لا علاقة بين بعضها البعض سوى صدفة التواجد في مكان واحد، سواء كان صفحات الرواية أو الصحيفة.
ربما أشبهه بالتايم لاين الآن، الذي يصنع رابطة متخيلة بيننا وبين المجتمع الكبير داخل ذلك الفضاء الأزرق. ربما "روايات فيسبوك" أكثر اكتمالًا وأسرع في إيقاعها من الصحيفة. رواية تظهر وأخرى تختفي، ربما مايسمى بالترند، أصبح أصحابها ليسوا من الكتاب فقط بل أيضا من "المؤثرين".
هناك عواطف من الصعب أن تظهر بذلك الوضوح والقوة والسرية في العالم الواقعي، ربما سمح فيسبوك بصناعة "نص كبير"، وأصبحنا جميعًا كتابًا ومؤلفين، ننظر لأنفسنا من تلك الزاوية؛ وانفصالًا عن العالم الواقعي، هناك رواية كبيرة ممتدة ومسلسلة تكتبها وسائل التواصل الاجتماعي.
عندما يتحول الجسد إلى نص
أحيانًا يصل الكشف والتعرية الذاتية، لممارسة تؤذي نفس صاحبها، كما فعلت الفتاة ذات العشرين ربيعًا علياء المهدي، يوم 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2011 عندما عرضت جسدها عاريًا على صفحتها معلنة أن الصورة "صرخة ضد مجتمع العنف والعنصرية والتمييز الجنسي والتحرش الجنسي، والنفاق". لكنها في الطريق أغفلت أن ذلك الجسد له أيضًا قانونه في الكشف عن نفسه، وله امتدادات أوسع في اللا وعي الجمعي، بعيدًا عن أي قضية يزج به داخلها، كونه أسبق من أي عبودية أو اضطهاد.
داخل فيسبوك هناك نماذج سابقة تضعنا في تحدٍّ مع أنفسنا، وربما نريد أن تكون لنا السابقة الأولى.لكن الحياة تمر بسرعة، و"الأزمنة المتجانسة الفارغة" تطفو وتختفي، والكتاَّب يظهرون ويختفون سريعًا، ولا أحد يملك سلطة أكبر من نفسه، أو جسده، للسيطرة على ذلك الطوفان، فهناك استهلاك يومي للحكايات والتفاصيل والحياة والموت.
كان عداد مدونة علياء المهدي، عندما عرضت صورتها عارية، يقفز بالآلاف في اللحظة نفسها، كأنها عربة تجاوزت عداد السرعة، مئات الآلاف، بلا أي مبالغة، ينتظرون رؤية ذلك الجسد. كانت هي وجسدها قربانًا لتلك "الرواية"، أو "الصرخة" أو "الاستعراض"، ثم دخلت في طي النسيان وتحولت إلى "نص" في أرشيف للدراسات الاجتماعية. رواية حزينة دفعتها إليها حالة التعري العام بعد ثورة يناير، عرضت الجسد نفسه وليست تفاصيل حياته، تحول الجسد إلى بطل منفرد، نص متعال، ووقفت هي وراءه تحصي شعبيته الجارفة. ربما باختفاء تلك الجماهير لا أعرف ما هي علاقتها بهذا الجسد/ النص الآن؟