منشور
الأحد 15 ديسمبر 2024
- آخر تحديث
الثلاثاء 17 ديسمبر 2024
"الأسد ترك سوريا مزرعة للمطامع الإيرانية". هكذا استهل محمد الجولاني سابقًا، أحمد الشرع حاليًا، حديثه للجماهير الحاشدة في الجامع الأموي بدمشق، معلنًا بشكل واضح أنه أتى لتخليص البلاد من النفوذ الإيراني.
لم يتحدث الرجل عن تركيا ودورها، ولا عن إسرائيل وعدوانها، أو تطرق إلى روسيا وتدخلاتها، فقط إيران هي التي أشار إليها، وقبل سويعات قليلة من اقتحام مقر السفارة الإيرانية في دمشق.
صعود السلفية السنية الجهادية لصدارة المشهد في سوريا هو آخر حلقات مسلسل التغيرات الدراماتيكية التي يشهدها الشرق الأوسط منذ السابع من أكتوبر، لكنها ليست الأخيرة.
ولإدراك ما يحدث اليوم وما قد يحدث غدًا في سوريا، علينا النظر قليلًا إلى جوارها الإقليمي وأن نعود قليلًا إلى الوراء، حيث طوفان الأقصى. لا بغرض الاحتفاء أو الانتقاد، لكن لجرد الأرباح والخسائر، بعيدًا عن مشاعر الغضب والفخر.
ما جرفه الطوفان في إسرائيل
كان الهجوم المباغت الذي شنته الفصائل الفلسطينية بقيادة حركة حماس على مستوطنات غلاف غزة في إسرائيل يوم السابع من أكتوبر الماضي، وبكل المقاييس، عملية عسكرية ناجحة بامتياز، ليس فقط في قوتها ودقة تنفيذها إذ أسفرت عن مقتل نحو 1200 إسرائيلي واحتجاز 251 رهينة، بل الأهم في قدرتها على خداع الاستخبارات الإسرائيلية، والتحضير لها وتنفيذها دون أن تتسرب المعلومة إلى إسرائيل، أو تلتقطها أجهزتها وأقمارها الصناعية.
كشف نجاح الهجوم الفلسطيني عن أن الاستخبارات الإسرائيلية ليست بتلك العبقرية التي سوَّقت نفسها بها طوال سنوات، ليتبيَّن أنها مثل باقي الأجهزة الأمنية في المنطقة؛ يعلوها التكلس ويهزمها الكسل والتواكل، حتى إنَّ عملية بهذا الحجم أُعدَّ لها ونُفِّذت تحت عيونها في قطاع غزة الذي تحاصره وتراقبه إسرائيل على مدار الساعة، ليُفاجأ الجنرالات الإسرائيليون برجال حماس فوق رؤوسهم شاهرين أسلحتهم.
هذا نصر ليس بالهين، حينها على الأقل، لأنه ضرب مفهوم الأسطورة الاستخباراتية الإسرائيلية، وكشف أن بعبع الموساد ليس ماردًا عصيًا بل جهازًا عاديًا يمكن خداعه وتغفيله.
بالإضافة إلى ذلك، زعزع الطوفان ثقة سكان المستوطنات بدوام حياتهم الهانئة في الأراضي الفلسطينية. فالرسالة التي وصلت كانت "هذه أرضنا وشعوركم بالأمان والطمأنينة عليها زائف"، فيّد المقاومة قد تطولكم فيها في أي حين. وتلك النقطة تحديدًا بدا أنها تعرقل المشروع الإسرائيلي التوسعي القائم على تسويق إسرائيل كواحة أمن وأمان ليهود العالم، بغية جلبهم إليها.
أما المكسب الثالث، وهو الأهم، كان ضرب أسطورة المظلومية الإسرائيلية، الأسطورة التي سوقها الإعلام الغربي للإسرائيليين باعتبارهم شعبًا متحضرًا في بلد ديمقراطي محاط ببلاد متخلفة ديكتاتورية تناصبه العداء بلا مبرر إلا كونهم يهودًا، معتمدةً على المظلومية التاريخية لاضطهاد اليهود في العالم.
هذه السردية المهيمنة على العقلية الغربية والعالمية تبددت بصورة كبيرة بعد حرب غزة، حين أعادت صور المجازر صياغة وجه إسرائيل أمام العالم من جديد، خاصة الشباب، وبدت على حقيقتها كدولة دموية تمارس الإبادة بحق شعب أعزل، في عقاب جماعي وحشي لم يشهده التاريخ الحديث.
.. وما ارتدَّ على العرب
غير أن تلك المكاسب قابلتها أثمان فادحة ونتائج سياسية لن ينتهي أثرها في القريب العاجل. صحيحٌ أن أغلى هذه الأثمان دفعها أهالي غزة الذين سقط لهم أكثر من 40 ألف قتيل و100 ألف مصاب بإصابات بالغة الخطورة، فضلًا عن تدمير القطاع الذي تشير التقارير إلى أن تكلفة إعادة إعماره ستتجاوز 80 مليار دولار، ولكن آخرين ساهموا في دفع الأثمان.
كان من بين هؤلاء أهالي لبنان وبالذات جنوبه، الذين قُصِفت قراهم وهُجِّروا منها، بعد عمليات "الإسناد" التي نفذها حزب الله، وردت عليها إسرائيل بقصف الجنوب ثم لبنان كله، ليسقط قرابة أربعة آلاف قتيل، في حرب اشتد وطيسها لأكثر من سنة كاملة إلى أن وصل الجانبان لاتفاق بوقف إطلاق النار.
لكن الخسائر البشرية المباشرة، وهي الأغلى والأهم، صاحبتها نتائج سياسية كاشفة في أبسط التعريفات، فاضحة في أوضحها.
أولى تلك الاكتشافات المصحوبة بمفاجأة الصدمة، كانت كشف حقيقة "قوة" محور ما عرف بالممانعة، حيث اتضح أننا إزاء محور هش، يمكن ضربه وتقليم أذرعه بسهولة. وفي أول اختبار حقيقي لقوته، اختُرِقت إيران في عقر دارها، وقُتل على أراضيها رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية.
كما بيَّنت لنا عملية البيجر مدى اختراق حزب الله، قبل أن تَقتل إسرائيل زعيمه حسن نصر الله، ومن خلفه القيادات واحدًا تلو الآخر، في قصف يرجِّح أن هناك من رجالهم من يسلمونهم ويرشدون عن أماكنهم، لتفقد إيران أحد أقوى أذرعها الإقليمية في الشرق الأوسط، الذي استثمرت في تسليحه وتدريب مقاتليه طيلة عشرين سنة ماضية.
وأخيرًا وليس آخرًا، أُطيح بنظام الأسد الموالي لإيران في سوريا، ليحل محله نظام جديد معادٍ لإيران، ولقادته جذور سنية جهادية تناصب الشيعة العداء. لتفقد إيران أيضًا خط الإمداد الواصل إلى حزب الله والذي طالما شكَّل صداعًا لإسرائيل، وتفقد معه أي أمل في إعادة تسليح الحزب.
خلاصة قد لا نحبها
بحسابات الربح والخسارة، تبدو إسرائيل اليوم هي الرابح الأكبر من طوفان الأقصى. فخلال سنة دُمرت غزة تمامًا، وقُلمت أذرع عدوها الأكبر إيران في لبنان وسوريا، وباتت هي وتركيا اللاعبين البارزين في الإقليم بعدما خرجت إيران من المعادلة بشكل كبير.
انظر إلى السنوار كيفما شئت. بطل مناضل أو متهور أرعن، فهذا اختيارك. لكن الحقيقة المؤلمة أن إسرائيل التي كشفت هشاشة من قمعوا شعوبهم بحجة الممانعة، التقطت عصاه وضربت بها الجميع في الشرق الأوسط لتتسيّده.