تسارعت الأحداث منذ العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة، وانتشرت إثرها تعليقات لخبراء مصريين، بعضهم عسكريون متقاعدون، وآخرون شغلوا مناصب أمنية عليا، تقلل من خطوة محتملة لاحتلال إسرائيل محور فيلادلفيا الواقع على الحدود مع غزة، بدعوى أن ذلك لا يمثل اعتداءً مباشرًا على مصر.
وهي مقاربة تفترض أن احتلال المحور أمر جائز بعد تنسيق من اللجنة الأمنية المصرية الإسرائيلية، انطلاقًا من سابقة موافقة الأخيرة على زيادة القدرة العسكرية للقوات المصرية في المنطقة ج منزوعة السلاح، أثناء العملية الأمنية التي خاضتها الدولة ضد تنظيم ولاية سيناء، وكأن مصر بذلك ترد "المجاملة" إلى إسرائيل من منطلق المعاملة بالمثل.
نحن هنا أمام أزمة خيال لدى من يقدمون أنفسهم باعتبارهم "استراتيجيين"، فتلك التعليقات دليل على مدى الخفة والركاكة التي يتم من خلالها تناول حدث خطير مثل إعادة احتلال منطقة عازلة بين مصر وقطاع غزة، خصوصًا في الوقت الذي انتقلت فيه إسرائيل من مرحلة التلميح إلى الضغط للموافقة على إزاحة سكان غزة، وتنفيذ "ترانسفير" إجباري هدفه التغيير الديموغرافي للقطاع، وإحلال آخرين ينطقون بالعبرية محل سكانه العرب.
محور الأزمة
يمتد محور فيلادلفيا بطول 14 كم بين مصر وقطاع غزة، ويعد وفقًا لمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية منطقة عازلة. وتطور الوجود المصري فيه عام 2005، بعد أن وقعت مع إسرائيل بروتوكولًا سمح بنشر 750 جنديًا مصريًا على طول الحدود مع غزة لمكافحة الإرهاب والتسلل.
وبعد مرور عامين من توقيع ذلك البروتوكول، شاركت حركة حماس مصر السيطرة على ذلك الممر الضيق، الذي لا يزيد عرضه عن بضع مئات الأمتار، ثم في عام 2008 تمكن عشرات الآلاف من سكان غزة المحاصرين من تجاوزه والدخول إلى الأراضي المصرية للحصول على احتياجاتهم الأساسية بعد حصار خانق فرضته إسرائيل على القطاع، ما دفع مصر لاحقًا إلى اتخاذ إجراءات أكثر تشددًا لمنع أي اختراق مستقبلي.
إن إعادة احتلال المحور تعد أزمة حقيقية للأمن المصري، وليس كما يصوره بعض الاستراتيجيين، أنه "مش مشكلة بقى" باعتبارها أراضي غير مصرية.
المساواة بين موافقة إسرائيل على مواجهة داعش وبين موافقة مصر على احتلال فيلاديلفيا قياس شديد السذاجة
هؤلاء يعدون تهديد الأمن القومي المصري لا ينبع إلا من احتلال أجزاء من أراضي الدولة. لكن احتلال منطقة عازلة بين مصر وإسرائيل، وهي غزة بشكل عام، ومحور فيلادلفيا بشكل خاص، تهديد حقيقي للأمن المصري، خاصة أنه يأتي في خضم عملية عسكرية هي الأخطر في المنطقة منذ عقود، بما تحمله من تهديدات ضمنية تستهدف توجيه الفلسطينيين بالقوة للاستيطان في مصر.
إن التقليل من أهمية إعادة احتلال المحور بدعوى وقوعه خارج الدولة رؤية مغرقة في قصر النظر، فمن المعروف بالضرورة أن الحدود الأمنية أبعد كثيرًا من الحدود السياسية، وأن اختراق المناطق العازلة/buffer zones أثناء عمليات عسكرية معادية، أو شبه معادية، أمر يستدعي الانتباه، خاصة أن إسرائيل تعلن نيتها مطاردة قادة حماس في أنفاق عابرة للحدود المصرية، أي أنها تشير ضمنيًا إلى احتمالية تمدد نشاطها العسكري لأراضٍ مصرية في سبيل تلك المطاردة.
مساواة هؤلاء الخبراء موافقة إسرائيل على نشر قوات مصرية لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية، بعمليات إسرائيل في غزة، هو قياس شديد السذاجة. فحين حاربت مصر تنظيم الدولة في سيناء لم تشكل حربها خطرًا على إسرائيل أو تهديدًا لها، على العكس، كان من مصلحة الأخيرة أن تساعد مصر في القضاء على أنشطة عدائية حدودية لجماعات مسلحة.
وكان أي تصرف آخر من إسرائيل سيعد ضد مصالحها المباشرة. أما العملية العسكرية الحالية ضد غزة فحالة مختلفة تمامًا ويشكل توسعها خطرًا كبيرًا على مصر.
لا يمكن ترك تحديد ما يهدد الأمن القومي في يد مجموعة تنظر إليه كوسيلة دعاية للنظام الحاكم
يمكن النظر لمفهوم "واحدة مقابل واحدة"، الذي يسوغه هؤلاء "الاستراتيجيون"، مدخلًا يصلح لمجاملات اجتماعية بين الأفراد. ولكن في تحليل تأثير توسع قوات لديها أهداف معادية معلنة تتعارض مع أهداف مصر وتعرض أمنها القومي للخطر، سيكون خطيئة تحليلية وقع فيها الاستراتيجيون الكبار.
أيضًا، إن كانت مصر جادة في وضع خطوط حمراء لعدم تهجير الفلسطينيين إليها، وأظنها جادة، فيجب أن ترفض بشكل معلن أي عمليات عسكرية على حدودها يمكن أن تؤدي إلى ذلك. وهو سيناريو كارثي على أي صانع قرار مصري إن حدث، ليس فقط لأنه سيخلق أزمة لاجئين كبرى في سيناء، وإنما لأنه سيضعه أيضًا في مواجهة مباشرة مع الرأي العام، الذي لا يتسامح مع ذلك المخطط. وهو ثمن سياسي كبير لن يحب النظام أن يدفعه خاصة في ظل أزماته الاقتصادية الحالية.
إجمالًا، تجد مصر نفسها في مواجهة تهديد مباشر لمصالحها، خاصة بعد إعلان نتنياهو في اجتماع سري للجنة الأمن والخارجية في الكنيست عن خطط حكومته للسيطرة على محور فيلادلفيا وخط الحدود بين غزة ومصر، ثم أعلنه للكل في مؤتمر صحفي، حيث قال إن منطقة "محور فيلادلفيا" الحدودية بين غزة ومصر ينبغي أن تكون تحت سيطرة إسرائيل.
وبالتالي، فعلى مصر احتواء هذا التهديد لتحقيق أهدافها المتمثلة في التالي:
احتواء الحصار
إن كانت لمصر مصلحة مباشرة في إبقاء الفلسطينيين داخل قطاع غزة، فعليها أن تفكر في طرق بديلة للالتفاف على الحصار الإسرائيلي وتخفيف آثاره. لذا فالحفاظ على منطقة خالية من النفوذ الإسرائيلي بين الجانب الفلسطيني ومصر يتيح للأخيرة فرص التواصل المباشر مع الفلسطينيين وتخفيف الحصار المفروض عليهم دون تدخل إسرائيلي.
أما في حالة احتلال إسرائيل للمحور، فستتمكن من فرض حصار كامل على غزة يجعل الحياة فيها شبه مستحيلة.
تجنب الحسابات الخاطئة
تم تأسيس المناطق العازلة للحيلولة دون القرارات العسكرية الخاطئة، التي قد تضع الأطراف المتنازعة على حافة النزاع العسكري. في حالة احتلال إسرائيل للممر، ستتمكن قوات غير صديقة من السيطرة على المنطقة العازلة، مما يتيح لها إمكانية تنفيذ عمليات عسكرية تعبر الحدود، خاصة في ظل التهديدات بملاحقة قادة حماس داخل أنفاق تزعم إسرائيل أن بعضها يعبر الحدود المصرية.
يحمل هذا في طياته خطر القرارات العسكرية الخاطئة والتطور المحتمل إلى صراع بين قوتين عسكريتين في حالة تضارب المصالح.
منع اكتمال الضغط العسكري على المدنيين
إعادة احتلال المحور تعني أن إسرائيل أكملت مراحل الضغط العسكري على المدنيين الفلسطينيين، الذي بدأته بطردهم من شمال القطاع، ثم توسعت لتشمل الضغط العسكري على الوسط وأخيرًا الجنوب، ما يدفع المدنيين للهرب نحو الحدود المصرية، آخر ملاذ لهم في القطاع.
تحويل منطقة الحدود والمحور إلى منطقة للعمليات العسكرية يمثل المرحلة النهائية التي ستدفع الفلسطينيين إلى ما وراء حدود غزة نفسها، لترحيلهم إجباريًا إلى سيناء، لذا على مصر منع اكتمال هذه الخطة.
يرتكز الأمن القومي لأي دولة على محددات تنطلق من مصادر تهديد تأتي من خارج حدودها، أو مصادر تهديد لقدراتها الذاتية على تحديد عوامل قوتها وتعظيمها. لذا يكون الخطر الخارجي دائمًا أكثر خطورة، ولا يمكن أن يترك تقديره في يد مجموعة ضيقة تنظر إلى "الأمن" عمومًا وسيلة دعاية للنظام الحاكم، أو عملية ميكانيكية لتبادل المجاملات مع الخصوم.