في ظل اتجاه الأنظار لمعركة إسرائيل المحتدمة مع حزب الله ومن ورائه إيران، بدأ جيش الاحتلال واحدة من أوسع عملياته في شمال غزة منذ طوفان الأقصى، أطلقها في السادس من أكتوبر/تشرين الأول الحالي بهجوم ضارٍ على شمال القطاع تخلله قصف جوي وبري وبحري وسبقه فرض حصار مشدد ومنع لإمدادات الغذاء والمياه والدواء والوقود، مع تدمير مربعات سكنية بالكامل.
ينفذ جيش الاحتلال خطته لدفع سكان شمال غزة للنزوح قسرًا والهجرة نحو الجنوب ومنعهم من اللجوء إلى مدينة غزة المجاورة، فطريقهم الوحيد للفرار من الجحيم عبر شارع صلاح الدين الممتد على طول شرقي القطاع من شماله إلى جنوبه.
بات مخيم جباليا هدفًا رئيسيًا للعمليات العسكرية لقوات الاحتلال، وتحوَّل المخيم الذي لجأ إليه الفسلطينيون بعد نكبة 1948 إلى كتلة من النار، وانتشرت جثث الضحايا في الشوارع.
رغم أن الاحتلال لم يُعلِن عن الهدف الرئيسي لتحركاته، فتدمير المرافق العامة وآبار المياه والمخابز ومخازن الطحين، وحرق مراكز الإيواء التابعة للأمم المتحدة، تعد مؤشرات قوية على الشروع في خطة لإخلاء شمال غزة بالكامل في المنطقة الواقعة من شمال محور نتساريم الذي أقامه الاحتلال وسط القطاع، وحتى الحدود مع مستوطنات غلاف غزة، البالغ مساحته 360 كيلومترًا فقط، ويعيش به نحو 2.1 مليون نسمة.
ويعد إخلاء شمال القطاع من السكان وتحويله لمنطقة عسكرية هدفًا رئيسيًا ضمن بنود خطة الجنرالات التي أعدَّها عدد من الجنرالات السابقين تحت قيادة مستشار الأمن الإسرائيلي السابق جيورا أيلاند صاحب خطة نقل الفلسطينيين لسيناء.
ضغط على مصراعيه
ما يجري في غزة لا يضغط فقط على الفلسطينيين، بل يضع مصر في وضع معقد مع استمرار رفضها محاولات تهجير الفلسطينيين وتوطينهم في سيناء.
"ضغط على مصر، وتحدٍ كبير متعلق بفرض جيش الاحتلال مخطط التهجير القسري نحو سيناء" هكذا يرى الخبير في شؤون الأمن القومي والإقليمي اللواء الدكتور أحمد الشحات خطورة خطة الجنرالات على مصر ومستقبل القضية الفلسطينية في آنٍ واحد.
تحوِّل إسرائيل قطاع غزة برمته منطقة غير صالحة للحياة
تسعى إسرائيل لتغيير ملامح قطاع غزة على المستويين الديموغرافي والجغرافي، في محاولة لفرض واقعٍ جديدٍ، ما يعتبره الشحات "التحدي الأكبر لمصر".
اتخذت مصر منذ بداية الحرب موقفًا حاسمًا رافضًا لتهجير الفلسطينيين إلى سيناء، انعكس في كلمات واضحة للرئيس عبد الفتاح السيسي ورئيس مجلس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي الذي ألقى كلمة في جلسة طارئة أمام البرلمان، وردد السيسي ورجاله تصريحات متكررة لرفض توطين أهالي غزة في سيناء في مناسبات مختلفة.
مع ذلك تستمر تل أبيب في مخططها "تعمل على تحويل القطاع برمته إلى منطقة غير صالحة للحياة" يقول خبير شؤون الأمن القومي، محذرًا من أنه في مرحلة لاحقة بعد انتهاء الحرب سيعمل الاحتلال على عرقلة عمليات إعادة الإعمار، لدفع السكان لمغادرة القطاع، منبهًا "وفي هذه الحالة سيكون اندفاعهم نحو الحدود المصرية تحت الحاجة الإنسانية الملحة".
تتكون خطة الجنرالات من عدة مراحل تبدأ بإخلاء شمال القطاع من السكان الذين يقدرون بنحو 300 ألف، وبعد نزوح الفلسطينيين إلى الجنوب عبر طريق الرشيد الساحلي مرورًا بممر نتساريم الممتد من شرق القطاع لغربه ويقسمه إلى نصفين، وإخلاء المنطقة من السكان ستبدأ مرحلة تحويل شمال القطاع إلى منطقة عسكرية مغلقة.
بعد تحقيق الهدف الأول، تفرض الخطة حصارًا شاملًا على من تبقى في شمال القطاع، إضافة لعزل المنطقة عن باقي القطاع، بمنع أي حركة دخول أو خروج منها أو إليها، ووقف المساعدات والإمدادات بما في ذلك الغذاء والوقود والمياه، واعتبار كل من تبقى أهدافًا عسكرية.
"خطة إسرائيل واضحة وهناك مؤشرات عديدة على البدء في تنفيذها" يقول مستشار المركز الوطني للدراسات وخبير الأمن القومي الدكتور أحمد فاروق، مشيرًا إلى إصرار الحكومة الإسرائيلية على تهجير سكان غزة والتخلص منهم "بدا واضحًا في الخريطة التي سبق واستعرضها رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، التي خلت من أي إشارة لغزة أو الضفة الغربية، ولا توجد بها فلسطين من الأساس".
تجويع الفلسطينيين وتكديسهم على الشريط الحدودي يستهدفان غزة ومصر معًا
يلفت فاروق لخطورة وجود كتلة سكانية ضخمة من أهالي القطاع يتجاوز عددهم 2 مليون شخص، في مساحة ضيقة من الأرض، حال نجحت إسرائيل في تنفيذ خطة الجنرالات في شمال غزة، في وقت باتت فيه معظم المناطق في القطاع غير صالحة للحياة حتى بعد انتهاء الحرب، ومع اقتراب فصل الشتاء، وهو ما يثير القلق من احتمالية اندفاع البعض نحو الحدود مع مصر ومحاولة اختراقها.
كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ألقى كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ78، وكشف عن خريطة تظهر فيها مناطق باللون الأخضر الداكن للدول التي تربطها اتفاقات سلام مع إسرائيل أو تخوض مفاوضات لإبرام اتفاقات، وخلت الخريطة من أي وجود لفلسطين فطغى اللون الأزرق، الذي يحمل كلمة إسرائيل، على خريطة الضفة الغربية المحتلة كاملة، وأيضًا قطاع غزة.
غزة ومصر معًا!
"المقاومة والشعب الفلسطيني الذي قدم تضحيات كبيرة ودفع أثمانًا غالية ومؤلمة لن يسمحوا بتحقيق الخطط الإسرائيلية" يقول رئيس الدائرة السياسية بحركة حماس باسم نعيم. بينما يلفت إلى محاولات إسرائيل تفريغ شمال القطاع من السكان عبر المجازر والإبادة والتجويع لدفع السكان نحو الهجرة إلى الجنوب.
في المقابل يحذِّر قيادي بحركة حماس تحدث لـ المنصة مفضلًا عدم ذكر اسمه "الخطة في مجملها تستهدف غزة ومصر معًا"، مشيرًا إلى أن مخطط إسرائيل الذي يستهدف التوسع في تنفيذ عملية التهجير "حال نجح في الشمال سيجري تطبيقه على مناطق أخرى مثل رفح ومخيمات دير البلح أو المحافظة الوسطى".
التفاوض لوقف الحرب وتعزيز الإجراءات الأمنية أدوات مصر في مواجهة خطة الجنرالات
ويدعم حديث مسؤول الدائرة السياسية في حماس ما قاله المفوض العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين فيليب لازاريني، عبر منصة إكس "إن المدنيين في شمال غزة لم يُمنحوا أي خيار سوى مغادرة المنطقة أو الموت جوعًا".
وقال المفوض العام للأونروا إن النظام الصحي في شمال غزة "شبه منهار"، ولم تتمكن المنظمة الدولية من التواصل مع فرقها الميدانية بسبب انقطاع الاتصالات، فضلًا عن تعمد إسرائيل منع تقديم أي مساعدات في المنطقة، بما في ذلك الغذاء، منذ 30 سبتمبر/أيلول الماضي.
ويؤكد أن "السلطات الإسرائيلية لا تزال تستخدم الهجمات مثل تخريب البنى التحتية المدنية، والإعاقة المتعمدة للمساعدات الحيوية كتكتيك لإجبار الناس على الفرار".
مع اشتداد الحصار ودفع الفلسطينيين لمزيد من التكدس في الجنوب، تنعكس الأحداث على موقف مصر التي ترفض مخططات التهجير والتوطين وقد تجد نفسها في مأزق أكثر تعقيدًا، مع ذلك يقول مستشار المركز الوطني للدراسات الدكتور أحمد فاروق "تمارس القاهرة أدوارًا وضغوطًا عبْر المساعي الدولية، لوقف الحرب وفرض اتفاق التهدئة".
يشير فاروق للدور الذي تلعبه القاهرة منذ بدء الحرب في المفاوضات التي فشلت حتى الآن ولم تنجح سوى مرة واحدة في الوصول لهدنة أربعة أيام على مدار عام كامل.
أما خبير الأمن الإقليمي أحمد الشحات فيرى أن مصر "استعدت لكافة السيناريوهات لهذا الخطر الذي يهدد القضية الفلسطينية، والحدود المصرية معًا، فعززت من إجراءاتها الأمنية بالمنطقة الحدودية، وكانت هناك رسائل واضحة لا تخطئها عين برفضها مثل تلك المخططات"، في إشارة لزيارة رئيس الأركان المصري الفريق أحمد خليفة للشريط الحدودي مع قطاع غزة.
مخططات إسرائيل تنذر بكارثة لأنها تضَع قنبلة سكانية موقوتة على الحدود الشرقية، بينما يبدو أن مصر لا تملك في إدارة مأزقها سوى مخاطبة المجتمع الدولي لوقف الحرب، وتعزيز الحواجز والمناطق العازلة تحسبًا لحدوث اندفاع متوقع للفارين من ويلات الحرب والحصار والجوع باتجاه سيناء.