"إن العملية البرية في غزة يجب أن تكون الأخيرة لأنه لن تكون هناك حماس بعدها".
- وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف جالانت
يتحقق النصر في الحروب بتحقق هدفها النهائي وليس بعدد الضحايا، وقد حددت إسرائيل هدفها من المذبحة التي تشنها على غزة بإنهاء وجود حماس وتحييد قدرات غزة القتالية. تبدو الأمور أسهل حين تقال حيث لا تكلفة للكلام، لكن في الواقع تظل القدرة العملياتية على الأرض، لا في السماء، أصدق أنباء من الكتبِ.
ثمة عوامل عدة تجعل أمنيات "وزير الحرب" وحكومته معزولة عن الواقع حتى الآن. ويبدو أن تحقيق أهداف حكومته المعلنة من المذبحة القائمة في غزة أقرب إلى الأحلام منه للواقع. ويمكن إجمال تلك العوامل فيما يلي:
الكفاءة القتالية على الأرض
العامل الأول لضمان تحقيق نصر إسرائيلي متخيل هو قدرة الجيش الإسرائيلي على توظيف كل أسلحته لدعم غزو بري لقطاع غزة. فلا يمكن أن تتحكم في غزة، وفي من يحكمها ما لم تقُم إسرائيل بسيناريو إعادة احتلال غزة من جديد، وهو سيناريو شبه مستحيل بالنظر للمعطيات على الأرض. وأهم هذه المعطيات هو انخفاض الكفاءة القتالية للقوى البرية الإسرائيلية.
فإسرائيل التي بدأت تعتمد أكثر على تكتيكات الحرب عن بُعد؛ بتوظيف أكبر قدرات نيرانية لسلاحها الجوي بشقيه الدفاعي والهجومي، لم تعد قواتها على الأرض بنفس الكفاءة والفاعلية. فوفقًا لإيتاي برون، الرئيس السابق لقسم تحليل الاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي، أدى التقدم في تكنولوجيا تخفي الطائرات، والطائرات بدون طيار، والحرب الإلكترونية، إلى دفع بعض المخططين الإسرائيليين إلى التفكير في أفكار حول حروب لا خسارة بشرية فيها. وهو ما فاقم من انخفاض الكفاءة القتالية للقوات البرية الإسرائيلية.
ينظر الإسرائيليون لما حدث في 7 أكتوبر على أنه فشل كبير لحكومتهم
تولدت عند العسكريين الإسرائيليين ما يمكن أن نسميه عقدة "يوم كيبور" في توظيف القوات البرية، وهي العقدة التي نشأت بعد الخسارة البشرية الكبيرة التي تعرضت لها إسرائيل في حرب أكتوبر، وخلقت تروما التدخل البري.
تطورت هذه التروما في عمليات برية أظهرت فيها القوات الإسرائيلية فاعلية متدنية في حروب المدن والسيطرة على الأرض، بداية من الغزو البري للبنان في 1982، نهاية بالخروج من غزة نفسها في عام 2005. أدى تقليل الاعتماد على هذه القوات إلى انخفاض فاعليتها لصالح ارتفاع فاعلية تكنولوجيا الحرب الإليكترونية والسلاح الجوي.
لكن تكمن معضلة إسرائيل الحالية في أنها لا تجد مفرًا من التدخل البري، إذا ما أرادت تحقيق أهداف الحرب المعلنة، ولا تجد مفرًا من تجنبه إذا ما أرادت تقليل الخسائر البشرية، خاصة أنها تواجه خصمًا لديه قوات عقائدية مدربة ومجهزة لحرب المدن.
عبء التكلفة السياسية
يمكن لإسرائيل القيام بهجوم مكلف على غزة، ويمكن أن تحقق بتفوقها النيراني الساحق تقدمًا ما. لكن سيأتي ذلك التقدم بتكلفة سياسية كبيرة.. فحماس لا تسيطر فقط على الأرض، لكنها تسيطر أيضًا على ما تحت الأرض من خلال شبكة أنفاق معقدة، وغير معلومة تمامًا حتى بعد المحاولات الإسرائيلية لتجميع أكبر معلومات استخباراتية عنها.
ولا يمكن للحكومة الإسرائيلية الحالية تحمل التكلفة السياسية لمزيد من الخسائر البشرية، حيث تشكلت هذه الحكومة كحكومة حرب انتقامية للرد على عملية طوفان الأقصى. وهي تتكون من خصوم سياسيين جمعهم الإحساس بالانتقام لكن ما يفرقهم أكبر.
ينظر الإسرائيليون لما حدث في 7 أكتوبر/تشرين الأول على أنه فشل كبير لحكومتهم، ولن يقبلوا بتكراره، ولا زيادة التكلفة البشرية. وأي تصعيد كبير في التكاليف البشرية والاقتصادية على حد سواء يمكن أن يعجل بسقوط الحكومة الهشة، ويضع المسؤولية الكاملة على نتنياهو وتحالفه اليميني. تتوافر معلومات من داخل إسرائيل أن الجيش أعلن استعداده للقيام بالهجوم البري الآن، غير أن حكومة الحرب هي ما تؤخره حتى الآن.
التضليل الذاتي
تعاني الحكومة الإسرائيلية وحلفاؤها من أزمة تضليل ذاتي تجعل تحقيق نصر نهائي على المقاومة الفلسطينية، بمعنى تحييدها تمامًا وإسكاتها للأبد، أمرًا غير قابل للتحقيق.
يبالغ نتنياهو، وحكومته في الحرب الكلامية. والحرب الكلامية رغم أهميتها فالمبالغة الشديدة فيها ربما تكون دليلًا على عجز الفاعلية العملياتية. فأحيانًا يهدد نتنياهو بتغيير شكل الشرق الأوسط للأبد. لكن تغيير الشرق الأوسط يحتاج تغيير خرائط وحدود، وهذا الأمر خارج قدرات حكومة نتنياهو الحالية. ثم يهدد أنه سيقضي تمامًا على عناصر حركة حماس.
الحروب حافلة دائمًا بالمفاجآت ولا يمكن الجزم بشكل قطعي بسيناريو نهائي
رفع نتنياهو سقف توقعات مواطنيه، وهو ما سيضعه في أزمة توقعات، ويجعل أي شيء غير استئصال المقاومة بالكامل يُنظر له على أنه هزيمة.
تتفاقم أزمة التضليل لدى نتنياهو وحلفائه، نظرًا للخلط بين فكرة المقاومة وحركة حماس. مما خلق إحساسًا زائفًا لدى الأطراف أن التخلص من حماس هو تخلص من المقاومة. وهي مقدمة خاطئة ستؤدي لنتائج كارثية على مصالح الغرب في الشرق الأوسط، وعلى أي محاولة لإقامة منظومة أمن دائمة لإسرائيل نفسها. فحماس عَرَض الأزمة وليست منشآتها.
فالقضية، على خلاف ما تُصوره إسرائيل وحلفاؤها، هي أن هناك حالة من القمع المنهجي تجعل المقاومة فكرة مهيمنة في الهواء الفلسطيني، لم تصغها حماس ولا صاغتها فتح، بل شكلتها الممارسات الإسرائيلية، وتبنتها الفصائل المختلفة، سواء كانت قومية مثل فتح، أو إسلامية مثل حماس، أو الجماعات اليسارية مثل الجبهة الشعبية، أو جماعات المقاومة فوق القومية مثل "عرين الأسود"، حتى لو فُككت حماس اليوم ولم تُفكك أسباب المشكلة، فحماس أخرى مرشحة للظهور.
التكلفة الاقتصادية والتنظيمية غير المحتملة
حتى لو نجحت إسرائيل في اجتياح غزة وتفكيك مؤقت لقدرات حماس، فإدارة قطاع غزة ستشكل تكلفة باهظة عليها. فغزة أشبه ما تكون بكرة نار شديدة الاشتعال. ومحاولة إدارة القطاع غير ممكنة لقوة معادية يمكن استنزافها في حرب عصابات طويلة، وهو ما تتجنبه إسرائيل. كما أن محاولة نقل السكان إلى سيناء في ترانسفير جماعي غير قابل للتطبيق بعد اعتراض مصر الرسمي، النابع من ضغوط داخلية لا يمكن أن يتحملها النظام المصري، الذي يعاني بالفعل أزمات سياسية واقتصادية كبيرة.
الحروب حافلة دائمًا بالمفاجآت ولا يمكن الجزم بشكل قطعي بسيناريو نهائي، لكن وفقًا لصندوق المعطيات المتاح لدينا، يظهر النصر الإسرائيلي المتخيل، بمعنى تحقيق الأهداف النهائية المعلنة، في حكم النصر المستحيل، حتى لو تفاقمت التضحيات التي تقدمها غزة.