حظت الفيديوهات التي تُظهر مواطنين عربًا وأحيانًا أجانب، يرفضون الحديث مع وسائل الإعلام الإسرائيلية التي احتفت بزيارتها الدوحة في أول رحلة طيران مباشرة بين الدولتين لتغطية مباريات كأس العالم، بشعبية واسعة على السوشيال ميديا.
قواعد الفيفا ألزمت قطر بقبول تواجد الإسرائيليين على أراضيها، رغم عدم وجود علاقات رسمية بين الدولتين، ولكن مراقبين عدة تكهنوا أن رحلات الطيران المباشرة ستكون مقدمة لتطبيع رسمي للعلاقات بين الدولتين، ولحاق قطر بركب الاتفاقيات الإبراهيمية التي وقعتها الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، بمباركة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وصهره جاريد كوشنر.
أعادت تلك الفيديوهات إلى ذاكرتي الفترة التي تزامنت مع توقيع اتفاق السلام بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل عام 1993، الذي عرف بـ"اتفاق أوسلو". في تلك الفترة كان وزير الخارجية حينها شيمون بيريز يروج لمصطلح "الشرق الأوسط الجديد"، وكيف أن منطقتنا ستتحول إلى جنة مزدهرة بعد تطبيع العلاقات بين العرب وإسرائيل، واستفادة الطرفين بما لديهما من إمكانيات.
بعد توقيع الاتفاق، بدأنا نرى للمرة الأولى في مبنى مؤسسة الأهرام دبلوماسيين إسرائيليين، يصرون على زيارة مكاتبنا والالتقاء بنا تحت لافتة تطبيع العلاقات، ومنحهم فرصة لشرح وجهة النظر الإسرائيلية. كنت أسميها محاولات "التطبيع بالعافية". فجأة ومن دون أي مقدمات، فتح باب مكتبي رجل متوسط العمر وبادر بالقول "أهلًا وسهلًا، أنا من إسرائيل".
تبعت ذلك لحظات صمت طويلة بطيئة، ينتظر فيها الزائر غير المرحَّب به ردود فعلنا بينما يتفرس في وجوهنا. لم يتحرك أي منا من مكانه ولم يُقدم على مصافحته، كأننا لم نسمع شيئًا، وواصلنا النظر في أجهزة الكمبيوتر بتبلد. وتلي ذلك الصمت جملة سمعتها مرارًا من الدبلوماسيين الإسرائيليين:
-ما بدك تسلم عليَّ مِشان أنا إسرائيلي؟
معظمهم يتحدث العربية بلكنة فلسطينية، طبعًا بحكم الاحتلال والقمع اليومي للفلسطينيين. فرددت عليه بكلمات مقتضبة "لا ليس هذا هو السبب. ولكن لا يوجد موعد مسبق للقائك أو التحدث معك".
كان قرار نقابة الصحفيين برفض التطبيع قاطعًا وصارمًا، ولكن توقيع اتفاق أوسلو فتح الباب لتشكيل ما عرف بـ"جمعية كوبنهاجن" حيث شارك مثقفون مصريون بارزون من مركز الأهرام للدراسات في لقاءات وحوارات مع نظراء إسرائيليين، في محاولتهم الفاشلة لبناء الشرق الأوسط الجديد.
وفي هذا السياق، كان هؤلاء يتسللون إلى مبنى الأهرام، لمحاولة كسر ما عُرف بالسلام البارد بين مصر وإسرائيل منذ توقيع معاهدة كامب ديفيد عام 1979.
وفي قطر كما في مصر في التسعينيات، شكى الصحفيون الإسرائيليون من معاملة العرب لهم
في السنوات اللاحقة اضطرتني ظروف العمل وقيامي بتغطية المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية إلى التحاور مرارًا مع صحفيين ومسؤولين إسرائيليين. كنت أصر أن معارضتنا لإسرائيل ترتبط باحتلال أراضي فلسطين والجرائم العنصرية التي ترتكب بحق الفلسطينيين، وأنه لا توجد كراهية دفينة تجاه إسرائيل كدولة يسكنها اليهود. على الأقل في دوائر المثقفين من غير الإسلاميين، كنا ندرك جيدًا الفرق بين الديانة اليهودية والفكر الصهيوني الذي أسَّس لقيام دولتهم في فلسطين. كنت أقول وأكرر: نحن ضد الصهيونية ولسنا ضد اليهودية كدين.
ولكن الإسرائيليين يصمون آذانهم عن هذه الحجة. وفي قطر كما في مصر في التسعينيات، شكى الصحفيون الإسرائيليون من معاملة العرب لهم، وصمموا أننا نرفض التعامل معهم لأننا نكرههم كيهود ونرفض وجودهم، وأن الأمر يتجاوز معضلة الاحتلال العنصري. وأصبحت قضية تعامل المواطنين العرب مع الإسرائيليين في المونديال قصة أفردت لها الصحف الغربية مساحات واسعة لدعم حليفهم التقليدي من منطلق "مساكين يا حرام".
قطر لها علاقاتها الممتدة والقديمة مع إسرائيل، ولعبت دور الوسيط لسنوات عدة، بين حركة حماس التي تعد الفرع الفلسطيني لحركة جماعة الإخوان، وتل أبيب. ورغم انحياز قناة الجزيرة الواضح للقضية الفلسطينية، فإنها، وبداعي التوازن والموضوعية، كانت أول من جعلت من المسؤوليين والمحللين الإسرائيليين ضيوفًا في كل البيوت العربية. وكان ذلك يعد من المحرمات في القنوات الرسمية العربية حتى انطلاق الجزيرة في العام 1996.
كانت قطر من ضمن أوائل الدول التي سبق لها فتح مكتب رعاية مصالح إسرائيلي أعقاب توقيع اتفاق أوسلو. وما زالت قنوات الاتصال مفتوحة حتى الآن مع إسرائيل، ولكن حكام الدوحة رأوا عدم الانضمام لمسار الاتفاقيات الإبراهيمية، غالبًا في إطار التنافس الإقليمي مع العدو اللدود؛ الإمارات.
السعودية، الدولة الأكبر والأكثر تأثيرًا في الخليج، تبدو منفتحة على التطبيع مع إسرائيل على استحياء، ولم يمانع حاكمها الفعلي ولي العهد محمد بن سلمان صفقة أمريكية تسمح لطائرات الخطوط الجوية الإسرائيلية بالتحليق في الأجواء السعودية للمرة الأولى.
كما أطلق ولي العهد السعودي تصريحات تبدو منفتحة على التطبيع مع إسرائيل، في لقاءات مع قيادات أمريكية يهودية ولكن من دون اتخاذ قرار رسمي بذلك، ربما حتى يتولى هو الحكم رسميًا.
إسرائيل، ومنذ توقيع اتفاق السلام مع الفلسطينيين، كانت تصر على رفض المعادلة العربية المعروفة بـ"الأرض مقابل السلام،"، ورفع رؤساء الوزراء الإسرائيليون شعار "السلام مقابل السلام،" وطالبوا الدول العربية بتطبيع العلاقات معها بغض النظر عن واقع استمرار الاحتلال.
دول الخليج النفطية كانت قررت الاعتماد على الولايات المتحدة بشكل كامل، لضمان أمنها واستقرارها منذ قيام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين بغزو واحتلال الكويت عام 1990. وزاد التصرف العراقي من انعدام ثقة الدول الخليجية النفطية في محيطهم العربي، ورسَّخ قناعتهم أن أمنهم واستقرارهم تضمنه الولايات المتحد ة والدول الغربية فقط، ولو في مواجهة دول عربية "شقيقة"، يرون أنها تنظر بحسد لثروتهم.
هذه المقاطعة الشعبية هي السلاح الوحيد الأخير المتبقي لدى الشعوب العربية، لدعم الشعب الفلسطيني
وتحولت دول الخليج، وتحديدًا الأصغر حجمًا نسبيًا مثل قطر والإمارات، إلى قواعد عسكرية متقدمة للجيش الأمريكي، بجانب المواقع التقليدية للقوات الأمريكية في السعودية والبحرين وعُمان والكويت. وبذلك تضمن دول الخليج أن الجيش الأمريكي حاضر بشكل دائم في مواجهة أي تهديدات محتملة لأمن الدول النفطية، خاصة من إيران، القوة الإقليمية الكبرى الوحيدة في المنطقة بعد انهيار العراق عمليًا منذ 1991، ونهايته بالاحتلال الأمريكي في 2003.
أصبحت دول الخليج ترى في إيران خطرًا أكبر من إسرائيل. ومع تنامي مخاوف تراجع دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وانشغالها بقضايا أكثر تهديدًا لأمنها وتحديدًا تلك القادمة من روسيا والصين، قرر قادة الإمارات والسعودية أنه ربما يكون الأكثر ضمانًا لأمنهم ترسيخ العلاقة مع إسرائيل، وتطبيق شعار "السلام مقابل السلام".
فيديوهات المقاطعة الشعبية في قطر لوسائل الإعلام الإسرائيلية، وموقف الغالبية في مصر الرافض للتطبيع، تؤكد مجددًا التباعد الواسع بين مواقف الحكومات العربية وشعوبها، وأنه يمكن لتلك الحكومات أن توقع ما تشاء من اتفاقيات للتطبيع مع إسرائيل، ولكن الشعوب تبقى في وادٍ آخر متمسكة بالحقوق الفلسطينية.
هذه المقاطعة الشعبية هي السلاح الوحيد الأخير المتبقي لدى الشعوب العربية لدعم الشعب الفلسطيني، في وقت لم يعد فيه أي دعم عملي رسمي للقضية الفلسطينية، سواء بسبب انهيار بعض الدول العربية على مدى السنوات العشر الأخيرة مثل سوريا وليبيا والعراق واليمن، وانشغال البقية بمشاكلها ونزاعاتها الداخلية.
وإذا كانت معظم حكومات دول الخليج الفاعلة قررت التخلي عن دعم القضية الفلسطينية تمامًا، والانخراط في مسار الاتفاقيات الإبراهيمية، فليس من المطلوب أيضًا تقديم الفلسطينيين كأضحية تحت شعار حماية أمنهم من الخطر الإيراني. وليتهم يتعلمون الدرس من شعوبهم كما عبّروا عنها في كأس العالم بقطر.
إنهاء الاحتلال هو الحل، وليس التطبيع بالعافية.