لم تتوقف التهديدات السياسية والدبلوماسية الأمريكية تجاه العديد من الحكومات العربية، التي لم تجرؤ بعض المُطبّعة منها على مجرد استدعاء سفيرها من إسرائيل، وهي تهديدات وإن كنا لا نعرف فحواها وما قيل فيها، لكننا نرى نتائجها في سلوك حكوماتنا العربية وامتثالها وصمتها.
لم تكشف هذه الدول عن التهديدات والضغوط لتبرير عجزها أمام شعبها، وكثير منها إلى الآن غير قادر حتى على مجرد الانضمام إلى دولة في أقصى الجنوب وهي تقاضي إسرائيل على جرائم الإبادة الجماعية المتواصلة بغزة، ولكن من هم خارج العالم العربي لم يسكتوا.
فُضحت تهديدات واشنطن لمن هم خارج العالم العربي للسكوت على إسرائيل، الأسبوع الماضي، في مناسبتين، كشف أطرافها مدى التبجح والصلف والإفلاس الأخلاقي لساسة أمريكيين وصناع قرار القوة العظمى الأولى في العالم، وهي تدافع بشراسةٍ عن سياسة إسرائيل وساستها مهما اقترفوا من جرائم!
المناسبة الأولى كشفها المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان بعد أن قدم لقضاة المحكمة أول أمس طلب إصدار أوامر اعتقال لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف جالانت، جنبًا إلى جنب مع ثلاثة من قادة حركة المقاومة الإسلامية حماس، بتهم ارتكاب أعمال قتل جماعية وجرائم حرب منذ السابع من أكتوبر. لكن المناسبة الثانية كانت كاشفةً أيضًا.
دولة فلسطينية تجوِّع العالم
قبل الاستفاضة في الحديث عن التهديدات التي تعرض لها المحامي البريطاني المسلم كريم خان، لتوضيح مدى الحصانة التي توفرها واشنطن لممارسات الاحتلال الإسرائيلي فيما تسعى لزيادة كتلة المطبعين العرب، أتوقف أولًا أمام اجتماع مغلق عقده وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الجمعة الماضي في واشنطن، مع شخصيات ناشطة من العرب الأمريكيين، وافقوا كأقلية على قبول دعوته التي رفضها أغلب قادة المؤسسات والجمعيات العربية والمسلمة الأمريكية، التي تحاول إدارة بايدن استمالتها قبل انتخابات الرئاسة، لتغيير موقفها من إعادة انتخاب المرشح الرئاسي الديمقراطي بعد أن خذلها.
كان يُفترض أن يستمر الاجتماع الذي عُقد في مكتب وزير الخارجية لأقل من ساعة، وبدون تصريحات عمَّا جرى فيه، لكنه امتد لساعتين، وكان محبطًا لدرجة دفعت أحد المشاركين فيه ممثلًا عن الغرفة التجارية العربية الأمريكية، واسمه بلال حمّود، إلى الكشف في مقابلة تليفزيونية عن سخافة المبررات التي قدمها بلينكن عندما طُلب منه الاعتراف الأمريكي بفلسطين دولةً مستقلةً، إذا كانت إدارة بايدن صادقةً في ادعاءاتها بدعم حل الدولتين.
قال بلينكن إننا لو اعترفنا بدولة فلسطين في الأمم المتحدة، فسيؤدي ذلك إلى وقف كل المساعدات المالية للمنظمة العالمية ووكالاتها المتخصصة مثل برنامج الأغذية العالمي، بالتالي تجويع الكثير من شعوب الدول الأخرى بدون أن يساعد ذلك الفلسطينيين في غزة، ويوقف مجاعتهم بمجرد الاعتراف بالدولة الفلسطينية!
لم يوضح السيد حمّود في مقابلته ذلك الربط أو المبرر لتجويع العالم إذا اعترفت واشنطن بدولة فلسطينية، لكن حين استفسرت من شخصية أخرى من العرب الأمريكيين الذين حضروا الاجتماع، أوضح، طالبًا عدم ذكر اسمه باعتبار أن الاجتماع كان مغلقًا، أن بلينكن استند إلى وجود قانون أمريكي وضعه الكونجرس منذ عام 1995 يهدد الجمعية العامة للأمم المتحدة إذا قررت قبول العضوية الكاملة لفلسطين بدون موافقة مجلس الأمن، الذي تحتفظ فيه أمريكا بحق الفيتو لنقض أي قرار لا يعجبها، بوقف تمويل الوكالات الأممية.
القانون وقتها كان لمنع السلطة الفلسطينية، التي اعتبرها الكونجرس خلفًا لمنظمة التحرير، من الحصول على صفة الدولة بدون موافقة إسرائيل وبالتالي الولايات المتحدة.
لكن حتى تمويل أمريكا للأونروا، الذي أوقفه ترامب في عامه الأول في الرئاسة وأعاده بايدن لفترة، لن توفره واشنطن حتى نهاية العام المقبل، بعد قرار إدارة بايدن إيقافه مجددًا، بناءً على مزاعم إسرائيل بتورط بعض موظفي الوكالة في دعم حماس، وهو اتهام دحضه تحقيق مستقل للأمم المتحدة، دون أن يغيّر ذلك الموقف الأمريكي الذي اتُّخذ في يوم واحد، للتشويش على إجراءات محكمة العدل الدولية تجاه اتهام إسرائيل بالإبادة الجماعية!
أدرك العرب الأمريكيون، أو الأقلية التي كانت تعلق أملًا على إدارة بايدن وتبحث دعمه انتخابيًا خوفًا من عواقب فوز ترامب، أن لا جدوى من أي اتصال أو اجتماع مع مسؤولي حكومتهم المتحيزة بشكل متبجح لكلِّ ما تفعله إسرائيل. وهو موقف مقاطعة ومكاشفة لم تصل إليه بعد أغلب الحكومات العربية التي لا يحمل مواطنوها جنسية أمريكية!
كريم خان يفضح تهديدات واشنطن
أعود إلى المناسبة الأولى والأبرز التي احتلت عناوين الأخبار حول العالم؛ توجيه الاتهام الرسمي بارتكاب جرائم حرب ضد نتنياهو وجالانت، لينضم رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى سلسلة المتهمين الذين وجهت لهم المحكمة الجنائية الدولية الاتهام وطلبت القبض عليهم. فقد سبقه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد حرب أوكرانيا، ما هللت له الحكومة الأمريكية وقتها رغم أن روسيا ليست عضوًا في المحكمة. وقبله عام 2011 العقيد معمر القذافي وابنه سيف الإسلام، وقبلهما عام 2009 الرئيس السوداني آنذاك عمر البشير، الموجود في مستشفى عسكري بالسودان رغم الانقلاب ضده عام 2019، ولم يُسلَّم أحد من تلك الأسماء السابقة لأي محاكمة.
لم تتوقف تهديدات واشنطن، خصوصًا من المشرعين في الكونجرس، ضد كريم خان قبل إصدار قراره، ولم تتوقف الانتقادات على لساني بايدن وبلينكن بعد إصدار قراره، ورغم أنه لم يفّرق بين ما فعله قادة حماس تجاه قوة احتلال، وما فعله ويفعله جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزة، مثلما التزم بهذه التفرقة تجاه أوكرانيا ومقاومتها الغزو الروسي، ولام روسيا فقط!
في مقابلة لقناة سي إن إن الأمريكية مع كريم خان، وهو ابن طبيب مهاجر لبريطانيا من باكستان من الطائفة الأحمدية، كشف المدعي العام للمحكمة الجنائية منذ عام 2021 عن فحوى الرسالة التي وجهها له أصدقاء إسرائيل من قيادات الكونجرس الأمريكي، وأقتبس منها تهديدهم له قبل صدور القرار، ما يلي:
"إن استهدفتم إسرائيل سنستهدفكم. وإذا مضيتم قُدمًا في الإجراءات، فسنتحرك لإنهاء كل الدعم الأمريكي للمحكمة الجنائية الدولية ومعاقبة موظفيكم وشركائكم، وسنحظركم وعائلاتكم من دخول الولايات المتحدة. لقد تم تحذيركم"!
ويضيف السيد خان أن أحد الساسة الأمريكيين اتصل به ليحذره وينصحه بأنَّ محكمته هذه مخصصة لسفاح مثل بوتين ولحكام إفريقيا، ولكن ليس لبلد ديمقراطي ينتخب رئيسه بحرية مثل إسرائيل!
كما لم يتردد زعماء مجلس الشيوخ الأمريكي من الحزبين الجمهوري والديمقراطي بعد صدور قرار الاتهام، في إصدار بيان يشجب ما فعلته المحكمة ويكرر مزاعم أن إسرائيل دولة لها قانون ونظام ديمقراطي قادر على محاسبة مسؤوليها، خلافًا للدول التي قاضتها المحكمة الجنائية الدولية.
رد كريم خان على جانب من هذه الادعاءات في مقابلته مع المذيعة كريستيان أمانبور، بأن المحاكم الإسرائيلية تطبق القانون فيما يتعلق بمواطنيها لكنها لم تقم بذلك في القضايا المرفوعة إليها من الضفة الغربية والأراضي المحتلة.
ربما لا يكون الكشف عن التهديدات الأمريكية مفاجئًا للقارئ العربي فيما يتعلق بإسرائيل، لكنَّ الكشف عنه في الإعلام الأمريكي، ولم تهدأ بعد احتجاجات طلاب الجامعات الأمريكية على دعم حكومتهم ومؤسساتهم للجرائم الإسرائيلية في غزة، أمر نفتقده في عالمنا العربي، الذي لا يكشف إعلامه عن طبيعة التهديدات التي يوجّهها الساسة الأمريكيون لحكامهم، ومدى مقاومتهم أو امتثالهم لها، ولا يجرؤ طلابهم في جامعاتهم على تسيير مظاهرة كتلك التي يشاهدونها يوميًا في أمريكا على شاشاتهم، ربما باستثناء وقفة طلابية على استحياء داخل أسوار جامعة أمريكية في القاهرة أو بيروت!