رأينا في السنوات الأخيرة من يمعن في تقسيم المجتمع المصري أو تصنيفه على نحو غريب، معتقدًا أنه بدعة في التعدد والاختلاف، وأنه وحده مثقل بأولئك الذين يشدون عربته إلى الوراء بشكل دائم، لا سيما من بين الصامتين على ما يجري، والراضين بأحوالهم الصعبة أو البائسة، أو المتساوقين مع سلطة متجبرة، أو من يكتمون الغضب في أنفسهم، ولا يعبرون عنه قولًا أو فعلًا، أو حتى بالقول دون الفعل.
ويطلب هؤلاء الناظرون إلى الناس، أو يتمنون، لو كان المجتمع كله في تناغم وانسجام، أو حتى في تطابق تام، فيكون الجميع على دراية وإخلاص وتجرد، ويعتقدون أنه دون ذلك لا يمكن لهذا البلد أن يتقدم أو يرتقي في مصاف الأمم.
ثم ينزلق هؤلاء إلى حال من النرجسية أو الشوفينية أو العنصرية فيرون أن التقدم رهن باختيار وانحياز فئة بعينها، هي في نظرهم الواعية المنتظمة في العمل والرافضة لأي انحراف سياسي، ثم يطلبون من هذه الفئة أن تحرص على الانفصال عن أولئك الذين لا يحوزون قدراتها وتوجهاتها، ثم تقوم بنقدهم نقدًا لاذعًا، وتكيل إليهم الاتهامات بأنهم السبب الأكبر لما عليه البلاد من تراجع، وما عليه العباد من تردٍ.
لا عجب أن يكون من بين هؤلاء منشغلون فقط بتدبير قوت يومهم، أو خائفين من بطش الحاكم
وقد لا تعدو نظرة هذه الفئة المُمَكَّنة، أو التي تدرك نفسها على هذا النحو، أن تكون واقعة في وهم شديد، يجعلها ترى غيرها عالة عليها، أو خصمًا من رصيد المجتمع، أو على الأقل تعتقد أن مجتمعنا فقط هو من ينتشر فيه لصوص ومتسيبين ومتفلتين ولا مبالين ومتحايلين وغير مشغولين بالمصلحة العامة، ممن يصمون آذانهم عن كل نداء يطالبهم بالتحرك من أجل الحرية والعدل، وينظرون طوال الوقت إلى الحياة من زاوية غاية في الضيق، تجعلهم لا يطلبون من السلطة السياسية سوى توفير أقواتهم، حتى لو استعبدتهم، أو تصرفت في الأموال العامة كيفما شاءت.
المجتمعات غير الصماء
في الحقيقة، لا تنقسم المجتمعات على هذا النحو الصارم، الذي ينظر إلى شرائحها على أنها أعمدة متباعدة من رخام، أو ألواح من خشب ليس بينها أدنى اتصال أو التصاق. فهناك تفاعل مادي ومعنوي دائم بين الفئات والطبقات على تدرجها أو تتابعها من حيث القوة والنفوذ، وفي كل منها خصال أو سمات أو قيم أخلاقية وإنسانية تتشابه، بل تتطابق، بغض النظر عن التعليم والثقافة والمهنة.
جريمة السرقة قد يرتكبها غني متعلم، كما يرتكبها فقير جاهل. وفضيلة الأمانة أو التعاون أو الإيثار قد يفتقدها رجل فاهم حالم ذو وضع مادي عال، ويحوزها آخر بسيط، لا يمتلك قوت يومه، ولا يشغله سوى تدبيره. وقد نجد طبيبًا يخون ضميره، بينما هناك فلاح يقظ الضمير، سليم المسلك. وهناك فقير معدم لا يقبل أبدًا ما يجرح حريته وكرامته، بينما يوجد ثري يقبل بالدنية طوال الوقت من أجل الحفاظ على ثروته أو مضاعفتها.
وفي مقابل العلم توجد البداهة، وفي مقابل الفكر توجد النباهة، وفي وجه ما نعرفه بالحواس الخمس يوجد الحدس، وقد يُعطاه إنسان بسيط، ويُحرم منه متعلم بذل الكثير من الجهد في تحصيل المعلومات وحِفْظها أو استظهارها. وقد قابلنا في الحياة حملة دكتوراه لا يحسنون توظيف العلم في حل مشكلاتهم اليومية، ولا يفيدهم ما تعملوه في كسب الترقي الأخلاقي، وقابلنا أميين يفكرون بشكل منطقي، وتمضي أفعالهم في استقامة.
وهذا بالطبع ليس نداء من أجل الإبقاء على الأمية، إنما هي دعوة إلى أن يكون التعليم فارقًا في حياة الفرد فعلًا، وليس مجرد حشو الأدمغة بما لا يفيد، بل قد يشوش على التفكير الصافي الحر، غير المشدود إلى إحالات أو حمولات أو مقولات تكبله أو تقيده.
في العموم فإن كل مجتمع بشري يتسم بالتعدد، إذ تختلف الطبقات والمصالح والإدراكات والمشارب والأهواء والأذواق والانحيازات والخلفيات والأيديولوجيات والأفكار والمواقف، وبينما نجد ثقافة أصلية هناك ثقافات فرعية، وحين يكون هناك تيار اجتماعي رئيسي يقوم على التوافق حول الحد الأدنى من إدراك المصلحة العامة، تظهر على جانبيه نتوءات كثيرة، تشذ أو تخرج أو تختلف أو تتمرد، لكنها لا تجرح المجرى العام جرحًا غائرًا، ولا تصيبه في مقتل، إلا لو حدث انهيار اجتماعي تام، أو فتنة عارمة.
إن أي مجتمع لا يمكن أن يكون كتلة صماء، أو فريقًا واحدًا، ولا يجب أن يعتقد بعضه أن وجود الآخرين غير مهم، أو يشكل عالة على الحياة.
ولا يكتفي هنا بحصر الأشرار أو من يؤدون أدوارًا سلبية، إنما يعتقد أن تصورات أو رؤى أو أفكار بعينها هي التي تشكل هذا العبء، حتى لو كان أصحابها يقومون بمهامهم الإيجابية البسيطة على غير وجه، في إطار قاعدة التخصص وتقسيم العمل، التي تبرهن على أن ما يسمون "الانتجلنسيا" و"التكنوقراط" لا يمكنهم الاستغناء عن أصحاب الحرف اليدوية، فالفيلسوف يحتاج إلى كهربائي يصلح عطل الإنارة في منزله، والأستاذ الجامعي في حاجة إلى نجار لإصلاح خزانة ملابسه أو باب بيته ونوافذه، بغض النظر عن انحيازاتهم الفكرية، وتوجهاتهم السياسية.
الناظرون من أعلى
لذا، لا يجب أن يتصور أحد أنه يقف على هضبة سامقة، أو في شرفة شقة بالطابق الأخير من ناطحة سحاب، وينظر إلى الآخرين باستعلاء أو استهتار أو تهاون، ويتوهم أن الذين تصغر أجسادهم في عينيه، وهو في طابق علوي، هم صغار بالفعل في حد ذواتهم، وأن نظرتهم إلى الحياة، وتصورهم عن المجتمع والدولة غير جدير بالنظر والاعتبار، حتى لو كانوا يمتهنون حرفًا يدوية، أو ينتمون إلى طبقات فقيرة، أو لم يتلقوا قدرًا كافيًا من التعليم النظامي.
فلا عجب أن يكون من بين هؤلاء منشغلون فقط بتدبير قوت يومهم، أو رابطين بين الرضا عن السلطة وتوفيرها الاحتياجات الضرورية التي تبقيهم على قيد الحياة، أو خائفين من بطش الحاكم، يرفعون شعار السير إلى جانب الحائط أو حتى في قلبه، أو ناظرين إلى الدنيا برمتها على أنها دار ممر، لا يجب أن يشغلهن تغيير ما فيها، أو مؤمنين بأنهم يؤدون أدوارًا صغيرة محدودة على مسرح الحياة.
غير المستجيبين للتغيير
وفي المقابل، لا عجب أيضًا أن يكون هناك رافضون للسائد والمتاح، راغبون في تغيير الأوضاع إلى الأفضل، وعاملون على تحقيق هذا بشتى الوسائل، ولا يجب أن ينظر هؤلاء إلى من لا يستجيبون لهم على أنهم أدنى مرتبة منهم بالضرورة، فربما لم يحسن الثائرون إيصال رسالتهم إلى عقول العوام، أو ليس من بينهم من يقدم القدوة الحسنة والمثل الطيب الذي يصدقه الناس، ويفعلون ما يطلبه، لأنهم مؤمنون أنه في صالحهم.
لقد رأينا مثقفين يحيطون بكل شيء حولهم لكنهم يخونون ضمائرهم، ورأينا ثائرين ألقوا الراية في منتصف الطريق، وتحولوا إلى مناصرين للظلم والبغي والفساد. ورأينا أصحاب مهن مرموقة لا يشغلهم سوى ما يخطفونه، ولو بغير حق، يسعون بلا توقف ولا هوادة إلى تحصيل الوظائف العليا، أو الأموال الطائلة، حتى لو كانت سرقة من المال العام.
وعلينا إدراك أن الفلاسفة والمفكرين والأدباء والعلماء والفنانين ليسوا فريقًا واحدًا في النظر إلى الأمور أو التعبير عنها أو الانحياز لها. فقد وجدنا فلاسفة يدافعون عن نظم الحكم المحافظة والتقليدية بل السلطات المستبدة أحيانًا، وفي مقابلهم كان دعاة الحرية والتمرد على الظلم والثورة. ومن بين هؤلاء الذي يؤمن بالله، ويبرهن على إيمانه، وهناك من يلحد ويبرهن على إلحاده، وليس هناك ما يمنع من سقوط مؤمن في بحر الشك، وبلوغ ملحد شاطئ الإيمان.
إن كثيرين يتناسون أو يتغافلون عن أن عمر الديمقراطية لا يزيد عن قرنين من الزمن، وأنه حتى وقت قريب كانت نظم الحكم العسكرية والدينية تغطي أغلب خريطة الأرض البشرية
بناء على كل ما تقدم، لا يمكن الحكم على المجتمع المصري إلا في ضوء مقارنته بمجتمعات أخرى، سواء في حالتها الراهنة أو في تاريخها المديد. ووقتها سندرك أننا لسنا استثناء، فحتى المجتمعات المتقدمة ماديًا فيها كثير من المتفلتين والبلهاء أو التافهين، وقد رأينا في السنوات الأخيرة كتبًا كثيرةً في الغرب تتحدث عن مجتمعات غافلة أو قابلة للاستغفال والاستحمار. كما رأينا مجتمعات أخرى قديمة مثلنا عانت مثلما عانينا من قرون ساد فيها الظلم والاستعباد.
المجتمع المصري ليس بدعة
وربما تقود هذه المقارنة إلى قدر من الإنصاف للمصريين، فليسوا هم وحدهم الذين عانوا من استعمار طويل، وحكمهم أجانب، وقد ثار المصريون وانتفضوا طوال تاريخهم على الظلم والقهر، فقامت على أرضهم أول ثورة في التاريخ الإنساني أيام حكم الملك بيبي الثاني.
وفي زمننا الحديث عرفت مصر من الانتفاضات والثورات الكثير، بدءًا بالثورة العرابية وحتى ثورة يناير 2011 وما تبعها، وبين هذين التاريخين اندلعت احتجاجات، ونظمت مظاهرات، وتوالت أشكال عدة من الغضب المحدود والممدود.
وأرض مصر هي التي شهدت وجود الفلاح الفصيح الذي واجه الملك، والملوك الذين آمنوا بالعدل أو "الماعت"، ورأت عصر الاستشهاد الكبير الذي قاوم فيها مسيحيو مصر اضطهاد الإمبراطورية الرومانية، وانتفاضات توالت ضد ما لحق بهم من ظلم في ظل حكم بني أمية وبني العباس وبني عثمان، ومقاومة الفرنسيس والإنجليز أيام حملتي نابليون 1798 وفريزر 1807، وقبلهما الاحتجاج على حكم القائدين المملوكين مراد بك وإبراهيم بك سنة 1795، ثم خلع خورشي باشا بعيد رحيل نابليون واختيار محمد علي للحكم عام 1805.
حدث هذا بينما رسفت مجتمعات أخرى تحت أغلال الاحتلال الطويل دون غضب أو تبرم، أو جاء التبرم ليس بالغزارة والاتساع الذي حدث في مصر. ويحدث هذا الآن، في وقت تنشط فيه الطغمائية أو الدكتاتورية في بلدان كثيرة، إثر هيمنة من حاكم فرد، أو مؤسسة متغلبة، أو حزب واحد مسيطر، أو أيديولوجية قامعة، أو قلة تملك المال والإعلام وتتلاعب بأحوال وعقول الأغلبية الكاسحة.
إن كثيرين يتناسون أو يتغافلون عن أن عمر الديمقراطية لا يزيد عن قرنين من الزمن، وأنه حتى وقت قريب كانت نظم الحكم العسكرية والدينية تغطي أغلب خريطة الأرض البشرية، وأن الديمقراطيات نفسها صارت تتوعك مع صعود التطرف اليميني، وعودة الانقلابات العسكرية، واعتناق الأيديولوجيات التي تفضي إلى الثيوقراطية.
والمجتمع المصري عمومًا، في حاضره وفي كل تاريخه، كان يعيش حال من التنوع والتعدد، المنسوب والمسنود إلى طبيعة الحياة نفسها، وهو في هذا لا يختلف عن غيره، وليس من الإنصاف أو الانحياز للحقيقة أن يعتقد البعض منا أن المصريين لهم سمات خاصة تجعلهم قابلين للاستغراء والاستعباد، وأنهم بالضرورة يقبلون عبودية طوعية، أو تميل طبائعهم إلى قبول من يتحكم فيهم.
وما يزيد الطين بلة في هذا أن من بيننا الذين يزينون للحكام فكرة قبول المصري بالجبر، ونفوره من الاختيار، وأننا شعب لا تصلح معه سوى العصا المشرعة طوال الوقت. ومن أسف فإن كثيرًا من الحكام صدقوا هذا التزيين اللعين، فانفردوا بالقرار، وغيبوا الناس، وتلاعبوا بمصائرهم، وظنوا أنهم لن يدفعوا الثمن.
لقد قرأنا كتابًا مجهول المؤلف بعنوان "تراث العبيد"، تناقله الناس وتداولوه سرًا، وصار متاحًا الآن على شبكة الإنترنت، وتحدث جمال حمدان عن دور الجغرافيا في صناعة "الاستبداد الشرقي"، وتناول نزيه نصيف الأيوبي تحكم الدولة المركزية، وتناول أحمد صادق سعد سمات "المجتمع النهري"، وآراء هؤلاء جميعًا، وصفت، من دون شك، جانبًا من الحقيقة الجغرافية والتاريخية، لكن هناك جانبًا آخر مغاير، نقف عليه إن أحصينا عدد الهبات والاحتجاجات والانتفاضات والثورات في تاريخ مصر المديد.
إن الذين يتجاهلون قرونًا طويلة من كفاح المصريين، يعمدون إلى إفقاد الشعب ثقته في نفسه، وفي قدرته على التغيير، حيث يوهمون أن ما هو فيه ليس سوى وصل ما انقطع من تاريخه المفعم بالذل والخضوع، وعليه أن يؤمن بأن هذا قدره المحتوم، الذي لا فكاك منه، وهذا محض كذب وافتراء.