حين كتب عباس محمود العقاد عبقرياته كان الناس مقتنعين بأنَّ لكلِّ زمن أعلامه، ولكلِّ مجتمع قادته، ومؤمنين بأنَّ المتميز ما زال قادرًا على صناعة التاريخ. ولم يكن ذلك التصور خاصًا بنا، إنما شارَكَنا فيه العالم كله، ولهذا لقي كتاب توماس كارليل "الأبطال" رواجًا كبيرًا. ففي بناء الدول بالتنمية أو هدمها بالحروب، برز بعض القادة الكبار، وترددت أسماؤهم في كل مكان. وأطلق مبدعون أفراد الأفكار الكبرى المُلهمة، والاختراعات المذهلة، وقدمت السينما نجومًا جابت شهرتهم الآفاق.
في ذلك الوقت كانت آثار كتاب "سيكولوجية الجماهير" لجوستاف لوبون تترسخ؛ فهو الرجل الذي وصف الجمهور بـ"المرأة اللعوب"، واعتبر عقل فولتير وحده أذكى من عقول الآلاف مجتمعين. وآمن كثير من الأدباء والمفكرين بقدرة منتجي الآداب والفنون والأفكار على الانحياز للناس في أشواقهم إلى الحرية والعدالة والكرامة والكفاية، وسعيهم إلى حياة أفضل، دون ممالأتهم، فلا يكون الكاتب مجرد معدٍّ لبرنامج "ما يطلبه القُرَّاء".
وبدأت الدراسات السياسية والاجتماعية تُفسر الأحداث من زاوية أو اقتراب أو مدخل أوسع من الفرد، حيث الجماعة المتفوقة، ماديًا ومعنويًا، سواء كانت النخبة أو الطبقة أو المجموعة المتحكمة في الثروة والسلطة من الأوليجاركية أو العُصبة التي تهيمن على اتخاذ القرار.
النخب وتشكّل المجتمعات
وظهرت المؤسسة في وجه الفرد، والشركة في وجه التاجر الواحد، والحزب السياسي في مقابل الحاكم الفرد، ونزعت الحياة الإنسانية إلى سلطة المجموع أو "الجمعنة" في الأسرة والعائلة الممتدة والعشيرة والقبيلة. ونشطت هيئات المجتمع المدني أو الأهلي. وولدت مراكز الأبحاث التي تنتج مشاريع علمية مشتركة، والمعامل والمختبرات التي تجتمع فيها أفهام العلماء من أجل اختراع أو ابتكار أو تطوير موجود. وظهرت الألعاب الرياضية الجماعية.
كانت غاية الفرد العادي أن يرتقي في السلم الاجتماعي لينضم إلى الصفوات
حتى في عالم الجريمة نشأت العصابات المنظمة على اختلاف أنشطتها غير المشروعة، واتخذت هيكلًا إداريًا حديثًا، وصارت لها قواعد عمل وأساليب وبصمات مميزة. وفي الإرهاب السياسي وجدنا تنظيمات مسلحة متماسكة وعابرة للقارات. وساحت الظنون حول ما يسميها البعض "حكومة العالم الخفية".
ولم ينهِ هذا النزوع إلى الجمعنة دور الفرد فائق القدرة، أو المجموعة الفائقة أيضًا، سواء كانت الصفوة التي تحلقت حول الأنبياء، أو الشجعان حول القادة العسكريين، أو التلاميذ حول الأساتذة الكبار أصحاب المدارس الفكرية أو الابتكارات الكبرى.
ولم ينعدم أبدًا إيمان الذين يؤمنون بأنَّ أيَّ مجتمع لا بد له من صفوة، أو سراة، تكون بمنزلة القاطرة التي تشده إلى الأمام، أو الأوتاد التي تجعله مستقرًا راسيًا على الأرض دون فوضى أو اضطراب، ليبقى بيتا الشعر اللذان أبدعهما صلاءة بن عمرو بن مالك أود (الأفوه الأودي)، في إحدى قصائده، قابلين للعمل والتفاعل في الحياة الإنسانية، حيث يقول "والبيت لا يُبتَنى إلّا له عَمَد.. ولا عماد إذا لم تُرسَ أَوتادُ" ثم يضيف بعد عدة أبيات "لا يصلُح الناس فوضى لا سَراةَ لهم.. ولا سَراةَ إذا جُهَّالهم سادوا".
ظلت النخب المُمَكَّنة تفرض ثقافتها وتصوراتها وتصرفاتها، وتجذب إليها كلَّ يوم المؤمنين بها، مع اتساع حركة التعليم، وصارت غاية الفرد العادي أن يرتقي في السلم الاجتماعي لينضم إلى الصفوات القادرة المُقرِّرة لأفكارها وأساليب ممارساتها.
لكنَّ هذا المسار سرعان ما تزعزع في "عصر الجماهير الغفيرة" وفق تعبير جلال أمين، وصعود الشعبوية التي وجدت في ثورة الاتصالات فرصة سانحة للإطلال برأس عفيٍّ على الساحات الاجتماعية، فتُشاكس أفكار النخبة وأساليبها، تختلط بها، وتفرض نفسها عليها، ثم تصارعها أحيانًا، وتتمكن من إزاحتها في بعض المجالات والجوانب، وتلقي بها إلى أسفل سافلين.
كانت الثقافات الشعبية موجودة، تحدُّ دومًا من تؤثر فيهم، وتشكِّل لهم إطارًا للفهم والحكم على الرؤى والمواقف، وتفسير الأحداث والوقائع. ولم تكن النخبة غافلة عن هذا، فوجدنا مساقات دراسية في الجامعات للفلكور من سير وحكايات وأساطير وموسيقى وأمثال وحكم ونوادر، وألوان من الشعر مثل الأغاني والعديد والأزجال والشعر العامي والمربعات والمواويل وفن الواو.. الخ. ووجدنا دراسات اجتماعية واقتصادية ونفسية وقانونية عن جماعات المهمشين طبقيًا وثقافيًا، ووجدنا مغازلة من النخب السياسية لرؤى العوام ومواقفهم.
الشعبوية العمياء
لكنَّ الأمور لم تقف عند هذا الحد، فلا الطبقات الشعبية رضيت بالاستتباع، ولا النخب توقفت عن التنازل التدريجي لحساب القادمين من الخلف، فلم تبقَ الحدود بين الاثنين قائمة، ولا الفواصل متماسكة، وفقد التفاعل بين الكتلتين الاجتماعيتين، على تفاوت قوتهما البشرية من حيث العدد، القواعد التي استقرت قرونًا طويلة حول قيم التحديث والتنوير والتقدم، والمسائل الخلقية من فضائل ورذائل، والمسائل الدينية من صراط مستقيم وروحانية أو شعوذة وخرافات.
الشعبوية لا تسير فقط عكس مصالح النخب، بل أيضًا ضد مصالح الشعبويين أنفسهم
والأدهى والأمر أنَّ صعود القادمين من الأماكن الخلفية والمنسية لم يتوقف عند حد فرض الموروث أو المأثور الشعبي التقليدي، والذي كان على قدر من الثراء أفاد النخب الفكرية والاجتماعية، إنما هي أشكال من الثقافات المشوهة والمتضاربة والسلبية والمتبدلة دون توقف، تبنتها التجمعات الشعبية، لتولد "الشعبوية" على ما فيها من خفة وابتذال وتبجح وتسرع وتفلت.
وإذا كانت هذه الشعبوية لم تجد طريقًا سهلة للصعود إلا بالقدر الذي تريده النخب، وتخضعه لمقاييسها، وتمرره عبر مصافيها، فإنَّ ثورة الاتصالات التي أوجدت وسائل التواصل الإلكتروني، جرفت في طريقها هذه المقاييس والمصافي، فبات بوسع ما يطحنه الشعبوية ويلوكونه من المفردات والعبارات والصور والمجازات والإشارات والإيماءات وحركات الجسد، وما يمارسونه من طرائق العيش وأنماطه، وما يؤمنون به من الخرافات والخزعبلات، أن ينفذ إلى قمة المجتمع، ويهز بقسوة الكثير من التعبيرات والأفكار والممارسات.
لم تعد الصفوة وحدها تحتكر قادة الرأي العام، ولا صناع الثقافة، إذ بات بوسع أي فرد، مهما كان مستوى ما في رأسه من معرفة أو خبرة وما له من مكان ومكانة، أن يخلق لنفسه حيزًا على الشبكة العنكبوتية مثلًا، ويجذب متابعيه في سهولة. بل بات لأمثال قادة الرأي الجدد "صناع المحتوى" اليد الطولى، لشيوع الجهالة والسطحية والابتذال، لا سيما في ظلِّ فقدان التعليم للنزعة الثقافية، وفقدان المنابر الدينية لتجديد خطابها، وفقدان الأحزاب السياسية لدورها كمدارس لتعليم الناس السياسة.
ولأن الشعبويين هم الأكثرية العددية فقد تمكنوا من فرض خطابهم وتصوراتهم، وبدلًا من أن تأخذ الصفوات بأيديهم إلى الأمام، شدوها هم إلى الخلف، ليلجأ المثقفون إلى الأفكار الرائجة، ويهبط الكتاب بأساليب التعبير لتجاري الذائقة العامة، ويبحث الوعاظ على القضايا الغريبة التي يلفتون بها الانتباه لأنفسهم. وهكذا زحفت الشعبوية إلى الكتابات والأغاني والأفلام والخطاب الديني.
وما زاد الطين بلة أنَّ النخب السياسية نفسها، المتحكمة في القرار أو الطامحة إلى التحكم فيه، ضاقت ذرعًا بثقافة الصفوة المشبعة بمطالب مزمنة في مجتمعنا عن الحريات العامة، ومختلف حقوق الإنسان، والتعددية، وتداول السلطة، بغية التحديث الاجتماعي والسياسي.
وفي الاتجاه المضاد، راحت السلطة تبني خطابها على مغازلة الشعبويين، فهم مخزنها الاجتماعي الوافر الذي تستعين به في مظاهرات التأييد والانتخابات المزورة. وهم التجمعات الأكثر قابلية لاستمراء الركود والجمود والقعود تحت شعار "الاستقرار والاستمرار".
وهم الأسهل خداعًا حيال الشائعات ومضامين بناء الوعي الزائف. وهم الأسرع قابلية للتوظيف في تكريس الاستبداد، لأنَّ مطالبهم لا تتعدى، في الغالب الأعم، حدود ما يملأ المعدات الخاوية. وهم الأكثر هشاشة في حيازة القدرة على التنظيم وبلورة المطالب والضغط على السلطة. وهم حتى إن غضبوا فإنَّ غضبتهم مقدور عليها، لا تتعدى فزعة أو هوجة أو فورة، ما إن تقوم حتى تقعد، بل تقود في النهاية إلى مزيد من التسلط والتجبر والقهر.
إنَّ الموروث الشعبي يظلُّ طوال الوقت رافدًا من روافد أي مشروع للنهضة، لأنه يحمل الثقافة المتجذرة والراسخة، التي تعبر عن الذهن والوجدان الجمعي، لكنَّ الشعبوية تعمل في الاتجاه المضاد، وتسير ليس فقط عكس مصالح النخب والصفوات، إنما أيضًا ضد مصالح الشعبويين أنفسهم على المدى الطويل، لكنهم لا يعلمون، أو لا يبالون.