لا يبدو أن ما بين الإعلام والثقافة من اتصال هو أمر خفي على أحد، سواء العابر السريع أو المتأمل المقيم، فقد بَنَت هذين المسارين عبر تاريخ طويل علاقة من التفاعل القوي، ترسخت أكثر مع ثورة الاتصالات واقتصاديات المعرفة، التي حولت العالم بأسره إلى "غرفة" صغيرة، تزخر بسجال ثقافي بمعناه الواسع حول القيم والتصورات والإدراكات وطرائق العيش والمعارف الذاتية المتبادلة، وسجال عقائدي، زادت حدته مع وسائل الإعلام الجديد، وشبكات التواصل الاجتماعي التي لا تكف عن البث، بلا هوادة، وفي كل الاتجاهات.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام هو: أي صيغة من العلاقة يمكن أن نجدها بين هذين المسارين، أو الحقول الإنسانية سواء على مستوى التفكير والتنظير أو بالنسبة للتطبيق والممارسة؟
والإجابة عن هذا التساؤل تحتاج ابتداءً فحص كل مسار أو حقل منها على حدة، توطئة لاكتشاف العلاقة أو التأثير المتبادل بينهما، وهنا لا بد أن يكون الدين، كعقيدة وقيم وممارسات، حاضرًا، لأنه يتداخل مع ثقافتنا العربية في كافة مراحلها ومفاصلها. وهنا نحتاج إلى ما يلي:
أ ـ التفرقة بين الدين والتدين وعلوم الدين، باعتبار الأول هو النص في تجليه الإلهي، أو "الوحي" كما أُنزل وتعامل معه الناس على هذا الأساس. أما الثاني فهو الطريقة التي تفاعل بها البشر مع الدين، إما بالحفاظ على مقصده الرئيس الرامي إلى الإمتلاء الروحي والسمو الأخلاقي والنفع العام بشقيه المعنوي والمادي، أو ابتعدت به عن جوهره ومقصده ليصير "أيديولوجية" عند من يتخذون من الدين إطارًا للعمل السياسي والتنافس على السلطة، أو تجارة عند أولئك الذين تكسبوا من الأديان بدءًا من الكهنة أمام المعابد الفرعونية القديمة وحتى شيوخ الفضائيات.
أما علوم الدين فهي ما تم إنتاجه على ضفاف "النص الإلهي" من تفسيرات وتأويلات وفقه وفلسفة وتشريعات ورقائق ومأثورات، وهي منتج بشري لا قداسة له في الحقيقة وإن كان البعض يقدسه حتى لو لم يعلنوا هذا صراحة.
ب ـ هناك خلاف بين مفهوم الثقافة في حقيقته وطبيعته وفق ما انتهت إليه العديد من الرؤى والتصورات العلمية من جهة، والمعنى المتداول على ألسنة العوام ووفق أفهامهم من جهة ثانية. فقديمًا وصفوا المثقف بأنه من "يقطف من كل بستان زهرة" قاصدين بالطبع بساتين المعرفة، وحديثًا أجملوا الثقافة في أنها "الكل المعقد من المعارف والأفكار والآداب والفنون" وهناك من طلب إخراجها من حيز العلوم الإنسانية، لا سيما الآداب والفنون، لتمتد إلى العلوم الطبيعية، بحيث يحمل علماؤها لقب "مثقف" أيضًا.
ويوجد من جعل الثقافة أبعد من هذا لأنها تعني "طريقة العيش" وبالتالي فكل إنسان على سطح الأرض يعد مثقفًا، اتكاء على أسلوب حياته. وهناك من يمدها أكثر لتصير هي الحضارة، ليس فقط في شقها الرمزي والمعنوي، بل في المادي أيضًا.
جـ ـ هناك من يضيق مفهوم الإعلام ووسائله ليحصرها فيما نعرفه الآن في زماننا من وسائل إعلام مقروءة ومسموعة ومرئية، ثم يضيف الإعلام الإلكتروني، وهناك من يتوسع بالمفهوم ليذهب إلى كل أشكال الإخبار الحديثة والعصرية والتقليدية التي عاشت البشرية عليها ردحًا طويلًا من الزمن.
على هذا الأساس يمكن أن نفكر في علاقة الإعلام بالدين والثقافة، أوسع وأبعد من أغلب ما هو سائد أو متداول في السوق البحثية والصحفية، والذي ينظر إلى المسألة إجمالًا، خالطًا بين الدين وطرائق التعامل معه وفهمه، والثقافة والحضارة، وكذلك بين ما هو حقيقي فيها وهو ما هو محض مزاعم وادعاءات وافتراءات أيضًا.
وهنا يمكن أن نرى تلك العلاقة تقوم بالأساس على "تبادل المنافع" أو "الاعتماد المتبادل" بغض النظر عما هو أصيل فيها وما هو فرعي، أو بين ما هو خادم وما هو مخدوم. ويمكن أن أبين هذا في النقاط التالية:
1 ـ ينظر إلى الإعلام في الغالب الأعم على أنه مجرد أداة أو وسيلة أو قنطرة واصلة بين منتج رسالة ومتلقيها، وبالتالي يكون "الدين" نصًا وخطابًا وممارسة، والثقافة بمختلف ألوانها، بمنزلة المضمون لهذه الرسالة، مع مضامين أخرى عديدة.
لكن الإعلام لا يقف عند حد النقل بل تفرز آلياته الذاتية مضامينها عبر علامات وشفرات ووسائل تأثير عديدة، بما يجعل بوسعه أن يتعدى مجرد المرآة العاكسة للأمور الدينية والثقافية ويزيد على كونه الجسر الرابط بين علماء الدين والمثقفين والجمهور العام الذي يتابع ما ينتجونه، ويحدد من خلاله، وغبر محتويات أخرى، تصوره عن الذات والعالم والكون، في المستوى الأساسي والعام، إلى جانب تفاصيل عديدة متعلقة بالمعارف والقيم والاتجاهات.
شهد العقد الأخير، لا سيما في العالم العربي، اختلاط الأدوار بين عالم الدين والمثقف والإعلامي، فكثير من مقدمي البرامج تحولوا إلى واعظين أو قادة رأي، وبعض علماء الدين والمثقفين تحولوا إلى مذيعين
2 ـ يتم التعامل مع الدين والثقافة والأعلام أيضًا، كأداة ومحتوى في الوقت نفسه، بوصفها من "البنى الفوقية" للمجتمع التي تتأثر بـ "البنى التحتية" المتمثلة في الأشياء المادية، وذلك وفق النظرية الماركسية. لكن في نظري فإن الدين والثقافة يتعدى دورهما مجرد التبعية التامة للظروف والأحوال الاقتصادية إلى التأثير المستقل في تطور المجتمعات الإنسانية.
3 ـ يُنظر للدين والثقافة والإعلام بوصفها من ركائز القوة الناعمة للدولة، في مقابل ركائز القوة الصلبة أو الخشنة المتمثلة في القدرات العسكرية والإمكانات الاقتصادية والموارد الطبيعية والموقع الجغرافي وحجم السكان ونوعيتهم.
وهذه القوة الناعمة تضمن التماسك الداخلي للدولة عبر الوظائف الرئيسية التي يؤديها الخطابان الديني والثقافي والرسالة الإعلامية في نشر القيم التي تحض على التعايش والتراحم واحترام التنوع وتفهم الخصوصيات والحريات الفردية والعامة وتعلم الاختلاف وأدب الحوار، وتعزيز القيم والاتجاهات الإيجابية التي تحض على العمل والإبداع والتقدم. كما تستخدم في تعزيز دور الدولة عالميًا، فأي بلد يتمتع بوجود علماء دين كبار ومثقفين مبدعين بارزين وإعلام حر مهني سيجد طريقًا ممهدا للتأثير في محيطيه الإقليمي والدولي.
4 ـ تشترك حقول الدين والثقافة والإعلام في أنها تتوسل باللغة، ليس بمستواها الذي يقف عند حد الكلام أو التعبير اللفظي فقط، بل بطرق التعبير الأخرى أو "السيمائيات" حيث الإشارات والإيماءات والإيحاءات والعلامات والرموز. وتلعب اللغة دورًا كبيرًا في تحديد عمق وتحقيق جاذبية الخطابات الناتجة عن هذه الحقول الثلاثة.
5 ـ شهد العقد الأخير، لا سيما في العالم العربي، اختلاط الأدوار بين عالِم الدين والمثقف والإعلامي، فكثير من مقدمي البرامج تحولوا إلى واعظين أو قادة رأي، وبعض علماء الدين والمثقفين تحولوا إلى مذيعين، وتزداد هذه الظاهرة تجذرًا بمرور السنوات.
ومما لا شك فيه أن الإعلام صار قوة جبارة في صناعة التغيير، فإن عمل وفق تصور حر خلاق أبعد من الدعاية السياسية الرخيصة أو الترفيه، فبوسعه أن يسهم في تعميق الثقافة والنهوض بالعملية التعليمية، ليس من خلال برامج مدرسية أشبه بالدروس الخصوصية فقط، إنما برامج تعزز المعرفة، وتمكن الفرد من امتلاك مهارات التفكير والنقد والحوار.
ولا يمكن أيضًا في هذا المضمار أن نهمل الإعلام الجديد، لا سيما السوشيال ميديا، التي عملت على تعزيز حرية التعبير، لكنها أيضًا صنعت المزيد من الكراهية وأطلقت الدعاية السياسية الفجة والشائعات والسجال العقائدي، وساهمت في نشر الفكر المتطرف وتجنيد الإرهابيين وتشويه المختلفين في الرأي والموقف.
والمشكلة أن حكومات كثير من الدول العربية تستعملها في الرد على خصومها أو شن حرب نفسية عليهم أو توجيه المجتمع وتكبيله، فإن انتبهت إلى توظيفها في تعميق الوعي والتصدي للتطرف وتعزيز القدرة على الحوار وتفريغ طاقات الغضب بعلنية وسلمية، سيكون هذا أجدى، ووقتها يمكن لهذه المواقع أن تلعب دورًا ثقافيًا وتعليميًا حقيقيًا.
في الحالين، سواء الإعلام التقليدي أو الجديد، فإن التعويل عليه في نشر الثقافة، بقيمها التي ترمي إلى الارتقاء بالمعيشة، مسألة تحتاج إلى اهتمام ورعاية لم تحظَ بها في الماضي، لجهل أو غفلة أو على الأقل عدم دراية بأهمية الثقافة في التمهيد للتطور المادي، وأن المعاني يجب أن تسبق المباني.
وهذا الدور المنتظر أو المأمول لا يجب أن يقف عند حدود تثقيف الإعلاميين الحاليين، الذين يعاني أغلبهم من ضحالة الفكر وضبابية في الرؤية وانحياز إلى العابر والسطحي والسلطوي وما يعود عليهم بالنفع الذاتي، ولا حتى بدفع مثقفين ليقدموا البرامج أو يحلوا ضيوفًا عليها، إنما بوجود استراتيجية لتعزيز الثقافة بمعناها العام والواسع، الذي لا يقتصر على اعتبارها الكل المركب أو المعقد من الآداب والفنون والمعاني والرموز التي تخاطب العقل والوجدان، إنما أيضا الطقوس وطرائق العيش، التي تتسم بالخصوصية، وتؤمن بالتنوع.
لكن الوصول إلى الحد الأدنى من هذا المطلوب والمأمول لم يعد مقبولًا لدى من يمتلكون أجهزة الإعلام، سواء كانت الدولة أو رجال المال والأعمال، فالأولى ليست معنية بزيادة الجرعة الثقافية، لأنها ترى أن تعميق الوعي لدى قطاع عريض من الناس قد ينبههم أكثر إلى حقوقهم المهضومة، ويدفعهم إلى الحركة في سبيل تحصيلها أو انتزاعها.
كما أن أصحاب الأموال يتوحدون مع الدولة في هذا الاتجاه، غير معنيين بتوعية الناس أو النهوض بأحوالهم الثقافية والمعرفية، حتى لا تتفتح أذهانهم على ما لهم من حقوق وفق القاعدة التي قالها الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهي "ما مُتِّع غني إلا بما أفقر به فقير". كما أن هؤلاء بحكم تكوينهم النفسي والذهني وخبرتهم العملية يميلون إلى الاستهلاكي والمظهري وما يسلك الطريق الأقصر نحو الربح الوفير، ومن هنا تخرج الثقافة من حساباتهم.
على الوجه الآخر، يتحمل المثقفون أنفسهم، جزءًا من المسؤولية، فقد فشلوا غالبًا في تقديم الثقافة بلغة يسيرة على الأفهام، في مجتمعات تعاني من الأمية الأبجدية، ناهيك عن الأمية الثقافية والسياسية والتقنية. كما أنهم ضيقوا مفهوم الثقافة ليقصروه على الآداب والفنون والعلوم النظرية، ولم يتمكنوا حتى الآن من تقديم ثقافة تمشي على الأرض، وتعايش الناس، وتشاطرهم أفراحهم وأتراحهم.
كل هذه عوامل جعلت إعلامنا بلا ثقافة، في وقت نعول عليه في أن يعبُر بنا مشكلة تردي الوعي في مجتمعنا، ولأنّ فاقدَ الشيء لا يعطيه، فعلى الإعلاميين أن يتثقفوا أو يفتح مالكو وسائل الإعلام الباب لأصحاب المعرفة ليصلوا إلى الناس بغزارة عبر الصفحات والشاشات والميكرفونات.