قبل سنوات، وقفت أستاذة جامعية أمريكية من أصل ياباني خلال ندوة نظمتها في القاهرة الهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات الاجتماعية، وقالت بصوت مفعم بالامتنان والصدق في آن، "أنا سعيدة لأني عدت بعد عشرين عامًا إلى مصر في هذه الندوة لأني سآكل طعمية. لهذا كدت أرقص حين تلقيت الدعوة. الطعمية ألذ وأفيد من الهامبرجر. أنا أحسدكم على هذا السندوتش المغذي اللذيذ والرخيص. إنه تعبير عن قدرة شعب عريق على جلب السعادة والمؤونة بأقل شيء".
ضحك الجالسون، وأنا معهم، واقترح أحدنا عليها أن يأخذوا الطعمية ويعطونا الهامبرجر. فقهقهتْ وردت عليه "فضلًا عن الفارق في اللذة لنذهب سويًا إلى طبيب أمراض باطنة، وعنده ستعرف أن الهامبرجر واحد من أسباب القتل البطيء، وإذا ذهبنا إلى طبيب تغذية فلن يجد أمامه من سبيل إلا أن ينصح بأكل ساندوتش الفلافل، لأنه أفيد كثيرًا"*.
هذه الأمريكية لم تكن الأجنبية الوحيدة التي سمعتها تمدح وجبة يدخل الفول في تجهيزها. فأيام الجامعة، وبينما كنت خارجًا من المطعم بعد تناول العشاء إلى غرفتي في أحد مباني المدينة الجامعية، سمعت في ظلمة رائقة طالبًا يمضي خلفي وهو يقول: عمار يا مصر.. كل يوم فول.. كل يوم فول. التفتُّ إليه وسألته: من أيِّ بلد أنت؟ فأجابني: من الصومال. سألته من جديد: لماذا تسخر من بلد وفر لك فرصة للتعليم وسكنًا رخيصًا؟ ابتسم وأجابني في ثقة: أنا أعبر عن فرحتي وامتناني لمصر، ففي الصومال لا يأكل الفول إلا الأثرياء، واللحوم هي الوفيرة. عندها ضحكت مندهشًا وسألته مازحًا: هل يمكن أن نتبادل المواقع ولو لسنة واحدة؟!
ما يجعل الطعام شعبيًا
في الحقيقة يبدع كل مجتمع وجبته الشعبية، لتتوافر فيها شروط أن تكون مغذية ومفيدة صحيًا، ومتوفرة، ورخيصة في متناول اليد، وسهلة التجهيز، وفي الوقت نفسه لا تنفر منها الطبقات الغنية. وبذلك تجمع أبناء الشعب، حتى وإن تفاوتت كيفية اعتمادهم عليها، بين من يأكلونها كلَّ يوم، جريًا على إمكانياتهم المادية، ومن يتناولونها بين حين وآخر، إن هفت نفوسهم إليها، أو جرفهم حنين إلى الطقس المصاحب لها.
فعربات الفول المنتشرة في شوارع مختلف المدن المصرية، تجمع أمامها منتمين إلى طبقات عدة، حيث الفقير الذي لا يجد بديلًا لذلك، وابن الطبقة الوسطى الذي يجذبه المذاق والطقس، وابن الطبقة المرفهة الذي يحتفي بالأجواء المصاحبة أكثر من غيرها، ويمكنه أيضًا تناول هذه الوجبة في بعض المطاعم الفاخرة، أو جلبها إلى بيته وإعدادها بطريقته الخاصة.
والوجبات الشعبية تعكس الكثير من المعاني التي تتجاوز كونها طعامًا تطلبه الأجساد؛ فهي تدل على طريقة تفكير الناس، ومستواهم الطبقي، ومدى توافقهم وانسجامهم كمجموعة بشرية تقطن منطقة معينة، وقدرتهم على صناعة التنوع والتعدد من شيء واحد. وهذا، دون شك، دليل على التحايل على مشكلات الحياة ومعضلاتها، ومسار إبداع في صناعة البهجة وسط ظروف مقبضة أو حال رقيقة.
وقد أبدع الشعب المصري وجبات بسيطة كثيرة مثل "المش" و"الويكا" و"إبرة العجوز" في صعيد مصر، وأبدع أهل المدن "الكشري"، لكن تظل الوجبة الأشهر والأكثر استهلاكًا هي الفول، الذي تُصنع منه وجبات متنوعة، يتجمل من خلالها وإن بقي جوهره واحدًا.
يحضرني في هذا المقام الفنان القدير أحمد زكي، رحمة الله عليه، حين شبَّه فيلمه "أنا لا أكذب ولكني أتجمل" المأخوذ عن قصة للأديب إحسان عبد القدوس بالأحوال التي يتخذها الفول عند الشعب المصري، فالمصريون يأكلونه بعد طهيه في قدور ضخمة بألوان عديدة مع الزيوت والسمن، ويعدون منه الطعمية والبصارة والنابت والفول بالطماطم، وبالبيض، وبالبسطرمة.. إلخ، ولكلٍّ منها طعمه المميز، والناس الذي يفضلونه.
واختيار المصريين الفول منذ قديم الزمن له اعتبارات، أولها أنَّ مصر كانت تزرعه بغزارة في واديها ودلتا نيلها الخصبة، وتملك منه سلاسة متميزة على مستوى العالم، إذ يتسم الفول المصري، ذو الحبة العريضة، بجودة نوعه، حتى أن الطلب عليه عالميًا لا ينقطع، بما يدفع مصر إلى تصدير 75% من حجم إنتاجها منه.
وثانيها، أن الفول من الأطعمة التي تبقى في البطون فترة طويلة، ولذا قد تؤدي وجبة مشبعة منه إلى بقاء الفقراء ساعات مديدة في استغناء عن تناول أطعمة، ولهذا أطلقوا عليه وصفًا دالًا جدًا حين أسموه "مسمار البطن". أما الاعتبار الثالث فهو أنَّ الفول قابل لتجهيز تشكيلات متنوعة المذاق، بما يخفف ملل الاستمرار في أكل صنف واحد من الطعام.
مخاطر اختفاء الفول
ولكن مع التراجع الطبقي في مصر، زاد الطلب على الفول وتشكيلاته. فمع نزول أبناء الطبقة الوسطى ليصيروا من الفقراء، وهبوط الفقراء إلى تحت خط الفقر، وتحول كثيرين من الكفاية إلى الكفاف، تقلل الأسر تلقائيًا من نفقاتها بالاستغناء عن سلع لم تعد في متناول أيديها، لتحل محلها أخرى منخفضة السعر، ليشاركوا فيها بسطاء الناس.
النظام الذي لا تكون الوجبة الشعبية متوفرة للجميع في عهده لا يمكنه الحديث عن شعبية حقيقية
وحدث أن مصر فقدت بمرور السنوات قدرتها على تلبية كل طلب سكانها على الفول، فلم تعتنِ بزراعة مساحات واسعة منه مستخدمة بذور سلالتها المميزة، وبذا تضطر إلى استيراد أغلب احتياجاتها. فالمصريون يستهلكون، وفق تقديرات 2023، حوالي 700 ألف طن من الفول سنويًا، يستوردون منها 580 ألف طن بنسبة 83%، تأتي من أستراليا وإنجلترا وليتوانيا. ويتم تحويل 400 ألف طن إلى فول مجروش يستخدم في تجهيز الطعمية وغيرها، والبقية تؤكل على حالها. وتبلغ قيمة واردات مصر من الفول المدمس حوالي 181 مليون دولار، من بين 10 مليارات دولار تنفق على استيراد السلع الغذائية عمومًا.
لذا فإن هذه الوجبة الشعبية الأهم في مصر باتت تواجه خطرًا شديدًا الآن، فالحكومة لا تجد يُسرًا في استيراد الفول بسبب أزمة الدولار، ومعاناتها في توفير ما عليها من فوائد واجبة الدفع على ديونها المتراكمة، التي تربو الآن على 165 مليار دولار. وزراعة مساحات واسعة من الفول تواجه أزمة شحِّ المياه التي تمر بها مصر، والمرشحة للتفاقم في السنوات المقبلة مع الآثار المترتبة على قيام السد الإثيوبي.
على جانب آخر، ومع ارتفاع أسعار السلع بشكل لم يسبق له مثيل، صارت الأسر المصرية الفقيرة تعاني في سبيل توفير هذه الوجبة الشعبية، لا سيما إن اشترتها من المطاعم أو عربات الفول المنتشرة في الشوارع. وهذه المعاناة تمثل نقطة حرجة، أو وقفة أخيرة قبل الانحدار إلى مجاعة.
وإذا كان أغلب الناس يعانون في توفير الوجبة الشعبية الرئيسية فهم بالطبع يعانون أيضًا من الحصول على القدر الكافي من الغذاء، ما يعني تقزم الأجيال القادمة، واعتلال الصحة العامة، بعدم تحصيل الوقاية بالتغذية، وضيق النفوس التي تشتعل بالشكوك في القدرة على مواصلة العيش بلا متاعب قاسية.
أخيرًا، لا يقف الغرم على الشعب، بل يمتد إلى السلطة، إذ إنَّ نظام الحكم الذي يجد عنتًا شديدًا في أن تكون الوجبة الشعبية حاضرة وماثلة ورخيصة لمختلف أبناء الشعب، لا يمكنه أن يتحدث عن شعبية حقيقية، وشرعية سليمة، وهو إن كتم صوت الناس عنوة، حتى لا يرتفع بأنين شكواهم، فهذا لن يمنع الناس إن جاعوا من الصراخ.
* هذا نقل أمين لحديث ودي جرى بين مجموعة من الزملاء ولا تقدمه المنصة باعتباره معلومة طبية موثوقة.