@VaticanNews على إكس
اللحظات الأخيرة في القداس الجنائزي لوداع البابا فرانسيس، 26 أبريل 2025

رسائل غياب البابا تواضروس عن جنازة "صديقه" فرنسيس

منشور الاثنين 28 أبريل 2025

بينما تغادر الوفود الرئاسية والدينية مطارات العالم في طريقها إلى روما لحضور جنازة بابا الفاتيكان، حزم البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية حقائبه هو الآخر لكن نحو وجهة أخرى في القارة نفسه.

توجه البابا على رأس وفد كنسي في زيارة رعوية إلى بولندا، وانتشرت صوره بين ركاب مقاعد الدرجة الاقتصادية.

رحلة البابا تواضروس التي انطلقت الجمعة الماضي إلى وارسو بدت تحضيريةً، يتجه بعدها بابا الإسكندرية مع وفد الأساقفة إلى القصر الرسولي للمشاركة في مراسم الجنازة، غير أن الوفد خالف التوقعات، وبدأ برنامج زيارته في بولندا.

وفي حين شارك الدكتور أسامة الأزهري وزير الأوقاف المصري في مراسم العزاء موفدًا من الرئاسة المصرية، إلى جانب الأمين العام لمجلس حكماء المسلمين الذي يرأسه شيخ الأزهر، اكتفت الكنيسة المرقسية بإيفاد أساقفة لا يعكس مستوى تمثيلهم طبيعةَ العلاقات بين الباباويَن، ولا الثقل الذي تمتعت به علاقات الكرسيين الكنسيين القديمين في السنوات القليلة الماضية.

خصومة الأنبا رافائيل مع الموتى

البابا تواضروس يجلس مع مجموعة من أبناء الكنيسة في الطائرة إلى بولندا، 25 أبريل 2025

قبل تلك الزيارة بأيام، عزَّى الأنبا رافائيل أسقف وسط القاهرة عبر فيسبوك "الإخوة الكاثوليك في وفاة بابا الفاتيكان". أثار البوست الذي حُذف لاحقًا جدلًا واسعًا، إذ خلت التعزية من الترحُّم، وكذا من المصطلحات الكنسية المستخدمة لنعي رجال الدين مثل "نياحة" بدلًا من "وفاة".

بدا النعي وكأنه تعبيرٌ عن توجهات طائفية داخل الكنيسة القبطية، عبَّر عنها أسقف وسط القاهرة في أكثر من مناسبة باعتباره أحد صقور المجمع المقدس من التيار المحافظ الذي يبدو وكأنه لا يتسامح مع الموتى إن لم يصطفوا معه أو خلفه في مربعه الفكري.

لا ينقسم المجمع المقدس القبطي لتيار تقليدي وآخر إصلاحي بالمعنى الدقيق للكلمة، ففي بعض المواقف والرؤى تتبدل مواقع الأساقفة، ويظهر فريقٌ من الأساقفة التقليديين الذين اعتادوا خوض صراعات مع البابا تواضروس وفريقه في المجمع المقدس، وهي صراعات غالبيتها تتمحور حول قضايا العلاقات مع الكنائس الأخرى والمرأة وبعض أسئلة العصر.

يعد الأنبا رافائيل والأنبا أغاثون، أسقف مغاغة والعدوة، والأنبا بنيامين مطران المنوفية، من أبرز صقور التيار المحافظ، فيما يمثل تَيار كنيسة ما بعد البابا شنودة، أي من جرت رسامتهم أو تصعيدهم كنسيًا في ولاية البابا تواضروس، الأنبا دانيال، أسقف المعادي وسكرتير المجمع المقدس، والأنبا يوليوس، أسقف الخدمات الاجتماعية، وغيرهما.

يتسق موقف الأنبا رافائيل من البابا فرنسيس مع مواقف سابقة له مثل رفضه وصف الأنبا إبيفانيوس رئيس دير الأنبا مقار المغدور بالشهيد، مؤكدًا أن الرجل مات قتيلًا وهو أمر غير كافٍ لمنحه لقب شهيد، وهو الموقف الذي يتكرر حين لم يمنح الأسقف بابا الفاتيكان مصطلح "نياحة" وكأنه يستنكر منحه الرحمة الإلهية التي يرد ذكرها في صلاة أوشية الراقدين الأرثوذكسية "نياحًا لعبيدك الأرثوذكسيين يا رب".

ما بين كنيستين

وفق تاريخ العلاقات بين الكنيستين، فإن الكنيسة الرومانية لم يسبق لها المشاركة في جنازات باباوات الكنيسة القبطية المعاصرين إلا على مستوى الوفود، فعندما تُوفي البابا كيرلس السادس (1902 - 1971) لم يحضر بابا روما، وبالمثل لم يحضر البابا شنودة جنازات باباوات الفاتيكان الثلاثة الذين توفوا خلال بطريركيته، وهو الأمر الذي كان على الكنيسة القبطية توضيحه وإعلانه للرأي العام، إذا كان هو سبب غياب البابا تواضروس.

أما من يرون أن لغياب البابا تواضروس عن جنازة البابا فرنسيس دلالات أخرى، فيؤمنون أنه اقترب من الكنيسة الرومانية حين وقَّع على وثيقة توحيد المعمودية بين الكنيستين عام 2017، ثم هُوجم بشدةٍ من التيار التقليدي فسحبها وعدلها إلى "السعي لقبول المعمودية" مما سبَّب كلَّ هذا الحذر في علاقته بكنيسة مار بطرس.

يتعارض هذا الحذر مع دفء العلاقات بين الكنيستين في عصر البابا فرنسيس، وكان من مظاهره تخصيص يوم للمحبة للمرة الأولى في 10 مايو/أيار 2013 خلال أول زيارة يجريها البابا تواضروس إلى الفاتيكان، يتبادل فيه الباباوان التهاني، وهي خطوة لم تحدث من قبل بين الكنيستين، وتعكس فلسفة البابا فرنسيس شديد الانفتاح على الكنائس والطوائف الأخرى.

البابا تواضروس يزور الفاتيكان ويظهر رفقة البابا فرانسيس بمناسبة الذكرى الخمسين لتوقيع اتفاقية تفاهم بين الكنيستين، 10 مايو 2023

بهذا المعنى تبدو كنيسة البابا شنودة أكثر وضوحًا في توجهاتها نحو الوحدة المسيحية ونحو الانتقال نحو مفهوم الكنيسة العالمية.

بينما تُقدِّم كنيسة ما بعد البابا شنودة قدمًا وتؤخر أخرى، وتظهر أكثر من أي وقت مضى ككنيسة بلا رؤية مركزية أو بوصلة لتوجهاتها التي تتركها غالبًا لتقلبات الرياح، فلا يُعرف لتلك الكنيسة حتى اليوم إلا مرونتها في الاستجابة للضغوط، وهي مرونة لا تعني الانفتاح على المتغيرات بقدر ما تعني عدم التمسك بخط واضح يعكس رؤية لاهوتية أو حتى سياسية محددة.

فبينما كانت كنيسة البابا شنودة متمسكةً بخط لاهوتي وسياسي واضح في قضية الصهيونية المسيحية، يعكس صوتها القبطي الأصيل وماهية وجودها في محيط دول الجوار الإسرائيلي، لم تنشغل كنيسة ما بعد شنودة بهذا الأمر واكتفت بخطابات تنديد بما يحدث في غزة غاب عنها أي تأصيل لاهوتي.

كذلك فإن كنيسة البابا شنودة كانت منشغلةً بتأصيل مفاهيم ترسم صورة للأسرة المسيحية وسط تصاعد مد إسلامي حولها، حينها رأى البابا شنودة ورفاقه أن الأسرة القبطية هي جوهر الحفاظ على الوجود القبطي، بينما تغيَّر العصر بوفاته ولم تعد الكنيسة منشغلة بالإجابة عن تساؤلات عصرية ملحة مثل قضايا المرأة والأدوار الجندرية التي فرضت نفسها على الواقع المعاش وغابت لاهوتيًا إلا من خلال بعض الأصوات التي حاولت الوصول لمساحة وسط بين التقليد القبطي والمساواة بمعناها المعاصر.

ربما يرجع ذلك لفروق شخصية بين البابا شنودة والبابا تواضروس، إذ انخرط الأول في جيل مدارس الأحد الذي عايش الفترة الليبرالية في مصر بتحولاتها وانعكاساتها على تكوينه السياسي والمعرفي مما جعله أكثر قدرةً على إدارة مناورات سياسية وصياغة خطابات كنسية.

بينما نشأ البابا تواضروس في عصر انسحاب الأقباط من المجال العام نحو الكنيسة، مما أسهم في تكوينه الكنسي الذي يميل للانعزال عن الشأن العام إلا فيما يضطر له بواقع وجوده على سدة كرسي القديس مرقس، وهو الدور الذي تواترت عليه العوامل السياسية والمجتمعية لتجعله ممثلًا سياسيًا وروحيًا للجماعة القبطية.

البابا شنودة والخطاب المزدوج 

في المقابل كانت كنيسة البابا شنودة أكثر استجابة وفهمًا لطبيعة الضغوط السياسية والكنسية التي مرت بها، فعمل البابا وفريقه من الأساقفة على صياغة خطابين: الأول للاستهلاك المحلي يؤكد على الرؤية القبطية الأرثوذكسية الواحدة والوحيدة في مناخ تتنافس فيه الكنيسة مع طوائف محلية أخرى على رأسها البروتستانتية.

التكنولوجيا جعلت من الصعب على الكنيسة صياغة خطابين مختلفين لمخاطبة الداخل والخارج

وهو مناخ قديم تعود جذوره إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر حين عرَف المجتمع المصري نوعًا جديدًا من المدارس التي أنشأتها إرساليات دينية مسيحية، وهدفت بالأساس لتحويل المسيحيين الأرثوذكس إلى كاثوليك أو بروتستانت، وهو ما قُوبل بتأسيس مدارس الأحد على يد القديس حبيب جرجس (1876-1951)، مؤلف كتاب الصخرة الأرثوذكسية، وهي الرؤية التي تعنى بتشكل مفهوم للأمة القبطية المتمسكة بتراث الآباء وبعقيدة القرون الأولى وتغليف العقيدة المسيحية بقشرة خارجية عازلة تحميها من الانفتاح على دعوات الإصلاح ذات الصبغة البروتستانتية.

بالتوازي صاغت كنيسة البابا شنودة خطابًا آخر خصصته لخارج مصر، أعادت فيه كنيسة مارمرقس موضعة نفسها وسط الكنائس العالمية وشكَّلت رؤيتها الخاصة في اجتماعات مجلس الكنائس العالمي ككنيسة شرقية ذات تقليد أرثوذكسي من ناحية، ومن ناحية أخرى ككنيسة لا تمانع في فتح أفق للحوار العالمي بشرط عدم التخلي عن عقائدها الثابتة ومحدداتها. ولعب الأنبا صموئيل أسقف الخدمات الاجتماعية الراحل دورًا بارزًا في هذا الشأن في السبعينيات قبل مقتله على المنصة جوار السادات.

ومن بين هذه التوجهات موقف الكنيسة البارز في مجلس الكنائس العالمي ضد المسيحية الصهيونية والحوارات اللاهوتية التي فتحها البابا شنودة وأساقفته مع كنائس عديدة من بينها الكنيسة الكاثوليكية.

البابا شنودة الثالث، صورة برخصة المشاع اﻹبداعي- ويكيميديا

أما كنيسة ما بعد البابا شنودة، كما أسميها، ذلك لأن عصر البابا شنودة ما زال يلقي بدلالاته عليها، فقد افتقدت المنطق الحاكم في علاقاتها الداخلية والخارجية مدفوعة بتحديات جمة، أبرزها العولمة والتكنولوجيا اللذان جعلا صياغة خطابين أحدهما للداخل وآخر للخارج أمرًا مستحيلًا، فخطابات الخارج تنشر في الداخل، وخطابات الداخل تُذاع خارجيًا.

وهكذا وجدت الكنيسة نفسها عاجزة عن إنتاج خطاب يناسب جميع الأطراف ويعبر عن كينونتها في مناطق بعيدة عن اشتباكات علاقاتها بالدولة المصرية.

في لحظة كهذه تبدو باباوية البابا تواضروس مستجيبة لضغوط التيار المحافظ الذي انتقد علاقة البابا بالكاثوليك، كما أجبره ورفاقه على التراجع عن اتفاقية قبول المعمودية التي أعيد صياغتها بعد نشرها.

المعنى السياسي للغياب

كذلك فإن تجاهل البابا تواضروس السفر لجنازة بابا الفاتيكان يعيد للأذهان ما جرى عام 2015 حين استقل البابا تواضروس الطائرة نحو مطار بن جوريون ليترأس قداس جنازة الأنبا أبراهام مطران القدس الراحل ضاربًا عرض الحائط بقرار المجمع المقدس لعام 1980 الذي يمنع الأقباط من زيارة القدس.

حينها برر البابا موقفه بأن الزيارة تهدف للمشاركة في الجنازة ولا أهداف سياسية لها، لكن السنوات التالية أثبتت أن تلك الزيارة الباباوية ساهمت في تذويب قرار منع زيارة الأقباط للقدس، مع خطابات تشجع على الزيارة وتستنكر مواقف البابا شنودة منها، وهو الأمر الذي يحضر هنا ويجر التساؤل: إذا كان البابا تواضروس ممن يحرصون على حضور جنازات الأصدقاء، فلماذا غاب عن جنازة صديقه بابا الفاتيكان الذي جمعته به علاقات طيبة.

الموقف الراهن يطرح أسئلة عمن يرتب للبابا أوراقه ومن ينظم بروتوكولاته وأولوياته ومن هم مستشاروه، إن وُجدوا، وهو الأمر الذي يمتد نحو مستقبل علاقات الكنيسة القبطية بحاضرة الفاتيكان حين يظهر الدخان الأبيض معلنًا اسم البابا الجديد.