في 19 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1977 هبطت طائرة الرئيس المصري أنور السادات في مطار بن جوريون في القدس. زيارة مفاجئة ونقطة فاصلة، أنهت سنوات طويلة من الحرب بين البلدين، وأسست لتفاهمات كامب ديفيد في 1978، ثم معاهدة سلام "بارد" وطويل وقعت عام 1979، ولكنها في الوقت نفسه كانت أحد أسباب اغتيال السادات نفسه بعد أربع سنوات.
تفاصيل الزيارة معروفة وبنود معاهدة السلام موثقة ومعلنة، وكذا ملاحقها، ولكن دائمًا يبقى هناك ما هو خلف الكواليس، وهو ما تكشفه لنا مجموعة من الوثائق أفرجت عنها وزارة الخارجية الأمريكية مطلع هذا الشهر، تتعلق بكواليس عملية السلام بين مصر وإسرائيل، تستعرضها المنصة معكم في سلسلة من الحلقات.
1.
"أدت معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية إلى زيادة احتمالات أن يتعرض السادات للاغتيال. لو حدث هذا فسيؤدي اغتياله الى زعزعة الاستقرار، خاصةً وأنه لا يوجد خليفة واضح لديه مكانة السادات. الاغتيال قد يؤدي إلى حالة استقطاب في البلاد بين من سيتوحدون خلف خليفة مؤقت (من المحتمل أن يكون مبارك) وبين من سيؤثرون السلامة في العودة الى الصف العربي. لكن على المدى البعيد فإنه من الصعب تخيل أن يستمر خليفة السادات في اتباع سياسة يعارضها العالم العربي. خطط تأمين السادات جيدة والمصريون يدركون مستوى التهديد الذي يتعرض له. يفترض التحليل التالي للقوى التي قد تزعزع الاستقرار في مصر أن السادات سيبقى في الحكم حتى عام 1982 على الأقل".
ملخص برقية تم إرسالها من السفارة الأمريكية في القاهرة الى واشنطن في السابع والعشرين من أبريل عام 1979.
2.
في البرقيات الأمريكية التي تم تبادلها في الفترة بين أغسطس/ آب 1978 وديسمبر/ كانون الأول 1980، نشاهد صوراً شديدة الوضوح للأجواء التي رافقت مسيرة الرئيس المصري الراحل أنور السادات مع عملية السلام المصرية الإسرائيلية والتي انتهت بحدث اغتياله في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول عام 1981.
وتكمن أهمية تلك الوثائق التي صدرت مؤخراً ضمن الطبعة الثانية للبرقيات الأمريكية التي تعرضت للصراع العربي الإسرائيلي، في قدرتها على شرح وتفكيك المشهد المصري الداخلي خلال تلك السنوات، وهو الأمر الذي يساعد على فهم معادلة الحكم خلال العقود الأربعة التالية لفترة تلك الوثائق. كما أنها تقدم فرصة استثنائية لمعرفة كيف حلل الأمريكيون المشهد المصري وتوقعوا كيف ستؤول الأمور في القاهرة قبل سنوات من وضوح ملامح عصر مبارك.
حول طريقة إدارة الحكم في مصر، نقرأ في البرقية التي أرسلتها السفارة في القاهرة الى وزارة الخارجية في واشنطن في 27 أبريل/ نيسان 1979 كيف أن السادات "معزول نفسياً وفعلياً من المحيطين به وهو ما يؤثر على قدرة الحكومة على التعامل مع الملفات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى. طريقة إدارته للحكم عن بعد تجعل المسؤولين يواجهون صعوبة في اتخاذ القرارات. الوصول للرئيس محدود للغاية، ومعظم من يحيطون به مترددون للغاية في نقل الأخبار السيئة إليه. لديه عدد محدود من المساعدين. هذا الأمر سوف يكون أقل ضرراً لو أن المسؤولين مستعدين لاتخاذ القرارات باستقلالية. لكن للأسف فإن طبيعة المجتمع المصري تدفع تقريباً كل الملفات إلى قمة هرم السلطة من أجل البت فيها. حتى يصل السادات الى قرار، فإن لا شيء تقريباً يحدث."
تكرر ما أشارت إليه البرقية خلال السنوات الثلاث الأخيرة من حكم السادات مع خليفته مبارك خلال سنوات حكمه الخمس الأخيرة. كان المحيطون به أيضاً يترددون في نقل الأخبار السيئة إليه، بل ويطلبون ممن سيجتمعون به ألا يعكروا مزاج الرئيس بأخبار غير سارة. كما كان المحيطون به عدد محدود من المسؤولين الأمنيين وعلى رأسهم رئيس المخابرات العامة عمر سليمان.
في البرقية نقرأ أيضاً عن توقع اغتيال السادات قبل حدوثه بأكثر من عامين. لكن الخطر على حياة السادات توقعه الأمريكيون المقيمون في القاهرة من أن يأتي من دول مثل سوريا، العراق، ليبيا، ومنظمة التحرير الفلسطينية، بل وحتى الأردن. لكنهم في تلك الفترة لم يتوقعوا أن يكون الخطر على حياة الرئيس المصري قادماً من المعسكر الإسلامي، الذي لم يكن لديه زعيماً يقود المعارضة الإسلامية لعملية السلام المصرية الإسرائيلية. لكن البرقية أشارت الى أن الأوضاع في مصر مهيأةٌ لصنع زعيم شعبي للتيار الإسلامي المعارض للسادات.
3.
كما حدث في السنوات الخمس السابقة على انتهاء حكم مبارك، فإن رجال واشنطن في القاهرة أظهروا اهتماماً كبيراً بمسألة خلافة السادات على سدة الحكم. فهم يعتقدون أن اختفاء السادات فجأة من المشهد بفعل الاغتيال سوف يؤدي الى زعزعة الاستقرار وتهديد عملية السلام، وهو ما سيترتب عليه تهديد المصالح الأمريكية في المنطقة التي أخذت شكلاً جديداً في أعقاب حرب أكتوبر 1973.
لهذا نقرأ تحليلاً لدور نائب الرئيس حسني مبارك ضمن معادلة السلطة المصرية آنذاك. يتم وصف مبارك بأنه "الخليفة المفضل (في الحكم) واختيار السادات لمنصب الرئيس". البرقية تشير الى دور مبارك في اختيار من سيمثلون الحزب الوطني الديمقراطي في الانتخابات البرلمانية، وهو ما يمنحه سلطةً واسعة داخل الحزب. لكنها تتوقع أن يعارض الكثيرون تولي مبارك للرئاسة، خصوصاً وأنه "يفتقد لقاعدة مستقلة يستمد منها سلطته". تلخص البرقية شخص مبارك في عبارة موجزة "حتى اللحظة فإن مبارك هو صنيعة السادات. بدون معلمه في الرئاسة سيصبح رجلاً ضعيفاً".
ثم تشير البرقية إلى ما كان يتردد في أروقة الحكم المصرية آنذاك من أن "طموح مبارك ووجود رجله، كمال حسن علي، في منصب وزير الدفاع، قد يجعله يقدم على خطوة للاقتراب من السلطة (البرقية لا تستخدم لفظ انقلاب). لكن لا يوجد دليل ملموس على أن مبارك في الوقت الحالي يحضر لمثل تلك الخطوة".
تقدم البرقية أيضاً قراءة دقيقة لنائب الرئيس. بعد أن تتوقع أن يتولى الرئاسة خلال عملية انتقال دستورية للحكم، تتساءل البرقية عن كيف سيكون أدائه كرئيس. "فالكثيرون يعتقدون أن مبارك شخصية خفيفة، وغير مؤهل ثقافياً لإدارة شؤون مصر الخارجية. لكن هذا قيل، بل وأكثر، عن السادات بعد وفاة ناصر. تعلم السادات سريعاً وأربك منتقديه، رغم أن ذلك لم يكن سهلاً".
"رغم أنه لا يمتلك حكمة أو خبرة السادات، فإن مبارك حظي بفترة تدريب مع السادات أطول مما حظي بها معلمه مع ناصر. كما أن السادات فوض سلطات أكبر الى نائبه، أكبر من تلك التي حصل عليها من ناصر. مبارك يملك الآن خبرة معتبرة في الحكم المحلي، الحزب الحاكم، والشؤون الدبلوماسية. يملك أيضاً طاقةً هائلة ويبدو كما لو أنه نضج خلال توليه منصبه".
لكن هذا الشرح الوافي لما حصل عليه مبارك من خبرات بسبب استثمار السادات الكثيف فيه، لم يجعل من أعدوا البرقية يغفلون عن "أكبر مشكلة لدى مبارك وهي ميله لاتباع أساليب بسيطة خلال تعامله مع الملفات المعقدة، بالإضافة الى شخصنة مشاكل مجردة". ولهذا تعتقد الوثيقة أن الرجل يمكن أن يكون جاهزاً للحكم بعد فترة، لكنه قادرٌ على أن يدير الدفة لو هبطت عليه المسؤولية فجأة.
من المدهش أن البرقية التي تم إعدادها قبل أكثر من عامين من تولي مبارك للسلطة توقعت نهجه في الحكم كما لو كانت قد كتبت بعد سنوات من صعوده للرئاسة. تقول البرقية إن "سياسات مبارك الخارجية والداخلية لن تحيد عن الخط الذي رسمه أنور السادات طالما تم تحقيق هدفين، (أ) المزيد من التقدم على صعيد عملية السلام في الشرق الأوسط، (ب) المزيد من التنمية الاقتصادية بمساعدة الدول الصديقة ومساعدتنا (الولايات المتحدة)".
فيما يتعلق بعملية السلام فإن البرقية تقول إن "مبارك ليس مهموماً بالمسألة الفلسطينية. فهو قد أخبر سفيرنا عدة مرات بأنه لو تم منح سكان غزة حكماً ذاتياً حقيقياً، فإن سكان الضفة الغربية يمكن أن يتركوا للتخليل (عملية صنع المخلل) لو رفضوا الانخراط في عملية السلام."
4.
تبدو البرقية مع وثائق أمريكية أخرى تعرضت للمشهد السياسي المصري بين 1978 و1980 الأساس الذي صاغ المطالب الأمريكية من القاهرة خلال العقود الثلاثة التي حكم فيها مبارك مصر. هذه المطالب هي؛ (1) الحفاظ على عملية السلام المصرية الإسرائيلية. (2) تقديم غطاء سياسي للتحركات الأمريكية في العالم العربي كما حدث خلال أزمة احتلال العراق للكويت عام 1990. (3) التعاون العسكري مع الولايات المتحدة الذي يصل إلى حق استخدام القواعد الجوية والمرور داخل المياه الإقليمية والأجواء المصرية، وهو ما يساعد على الانتشار العسكري في الشرق الأوسط كما جرى خلال حروب الخليج الأولى والثانية والثالثة. (4) التعاون الأمني والاستخباراتي في الحرب على الإرهاب وتدمير منظمة القاعدة حول العالم كما حدث قبل وبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001. (5) الانخراط الكامل في عملية تحرير الاقتصاد وربطه بالاقتصادات الغربية وهو ما يجعل مسألة الخروج من الحلف الأمريكي عملية شديدة الصعوبة وعالية التكلفة.