تحل الذكرى السادسة لتنصيب البابا تواضروس الثاني بابا للأقباط الأرثوذكس وبطريركًا للكرازة المرقسية، خلفًا للراحل البابا شنودة الثالث، معلنًا بدء مرحلة جديدة يحكم فيها مزاج عام مغاير. فقد أتى البابا تواضروس الثاني على رأس الكنيسة عقب الربيع العربي، ما جعل قراراته محل ترقب من العديد من الباحثين والمحللين، منتظرين التغيرات التي سيحدثها على مستوى هيكلة المؤسسة داخليا، ورجع الصدى العام عليها، خاصة مع اختلاف منافذ الإعلان عن الرأي وساحات الحوار العام، والتغيرات الحادة في الظروف السياسية والاجتماعية المحيطة.
التغيرات التي أحدثها البابا في المؤسسة الكنسية منذ تاريخ تنصيبه وحتى الآن، أكدت على وجود اتجاه مختلف عن الاتجاه الذي تبناه أسلافه، وإن كان ينطلق من تراث كنسي مستقر جعل البابا تواضروس الثاني يلجأ للتطوير انطلاقًا من أسس وضعها البابا شنودة الثالث خلال رئاسته للكنيسة التي استمرت حوالي 40 عامًا، ترك فيها تأثيرًا كبيرًا وعميقًا في المجتمع المسيحي المنكمش على نفسه نوعًا.
واتخذ البابا عدة خطوات متلاحقة لإعادة ترتيب المؤسسة داخليًا بدءًا من إعادة تقسيم الأبراشيات ووضع لوائح الانتخابات الداخلية وصولا لانتخاب البطريرك ووصولا لإعادة تنظيم الرهبنة. ففي إطار إعادة تقسيم الأبراشيات اعترف البابا بالعديد من اﻷديرة مثل العذراء ورئيس الملائكة، ودير الأم سارة للراهبات في المنيا، ودير الشهيدة دميانة بالبلينا، وخارجيًا تأسست أبرشيات بهولندا، اليونان، جنوب وشمال فرنسا وكندا.
وأعاد البابا هيكلة لجان المجمع المقدس، وأصدر لوائح مهمة منها لائحة انتخاب البطريرك ولائحة اختيار الكاهن، ولوائح انتخاب مجالس الكنائس وأمناء التربية الكنسية مع وضع دليل للرهبنة القبطية ودليل للأب الأسقف ونظم إدارة للأبراشية. وقام بسيامة العديد من الأساقفة، كما أعاد أساقفة مبعدين إلى أبراشياتهم مرة أخرى.
وعلى أهمية التغيرات نفسها، يبقى أن الطريقة التي جرت بها تلك التغيرات لا تقل عنها أهمية، فقد وضع البابا تواضروس الثاني طريقة عمل جديدة تتجنب ما انتقده البعض من "أحادية الرؤية" في المؤسسة الكنسية خلال عهد البابا الراحل شنودة الثالث، والذي كانت المؤسسة والمجتمع المسيحي في عهده أكثر انغلاقًا واستفادة من ابتعاد الدولة عن التدخل في الشؤون الكنسية خلال عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، الذي ترك للكنيسة استقلالها التام مقابل ضمان الاستقرار.
قرارات البابا اتخذت بطبيعة الحال لترسيخ دور رجل الدين المسيحي في المجتمع المسيحي، وعلى المستوى الخارجي "لتغطية نطاق الكنائس ودور العبادة الخارجية الكثيرة التي أنشئت في عهده". لكن كثيرون رأوا في تلك التوسعات الكنسية وغيرها من القرارات وسائل جديدة للسيطرة ودعم الاستقطاب. كما أنه بطبيعة الحال مع طول مدة تولي نيافته فإن العديد من البنود و الملفات كان من الضروري إعادة فتحها.
غموض الكرازة
رغم ذلك التطوير، فإن رد الفعل على المستوى العام تجاه تلك الإصلاحات ظل خافتًا ربما لحالة "الخصوصية" التي فرضتها المؤسسة الكنسية على نفسها منذ عهد البابا شنودة الثالث، وحقيقة أن المجتمع ككل مُستَهلَك في التغيرات السياسية والاجتماعية التي تلاحقت من 2011 وحتى 2014 قبل الدخول إلى مرحلة ركود ممتدة دفعت كل فئة في المجتمع للعودة للانكفاء على نفسها.
لكن الوضع تطور بشكل كبير بعد مقتل الأنبا أبيفانيوس بدير الأنبا مكاريوس الكبير (أبو مقار) بوادي النطرون، فقد كشفت ردود الأفعال على الجريمة وما تبعها من تداعيات عن وجود خلافات داخل المؤسسة الكنسية لا يمكن وضعها تحت بند الخلافات الشخصية؛ بل هي اختلافات عقائدية واضحة وصدامات على مستوى الهيكل العام الكنسي.
استدعت الجريمة تفاعلات كانت تجري تحت السطح، وطرحتها للسجال العلني، فظهر أمام الرأي العام الحجم الكبير للاستقطاب الذي يتصاعد في الوسط القبطي، ومدى تأثير ذلك على تيار التجديد الذي يدعمه البابا تواضروس، وعلى المسيحي الفرد، أو حتى على مستوى العلاقة مع الآخر المسلم.
جاء رد فعل البابا على الجريمة عاصفًا بشكل يتناسب مع حجمها الذي حرك المياه الكنسية الراكدة، فاعترف البابا تواضروس الثاني بوجود رهبان فاسدين، وأكد أنها فرصة ممتازة للمضي في طريق الإصلاحات الداخلية؛ وتبع ذلك التصريح البابوي، إصدار المجمع المقدس للعديد من القرارات الهامة التي يعرف الباحثون والمهتمون أنها كانت ضرورية منذ سنوات، لكنها كانت تنتظر محركًا قويًا، وخاصة تلك القرارات التي تتعلق بالرهبنة.
ما يشهد بصعوبة اتخاذ تلك القرارات خاصة فيما يتعلق بمؤسسة الرهبنة التي تشكل عامودًا مهما في بنية الكنيسة وفي الإيمان المسيحي؛ هو ردود الأفعال المختلفة القادمة من قساوسة لهم مكانتهم، والتي أبرزت وجود العديد من العوائق، ليس في وجه تنفيذ قرارات تنظيم الرهبنة فحسب؛ بل في كل ما يتصل بسياسة البابا تواضروس الإصلاحية ككل.
فالأب أغاثون اعترض على العديد من بنود اللائحة، ومنها منع الرهبان تمامًا من التواجد على وسائل التواصل الإجتماعي أو الظهور في الإعلام، متسائلا "كيف سيدافع الراهب عن نفسه؟". وبصرف النظر عن اللائحة؛ فقد هاجم الأب أغاثون البابا لانتقاده للمجموعة التي تطلق على نفسها "حماة الإيمان" وهم من المعارضين لسياسات البابا تواضروس. وشدد الأب أغاثون على ما وصفه بـ"وجوب الدعوة للإيمان والدفاع عنه من جانب كل مواطن مسيحي"، مهاجمًا المدارس الكنسية الحديثة التي يدعوا لها البابا، واصفًا إياها بأنها "خطر على إيمان الفرد، فهي قد تتسبب في زعزعة الثوابت و التوجيه نحو الكفر و الإلحاد".
الأنبا أغاثون هو نفسه من اتهم البابا تواضروس الثاني سابقًا بالهرطقة لأنه وقع "وثيقة توحيد معمودية" مع بابا الفاتيكان. واصفًا ذلك الإجراء بأنه تنازل عن الإيمان الأرثوذكسي.
عقبات في طريق الوحدة
الأب جو الدومينيكاني أستاذ اللاهوت بالمعهد الكاثوليكي، والصديق المقرب للأب الراحل إبيانفيوس أشار إلى وجود اتهامات ضمنية للمجددين أمثال البابا تواضروس بالهرطقة. يوجه هذا الاتهام أطراف بالكنيسة ترفض المشروع التجديدي الذي يقوده البابا ويقوم خلاله بالتواصل مع الكنائس الكبرى الأخرى.
كل تلك التصريحات والردود تدل ضمنيا على وجود معسكرين مختلفين بالكنيسة، يقود كل معسكر منهما مجموعة من كبار رجال الدين.
وتؤكد هذه التصريحات على اختلاف رجال الكنيسة القبطية على مبادىء محورية؛ وذلك ما أشارت له في عام 2008 تصريحات القس المنشق ماكس ميشيل "الأب مكسيموس" المتعلقة بالبابا شنودة الثالث، ونظام المؤسسة الكنسية. لكن تعليقات مكسيموس نُظر إليها باعتبارها مطامع ذاتية منه للاستيلاء على الكرسي البابوي في ظل سفر البابا شنودة للعلاج بالخارج.
لكن ماذا عن الدرجات الأدنى في السلم الكهنوتي، خاصة الرهبان وهم الأكثر عددا، هل هم على وفاق؟
بالطبع لا، فهم أيضا أصابهم الاستقطاب والدليل على ذلك هو جريمة القتل التي اتهم بارتكابها راهبين حاول أحدهما الانتحار، وكذلك ما ما أحيط بوفاة الأنبا زينون المقاري من تساؤلات بعد أن كشفت التحقيقات الأولى على وجود مواد غريبة بطعامه، وزينون هو واحد من ستة رهبان جرى نقلهم من دير أبو مقار بقرار من لجنة الرهبنة والأديرة بالمجمع المقدس عقب اغتيال الأنبا إبيفانيوس.
كما كشف اغتيال الأنبا إبيفانيوس عن الصراعات المتعددة التي شهدها دير وحيد هو دير الأنبا مكاريوس الكبير (أبو مقار) وأخرجها للرأي العام، ليُظهر حجم الانقسامات والصراعات الموجودة داخل الكنيسة وخاصة في سلك الرهبنة.
كل تلك الخلافات التي وجدت طريقها للإعلام وكما يتضح من خلفياتها، ليست وليدة اليوم، بل كانت تستعر تحت السطح بعيدًا عن أعين الإعلام، إلى أن كشف عنها مقتل الأنبا إبيفانيوس الغطاء. فيظهر نتاج سلطة استمرت أربعين عامًا (سلطة البابا شنودة) بكل ما فيها من إيجابيات وسلبيات. وبالتأكيد فإن تلك المدة الطويلة قد زرعت في كثير من النفوس طموحات وأهداف وخطط.
لكنها وجدت طريقها الآن إلى العلن، ومعها؛ خرجت التسريبات، إذ صارت صفحات فيسبوك ساحة للصراع الأيديولوجي بين أنصار فكر البابا شنودة، ومعسكر المجددين الذي يُحسب عليه البابا تواضروس الثاني. فقد نشرت بعض الصفحات المسيحية المحسوبة على معسكر "حُماة الإيمان"، المحسوب بدوره على البابا الراحل شنودة الثالث، وثائق تدعي تورط الأب يوئيل المقاري في ارتكاب مخالفات مالية، ردا على التسريب المنشور له بصوته الذي انتقد فيه بعض سياسات البابا شنودة الثالث. حساسية تسريب هذه الصور التي تقول صفحات فيسبوك أنها دليل فساد؛ تأتي من خصوصية وحساسية الأرشيف التي تنسب إليه، وهو أرشيف البطريركية في العباسية والذي يحتاج الوصول إليه إلى قيادات كبيرة بالكنيسة.
وصول تسريب كذلك إلى شبكات التواصل الإجتماعي، نقل الإشتباك من مجرد خلاف بين صفحات خاصة بالبابا شنودة تمزج بين تعاليمه وتعاليم أخرى مقدسة خاصة بالعقيدة المسيحية؛ في مواجهة صفحات ومجموعات تؤيد التجديد؛ إلى مرحلة أشد خطورة، توجه فيها الاتهامات إلى رموز كنسية مهمة.
حيرة المتدينين
هذا يطرح سؤالا مهمًا حول كيفية تأثُّر المجتمع القبطي بكل ما يجري منذ تولي البابا تواضروس شؤون الكرسي البابوي، وما تقيمهم لتلك الفترة.
بشكل عام، فإن معظم الآراء العلمانية ترى أن القرارات والتجديدات الهيكلية لم يتأثر بها المدنيين بشكل كبير، فهذه القرارات تُناقش بشكل جاد وتطبق في الكواليس.
لكنها تنتقل في شكل صراعات وخلافات لشبكات التواصل الاجتماعي فتتحول إلى شجارات تشوبها السطحية والافتقار للمعلومات والإصرار على الاستقطاب والخلاف. يفصح عدد من العلمانيين الأقباط في كتاباتهم المتناثرة على فيسبوك والمنتديات المسيحية المغلقة عن كونهم يرون في الإجراءات الخاصة بالهيكلة الكنسية والتعليم الكنسي قرارات أساسية ومحورية، تأخر اتخاذها لسنوات عديدة، فالتعليم الكنسي -وهو مهم ومؤثر في قطاع كبير من الأقباط- مليء بالعديد من المحاور التي تحتاج إلى التجديد والمطلوب تحديثه ليوافق تطورات العصر.
إن قرارات واتجاهات البابا تواضروس والكيفية التي تصدر بها عبر المجمع المقدس وما تكشف عنه التسريبات من وجود نقاشات تتطور إلى حد الصراعات في الكنيسة؛ توضح أن عقلية البابا تواضروس الثاني تميل للتمدن والتحديث، وأنه شخصيًا يميل للنقاش ومشاركة المسؤولية والقرار، وهو أمر لم تشهده الكنسية طوال أربعين عامًا في ظل نيافة البابا شنودة الثالث، ربما لهذا يواجه البابا بخوف وارتباك وربما غضب العديد من الرهبان والقساوسة داخل المؤسسة.
دعا هذا معارضو البابا لاعتبار حالة النقاش والغليان الجارية في الكنيسة بمثابة "فوضى" تخرج الكنيسة عن انضباطها الذي كان يُقارن بانضباط مؤسسة الجيش.
أما الفرد المسيحي فيري في هذه مشكلات مربكة، شديدة التعقيد وتمس مؤسسة الإيمان. بينما يرى العلمانيون من الأقباط أنها تغييرات غير مهمة ما دامت لن تؤثر في هيكل المؤسسة نفسه وتدفعه لمزيد من الانفتاح. لذا ينقسم رد فعل جمهور الأقباط تجاه خطوات البابا إما بالميل العام لرفض التغير؛ أو التخوف من وجود شبكات مصالح صغيرة تكونت داخل جدران الكنيسة قد لا يسهل تفكيكها وإزالتها.
حماة إيمان مَن؟
مصطلح "حماة الإيمان" الذي أثار الانتباه في القضية أيضا لا يلفت إنتباه أغلب قطاعات المجتمع القبطي وذلك لأن معظم الخطاب الذي يطرحه المنتمون لتلك المجموعة عبر صفحاتهم ومنتدياتهم هو خطاب "زاعق" يفتقر للمعلومات والحجة ويكتفي بالوصم والتكفير، ولم تتمكن مجموعة حماة الإيمان على انتشارهم الفيسبوكي من تحقيق التأثير الذي أحدثته حركات متطرفة أخرى.
التسريب الأخير للأب يوئيل المقاري، رغم كونه لا يمثل خطورة حقيقية إلا أنه يكشف عن أن رموز الكنيسة وعلى رأسها البابا، لم تعد تتمتع بالحصانة والقدسية نفسها التي كانت تتمتع بها حتى عصر البابا شنودة. ربما لم يتجاوز قطاع كبير من المسيحيين صدمة اغتيال الأنبا إبيفانيوس على يد أبنائه الرهبان، إلا أن تلك الصدمة لم تمنع من فتح باب المكاشفة ودعمت من حجة التيار الذي يدعو لكسر الأقفال المفروضة على الحوار الكنسي فيما يتعلق ببنية وإدارة المؤسسة الضخمة التي يبلغ عمرها 2000 عامًا.
يأخذ المؤيدون لسياسات البابا تواضروس الثاني عليه عدم اعتنائه باهتزاز صورته الإعلامية. فهو لا يجيد العرض الكامل لقراراته بشفافية. كما أن الإعلام الكنسي فقد بريقه الذي كان يملكه في عصر البابا شنودة، حيث كانت القنوات الكنسية الرسمية أو جريدة الكرازة منابر معدودة وموثوقة للمعلومات، هذه المنابر لم تعد قادرة على اجتذاب وإقناع الشباب المسيحي. وكانت النتيجة هي وقوع المجتمع المسيحي بسهولة ضحية للشائعات التي يروجها المعسكر الرافض لسياسات البابا.
المأخذ الثاني الذي يؤخذ على البابا تواضروس هو "التصاقه" كرمز للمؤسسة الكنسية بالنظام الحاكم. وفي تلك النقطة تختلف الآراء حول سبب ذلك الارتباط مع الإتفاق على عدم صحته. حيث يرى جانب من الرافضين أن ذلك الاصطفاف يلعب دورا كبيرا في زيادة تشويه صورة المسيحيين أمام الآخر كفصيل موالي للنظام على طول الخط، كما أنه يجعلهم هدفًا رئيسيًا للجماعات المسلحة. في ظل حالة أمنية يتكرر فيها الاعتداء على المسيحيين بذات الكيفية وفي نفس الأماكن أحيانًا، كما في واقعة الهجوم على أتوبيس زوار دير الأنبا صموئيل المعترف بالمنيا، والذي وقع قبل أسبوعين بنفس الكيفية التي حدث بها في 2017.
الجانب الآخر من الرافضين يقر بصعوبة ابتعاد رأس الكنيسة عن رأس الدولة، ويتخوف من رد فعل الدولة المضاد في حالة المضي في ذلك الاتجاه. هذا المعسكر يرى أن تغيير الوضع المستقر منذ عهد البابا شنودة شبه مستحيل، خاصة وأن البابا الراحل كان يتعامل مع الكنيسة باعتبارها ضمن مؤسسات الدولة. كما تميز بقربه من السياسة وإدراكه لمجرياته وهو ما يبدو أن البابا تواضروس الثاني يفتقر إليه. واستطاع البابا شنودة أن ينتزع بعض المكاسب التي تتوافق مع معتقداته الشخصية لصالح المسيحيين من خلال قربه من الدولة، كما استطاع أن يفرض أجندته فيما يتعلق بالأحوال المدنية للأقباط.
محاولات الخروج
يعي البابا جيدًا عمق التغير الاجتماعي الذي حدث للمجتمع المصري ولدى الأقباط منه عقب ثورة 25 يناير. فمع تفجير كنيسة القديسين وما أشعله من تضامن مجتمعي وسياسي واسع وغير مسبوق، ثم الثورة وما شهدته من تلاحم بين المسلمين والأقباط وصولا لمجزرة ماسبيرو؛ زاد انفتاح الأقباط على المجتمع. لكن مستوى الثقافة والتعليم العام وما رافق وتلا أحداث ماسبيرو من تعزيز مفاهيم التعصب والانقسام، أعاد الوضع بين المسلمين والمسيحيين المصريين للمربع السابق على الثورة، وإن لم يتراجع معه الوعي المسيحي العام بالحقوق والمواطنة والرغبة في الانفتاح التي رافقت مشاعر ونجاحات الثورة المبكرة. ما جعل مهمة الاندماج الكامل للأقباط في المجتمع في ظل مدنية حقيقية ترعى جميع المواطنين حلمًا بعيدًا، فعاد المسيحيون للاحتماء بالكنيسة في ظل ما يقابلهم ويعتبرونه اضطهادًا وتمييزًا. وإن بقت أعينهم على حلم المواطنة في دولة مدنية تسع الجميع.
وعي البابا لهذا التغيير ربما يقف وراء المغايرة الملحوظة بين خطابه، وخطاب سلفه البابا شنودة. فالخطابات البابوية تبدلت فيها النبرة من "أتحدث بإسم الأقباط" إلى "أتحدث باسم المؤسسة الكنسية"، وهذا بادرة اتجاه عام للانفتاح.
مع كل تلك العوامل ترجح العديد من الأطراف بقاء الوضع على ما هو عليه على المدى القصير، فالبابا معه دعم الدولة والإعلام الرسمي وشريحة ليست بقليلة من الأقباط المتطلعين للمواطنة والانفتاح، كما أن التيار المحافظ لا يقف على أرضية صلبة فيما يخص الواقع، ومن المستبعد أن يخرج المتعصبين الدينيين عن النطاق الإفتراضي تحت الظروف الحالية.
لكن ما إن لم يتم معالجة مشكلة الإعلام الكنسي ودعمه وتقويته وتطبيق قرارات المجمع المقدس فيما يخص فرض الانضباط الداخلي، فهنالك احتمالات بتصاعد الخطاب المعارض الذي يسيطر على منابر ومنافذ إعلامية وافتراضية كثيرة، ولا يستبعد البعض أن يحدث غضب شعبي على المدى البعيد يكون نتاجا لتلك الفوضى والتوتر والاعتداءات الإرهابية المسلحة على الأقباط، وهو سيناريو سيكون صادما لكنه ليس بنفس وطأة سيناريوهات العنف الطائفي المتبادل التي حدثت بالدول المحيطة.