لم يتوقع والدا مريم شحاتة عندما تركا ابنتهما الصغيرة في حماية أحد الكهنة في مكتبة الكنيسة أنها ستصبح ضحية للتحرش، ولكن الطفلة أدركت لاحقًا عندما كبرت أكثر أن ما كان يحدث بالداخل لم يكن أمرًا طبيعيًا.
“كان بيقعدني على رجله ويرفعلي الفستان ويديني موبايله ألعب عليه. كان في مكتبة الكنيسة وأنا ماكنتش ببقى مركزة ولا فاهمة أي حاجة أصلًا وهو كان شاب في العشرينيات ماكانش كبير خالص“.
بعد أن استطاعت مريم استيعاب الحادث، أخبرت الكاهن المسؤول عن هذا الخادم، لتلاحظ بعدها اختفاءه من الكنيسة تمامًا، ولكنها لم تعرف بالضبط ما الذي جرى وما إذا قد عوقب أم اكتفوا بطرده وحسب.
أما ماري* فكان عمرها 13 سنة عندما تعرضت للتحرش في المرة الأولى "في درس من دروس القبطي، للأسف مش قادرة أتكلم عن تفاصيل اللي حصل بس هو كان اعتداء باللمس"، مثلما حكت للمنصة.
عندما تكرر الأمر ثانية كانت ماري في المرحلة الثانوية. شعرت بالانتهاك وعدم الراحة ولكنها لم تكن واعية بعد بحقوقها ولا بأنواع التحرش. فأثناء ممارستها سر الاعتراف ضغط عليها الكاهن بأسئلة ملحة لمعرفة حول علاقاتها وشعورها بالشهوة الجنسية، وعندما أجابت بالنفي استمر في طرح أسئلة تتضمن شرحًا لتفاصيل جنسية.
” أنا كنت صغيرة جدا وفضلت أعيط، كنت فاكرة إنه من الكسوف والخجل بس طبعا حاليا أنا مدركه إنه من إحساسي بالانتهاك. وأنا خارجة قالي تعالي يابت هاتي حضن لأبونا ومتعيطيش. فا رفضت بشكل ضمني لما جه يحط ايده كشيت وبعدت فسابني خرجت معيطة”.
خادم متحرش؟
ربما ظنت مريم ومثلها ماري أن ما تعرضتا له كان حادثًا فرديًا، ولكن ما دونته سالي زخاري على حسابها في فيسبوك عن تعرضها لاعتداءات جنسية متكررة من القس رويس عزيز خليل كلما كانت تؤدي سر الاعتراف في كنيسة العذراء مريم ورئيس الملائكة ميخائيل بفلوريدا، وما نتج عنه من شهادات لنساء أخريات تعرضن للتحرش عدة مرات في كنائس مختلفة، كشف أن الأمر يتجاوز الحالات الفردية.
بدأت سالي تتعرض للتحرش بينما كانت ما زالت طفلة لا يتجاوز عمرها 11 سنة في عام 1997. وعندما بلغ عمرها 16 سنة أبلغت كاهنًا آخر بما يحدث ليخبرها بأن الذي يتحرش بها أعيد إلى مصر “ليعاقب” وبأنها لم تكن الضحية الوحيدة. ولكن اتضح لاحقًا أن عزيز عندما أعيد إلى مصر استمر منخرطًا في سلك الكهنوت بل ورقي أيضًا ليصبح قمصًا.
هنا قررت سالي أن تجدد شكواها مرة أخرى وتتواصل مع عدد من المسؤولين في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية إلى أن وافق البابا تواضروس في أكتوبر/ تشرين الأول 2019 على بدء تحقيق مع عزيز انتهى في فبراير/ شباط 2020 إلى إدانته وعزله.
ولكن تأخر تنفيذ القرار، وتقول سالي إنها تعرضت لضغوط تمثلت في مكالمة فيديو "مفاجئة" مع عدد من الأسقافة، حققوا معها "كمتهمة"، لتقرر إرسال رسالة نصية إلى الأنبا مكاريوس تهدد فيها بنشر نسخة من تحقيقات الكنيسة التي انتهت إلى إدانة المتحرش، ثم نشرت قصتها على فيسبوك، لتعلن مطرانية المنيا التابع لها عزيز، الشهر الماضي، تجريده.
وقبل ثلاث سنوات من مشاركة سالي زخاري قصتها على فيسبوك، وفي عام 2017، دشنت ناردين ناجي التي تعرضت بدورها لتحرش في طفولتها من أحد خدّام الكنيسة، #خادم_متحرش، بعد أن التقت صدفة بفتاة أخبرتها أنها تعرضت للتحرش من الخادم نفسه.
أنشأت ناردين استمارة عبر الإنترنت لإتاحة فرصة لمن لا تريد الإفصاح عن هويتها. واستلمت أكثر من 96 قصة تحرش داخل المؤسسات الدينية (من خلال الاستمارة والرسائل الإلكتروينة فقط) إلى جانب القصص التي سمعتها من أصحابها مباشرة في لقاءات عامة ومقابلات شخصية.
تشارك ناردين المنصة “حسيت بالمسؤولية إني لازم أعمل حاجة ودا اللي خلاني أفجر هاشتاج خادم متحرش وأخدت خطوات كبيرة في الموضوع وأخدت جزء من البلاغات اللي جاتلي واتحركت بيها ناحية القيادات وبدأت آخد إجراء في إنه أبلغ القيادات ويحصل وقف للخدام بس الموضوع صعب قوي قوي قوي ومحتاج نفس طويل جدا وتفكير وتخطيط استراتيجي“.
الكنيسة: آليات غائبة وفرصة ثانية أحيانًا
حتى الآن لم تقم معظم الطوائف المسيحية بخطوات فعلية لوضع آليات واضحة وآمنة للشكاوى، يمكن للنساء اللاتي يتعرضن للتحرش داخل الكنيسة اللجوء إليها. كما أنها لا تصدر أي أرقام حول عدد الضحايا بل إن مصدرًا داخل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية قال إن "حوادث التحرش داخل الكنيسة موجودة ولكن نادرة".
ويضيف الكاهن الذي طلب من المنصة عدم ذكر اسمه أن ”السيد المسيح لما اختار الـ 12 تلميذ كان من ضمنهم واحد أخطأ ولم يتب وهو يهوذا، ولكن الإعلام والسوشيال ميديا خلت كل حاجة معلنة وواضحة على عكس زمان القصص حتى لو كانت موجودة مكناش كلنا بنعرفها“.
يتناسب عدم وجود آليات محددة لمواجهة حوادث التحرش داخل الكنيسة القبطية مع سردية الكاهن حول "ندرتها"، قبل أن يمضي شارحًا أن "كل منطقة فيها الإيبارشية والمجلس الاكليريكي المسؤول عنها وعن الكهنة الي بيخدموا في كنايس المنطقة، وبيقدر أي حد الذهاب للمطرانية وتقديم شكوي أو مقابلة المسؤولين هناك، وعلى أساس حجم الخطأ بيكون قرار المجلس، يعني هل الخطأ اتكرر أكثر من مرة أم لم يكن الخطأ مقصود وفيه نيه للتوبة وتعديل السلوك، وحتى إن تم إعطاء فرصه تانية بيكون فيه مراقبة لسلوكه وتصرفاته“.
وتتنوع العقوبات التي ينالها الخادم إذا أدين بالتحرش، فقد يكون العقاب أحيانًا عقابًا روحيًا كالحرمان من التناول أو من صلاة القداس لفترة، وقد ينقل إلى كنيسة أخرى.
ويشير المصدر الكنسي إلى أن ”الكنيسة تصبر وتصلي قبل أن تأخذ أي قرار، فكلنا معرضين للوقوع في الخطية لكن ربنا بيستر على معظمنا عشان كده الكنيسة بتاخد وقتها تفكر وتصلي كتير قبل أي قرار“.
الكنيسة القبطية الأرثوذكسية لا تنفرد وحدها بحوادث التحرش. ففي عام 1983 تفجرت أول فضيحة بارزة لتحرش جنسي داخل كنيسة في الولايات المتحدة، وذلك رغم محاولات التعتيم وتقديم تعويضات مالية ضخمة للضحايا كتسوية لشراء صمتهم، إلا أن عائلة واحدة لم تقبل التسوية ورفعت دعوة قضائية علي القس جيلبرت جوتييه الذي اعترف في النهاية باعتدائه على أكثر من 35 صبيًا وحكم عليه بالسجن 20 سنة وأطلق سراحه بعد 10 سنوات.
عُرف فيما بعد أن الإيبارشية كانت على علم بتجاوزات جوتييه منذ السبعينات ولم تقم بأي إجراء سوى نقله إلى كنيسة أخرى.
ومن الولايات المتحدة إلى أستراليا حيث انتهت حملة للتدوين عن تحرش الكهنة في الكنيسة الكاثوليكية عام 2017 إلى تشكيل لجنة لتقصي الحقائق انتهى تقريرها إلى أن 7% من القساوسة الكاثوليك تورطوا في إساءات جنسية لأطفال بين عامي 1950 و2010، وأن 4445 طفلًا تعرضوا لاعتداءات جنسية من عام 1980 إلى عام 2015.
وأقر البابا فرنسيس بابا الفاتيكان عام 2018 بأن الكنيسة "تخلت عن أولادها" الذين تعرضوا لتحرش الجنسي من قساوسة وتعهد في عدة تصريحات بالقضاء على التحرش في الكنائس الكاثوليكية وقدم الاعتذار للضحايا عدة مرات في لقاءات عامة.
وخلال السنوات الماضية وثقت حالات مشابهة في ألمانيا والولايات المتحدة ولبنان.
*اسم مستعار بناءً على طلب المصدر.