تصميم: يوسف أيمن - المنصة

"الستات ما تشتغلش جراحة": تخصصات العظام لا ترحب بالنساء

منشور الخميس 1 أكتوبر 2020

 

تخلت مارتينا عن أمنيتها في الالتحاق بقسم جراحة العظام، بعد أن أيقنت تماما أن هذا القسم "للرجال فقط" بحكم العرف السائد في كليات الطب والذي يصل إلى حد منع الطالبات من دخول غرفة الجراحة لأن "الولاد بتكون واخدة راحتها في الألفاظ". 

"محدش من زميلاتي فكر يتخصص عظام، كله عارف السلو. هذا ما وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا"، تقول مارتينا سعد طالبة الامتياز بكلية الطب في جامعة أسيوط، قبل أن توضح أثناء حديثها إلى المنصة أنها أحبت تخصص العظام بسبب تقديرها لأساتذة هذا القسم الذين درّسوها. 

وتشرح أكثر "الدكاترة كانوا بيشرحوا حلو وكان فيه شهادات تقدير للي يجيب درجات نهائية.. كان في تشجيع كبير جوة القسم"، لكن بما أن تخصص العظام يغلب عليه العمل الجراحي، فقد أغلق عُرفًا في وجه النساء، حيث كان "معروفًا" أن غرفة الجراحة "البنات ما ينفعش تدخلها لأن الولاد بتكون واخدة راحتها في الألفاظ.. رجالة مع بعض بقى" بحسب مارتينا، التي تحدثت كذلك عن "تعسف" من بعض الأطباء الذكور "مش عايزين حد يدخل وسطيهم"، لتقتصر خيارات الطالبات الراغبات في إجراء عمليات جراحية على قسمي النساء والولادة، والتجميل. 

فروض الثقافة

الطبيبة مي حسن استشارية جراحة عظام الأطفال بمعهد ناصر عوملت "باستغراب ودهشة" من غالبية زملائها عندما اختارت أن تسجل دراسة الماجستير في قسم جراحة العظام عام 1992، ولكنها لاحقًا أصبحت أول طبيبة مصرية تتخصص في هذا القسم.  

ترى الدكتورة مي أن ثقافة المجتمع "السلفية السلبية" هي سبب إغلاق أقسام الجراحة في وجه الطبيبات المصريات، حيث ترى أن هناك "ضغوطا تمارس على المرأة لتقنعها أن العمل لا يناسبها وأن هناك أعمالًا خاصة بالرجل فقط"، من بينها جراحة العظام.

وتضيف للمنصة أن محاولات عديدة بذلت معها لتغيير تخصصها عندما بدأت الماجستير بحجة أن "دي شغلانة صعبة ومحتاجة تفرغ"، باعتبار أن تفرغها "لبيتها وجوزها وعيالها" أمر حتمي، وأن "الستات ما بتكملش للدكتوراه"، مشيرةً إلى أن ثقافة المجتمع تضع المرأة في إطار واحد فقط هو الزواج والإنجاب "وتخدم في البيت"، ولا يوجد "تقديس للعلم والعمل " بالنسبة للنساء، لذلك فإن "الثقافة ما بتساعدهاش والخوف من كلام الناس".

مجهود عضلي؟

يفسر الأمين العام المساعد ورئيس لجنة التحقيقات في نقابة الأطباء جورج ناشد  عدم تخصص النساء في جراحة العظام بأن "معظم شغلها طوارئ" بينما النساء "بيتحملوا مسؤوليات تانية كبيرة زي مسؤولية البيت" قد تجعل من الصعب عليهن التواجد بصفة مستمرة في المستشفى "للعمليات أو مناظرة المرضى، ده شيء مش سهل". 

وردًا على أن جراحة النساء والتوليد، التي تتخصص فيها الكثير من الطبيبات، تكثر فيها حالات الطوارئ، يشير ناشد إلى أن جراحة العظام تختلف في متطلبات "المجهود البدني والعضلي الكبير الذي لا يتوفر في الطبيبات"، معربًا عن اعتقاده بأن المسألة لا علاقة لها بالتمييز ضد المرأة ولا يوجد يمنع تخصص أي طبيبة في جراحة العظام أو غيره "التمييز ده مبقاش موجود في الزمن الحالي".

ويتفق الدكتور عادل العدوي وزير الصحة الأسبق وأستاذ جراحة العظام في جامعة بنها مع ما ذهب إليه ناشد بعدم وجود تمييز ضد النساء في المهن الطبية، إذ اعتبر في حديثه إلى المنصة أن "إشكالية التحاق السيدات بقسم جراحة العظام لم تعد كما كانت في السابق، بسبب التقنيات الطبية الحديثة التي بفضلها انتفت فكرة الاعتماد على المجهود العضلي والقوة البدنية للرجال".

وهو يرى أن المجال بالتالي أصبح مفتوحا أمام النساء في الوقت الحالي للتخصص في جراحة العظام "بصورة غير مسبوقة".

ويشير وزير الصحة الأسبق إلى أن جراحة العظام مثلها كمثل الجراحة العامة والتي لم تكن مطروقة بالنسبة للإناث في السابق، وهو ما تغير الآن، مؤكدا أن الإناث اللاتي يرغبن في الالتحاق بهذا القسم لا يواجهن أي مشاكل إدارية مطلقا لأن العبرة فقط بالتفوق والكفاءة.

ولكن تجربة طبيبة الامتياز إسراء بسيوني والتي بدأت تخصص العظام قبل ثلاثة أشهر في جامعة الإسكندرية وتعتزم الاستمرار فيه تشير إلى أن بعض التمييز ما زال موجودًا.

تتحدث إسراء إلى المنصة عن "انتقادات" وجهت إليها منذ أن أعلنت نيتها التخصص في جراحة العظام "ما ينفعش انتي بنت وصعب ومفيش بنات بتدخل القسم ده والقسم أصلا مبياخدش بنات ولو صدفت وروحتي لا رئيس القسم هيقبلك ومش هتعرفي بعد كدة تحضري ماجستير ولا دكتوراة وهيضايقوكي في مناقشة الرسالة وهيكرهوكي في حياتك وهيطفشوكي من المكان"، لكنها استمرت "هو مش حق للولاد بس، هو حق للي عايز وأي حد عايز تخصص معين وشايف نفسه فيه ليه لأ؟".

وترفض إسراء استبعاد النساء من العمل في جراحة العظام بحجة أنها مهنة تحتاج إلى قوة بدنية ليست موجودة عند النساء "طب ما في ستات بتشيل وتسافر وتروح وتيجي وعندها قدرة بدنية على كل حاجة ليه بقى عضم لأ للستات؟".

عندما بدأت الشابة فترة امتيازها داخل قسم العظام بجامعة الاسكندرية، قوبلت بدهشة كبيرة من قبل كل من في القسم من أطباء وطاقم التمريض "أي حد معدي يقولي إيه ده إنتي إزاي هنا؟ إزاي هتقدري تكملي؟ هتقدري تردي خلع أو تجبري كسر؟"، بينما هي ترى أن المجهود البدني موجود في كل أقسام الطب وليس حكرا على العظام فقط.

استشارية جراحة عظام الأطفال بكلية الطب في جامعة أسيوط ناريمان أبو العيون تعرضت لضغوط تشبه تلك التي واجهتها إسراء عندما اختارت جراحة العظام لتكون تخصصها بعد تخرجها عام 2001، ولكنها اكتشفت "لما دخلت التخصص إن القوة المطلوبة هي قوة الإنسان العادي"، وكل المزاعم حول القوة البدنية المفرطة التي يضطر الرجال إلى استخدامها هي مجرد أوهام لا صحة لها على الإطلاق، " زمان كانوا بيقولولي إحنا بنضطر نروح نشيل حديد عشان نتخصص عظام"، وهو ما نفته الطبيبة التي أكدت أن هذه الجراحة دقيقة بالفعل وتحتاج إلى مرونة أكثر "مش هبد وخبط وخلاص" كما أن "الواحد لما بيشغل دماغه احتياجه للقوة البدنية بيقل".

لاحقًا، حصلت ناريمان على الماجستير عام 2005 في جراحة اليد، ثم الدكتوراة في جراحة العمود الفقري، لتحصل بعدها على منحة إلى ألمانيا وتتخصص في جراحة عظام الأطفال وتصبح واحدة من مؤسسي قسم جراحة عظام الأطفال الحالي في جامعة أسيوط "مجهود كبير بس النتيجة كانت مرضية جدا"، بحسب قولها. 

لا جراحة للنساء

لا تقتصر هذه الفجوة الجندرية بين النساء والرجال في أقسام الجراحة على المستوى المحلي في مصر فقط، بل هو سياق عام في الكثير من دول العالم، على سبيل المثال في 2016 كانت النساء تشكل فقط نسبة 19.2% من إجمالي أطباء الجراحة في الولايات المتحدة الأمريكية، أما في المملكة المتحدة، فتظهر إحصائيات الكلية الملكية للجراحين في نفس العام أن نسبةالجراحات الإناث فقط هي 11.1%، بحسب مقال منشور في المجلة الدولية للجراحة (International Journal for Surgery Global Health). 

ويعزو المقال هذه الفجوة بين الجنسين في أقسام الجراحة بشكل عام إلى أسباب تشمل التصورات الاجتماعية عن النساء والقوالب النمطية الجنسانية حول الخيارات المهنية والحياتية المناسبة للمرأة، ونظر الكثيرين إلى الأمومة على أنها عقبة، إن لم تكن حاجزًا ، أمام التدريب الجراحي.

ويشير المقال إلى أن سنوات التدريب الجراحي توافق أكثر سنوات الخصوبة بالنسبة لعمر المرأة (28-35) حيث تفكر العديد من النساء في إنجاب الأطفال، لذلك تعتبر فكرة أخذ إجازة لإنجاب الأطفال هي الأقل تفضيلًا ويُنظر إلى النساء اللاتي يفعلن ذلك إلى أنهن أقل التزامًا بتدريبهن، ويواجهن خطر فقدان المهارات، وبالتالي يقل احتمال عودتهن إلى التدريب أو قوة العمل بعد ذلك، بالإضافة إلى ضعف فرصهن في التطور الوظيفي بشكل عام. 

وبالإضافة إلى ذلك، فغالبًا ما يتم الاستشهاد بالتصورات النمطية حول الشخصية المطلوبة للجراح، ذلت علاقة بمستوى القوة البدنية المطلوبة وعلى رأسها جراحة العظام على سبيل المثال، كأسباب تحول دون التحاق الأنثى بقسم الجراحة. 

أما في مصر، فالوضع لا يختلف كثيرا فيما يتعلق بالفجوة بين النساء والرجال في أقسام الجراحة بشكل عام؛ فبحسب موقع فيزيتا المتخصص في الحجز والاستشارات الطبية تقل عدد الطبيبات النساء اللاتي يعملن في الجراحة عن عدد نظرائهن من الذكور في كافة التخصصات الجراحية، بالرغم من وجود بعض الأقسام الجراحية التي يرتفع عدد الطبيبات المتخصصات فيها عن غيرها مثل النساء والتوليد وجراحات التجميل، وذلك فيما يبدو لأن سوق العمل بهذه الأقسام يعتمد أكثر على النساء، لكنها تظل نسبة أقل من عدد الرجال في نفس التخصص.

فبينما يوجد 534 أخصائي في جراحة العظام على فيزيتا هناك أخصائية واحدة فقط، و26 جرّاحة أطفال مقابل 1302 من الجراحين الذكور، و304 جرّاحة أورام يقابلهن 1718 جراحًا، وأربع جراحات صدر وقلب مقابل 189 جراحًا. تخصص النساء والتوليد كان أكثر تخصص شهد حضورًا نسائيًا بـ 583 جرّاحة مقابل 1774 جراحًا. 

بنية مجتمعية منمطة

ديانا مجدي الباحثة والناشطة النسوية الحاصلة على الماجستير في دراسات الشرق الأوسط من الجامعة الأمريكية في القاهرة، ترى أن النساء بشكل عام يواجهن "تحديات واسعة في كل المهن بناء على ما يفرضه البناء الاجتماعي عليهن من أدوار مبنية على التصورات الخاصة بمفاهيم الذكورة والأنوثة"، مشيرةً إلى أن التمييز الجندي يتم بناءً على تلك الأدوار وإن كان ذلك يحدث بنسب متفاوتة في مساحات أكثر من أخرى. 

هذه البنية تربط النساء بكل ما هو عاطفي وناعم، وعلى هذا الأساس يتم مفاضلة الرجال عن النساء وإلصاق بعض الصفات التي تقدم بشكل غير إيجابي للنساء كالميل إلى الضعف والعاطفة السلبية، كما تحرم الفتيات في سن صغيرة من ممارسة الرياضات "غير التقليدية للنساء" أو التي تتسم بالقوة البدنية، وبالتالي يكون الضعف البدني لهن هو نتاج  ذلك الإقصاء النابع من الأعراف المجتمعية التي ترى النساء كائنات ضعيفة وتربط هذا الضعف بمعايير الأنوثة.

على الجانب الآخر، بحسب ديانا، فإن نفس البناء الاجتماعي يفرض على الرجال الأنشطة المرتبطة بالفحولة الجسمانية، وتحثهم على اكتساب المزيد من العضلات والقوة البدنية كـ "مظاهر للرجولة وفق الأدوار النمطية المفروضة على النوعين"، وهو ما يخلق حسب رأيها بمرور الزمن بعض التخصصات الوظيفية ذات ما يعرف بالهيمنة الذكورية (male dominated)، وكذلك مهنة الطب في مطلعها حيث كانت النساء موجودات داخل المهنة لكن البناء المجتمعي منح السلطة الأعلى للرجال.

وتخلص إلى أن هذا ما يشكّل العوائق أمام النساء إذا أردن الالتحاق بتلك الوظائف إما للأبعاد المجتمعية؛ فمثلا باتت بعض الأسر ترفض إدراج بناتها في تخصصات معينة أثناء الدراسة الجامعية، وقد يرتبط ذلك أيضا بـ"سمعة البنت"، حسب تعبيرها، وفق المعايير الاجتماعية التي ترفض وجود النساء وسط تجمع من الرجال " إزاي تبقى بنت واقفة في وسط الرجالة"، بالإضافة أيضا إلى سؤال الأمان الشخصي للنساء أنفسهن واحتمالية تعرضهن للتحرش الجنسي بشكل أكبر عند وجودهن لفترات طويلة في مساحات يهيمن عليها الرجال.

وتعزو ديانا المسألة بشكل أساسي إلى مفهوم علاقات القوى في المجتمع التي تميز الرجال في العديد من المساحات وتمنحهم السيادة على أغلب المواقع على حساب النساء، في الوقت الذي تغذي فيه المعايير والأعراف المجتمعية النساء بضرورة التزامهم بكل ما هو قريب من المنزل والدور الإنجابي بانعكاسات ذلك على الأدوارالوظيفية، لذلك قد نرى مهنة التمريض مثلا كمهنة "خاصة بالنساء Female dominated" لأنها أقرب لدور تقديم الرعاية الذي يتم ترسيخه في النساء، وكلها أشياء قد تؤدي بمرور الزمن إلى ابتعاد النساء عن مجالات معينة – ومنها مجال جراحة العظام على سبيل المثال-  تماشيا مع تلك المعايير المرتبطة بالبنية المجتمعية المنمطة للنوع الاجتماعي.

في الوقت نفسه تؤكد ديانا أن "هناك تجارب عديدة أثبتت أن إتاحة الفرص للنساء لاختراق القطاعات التي يهمين عليها الرجال قادر على تغيير الصور النمطية عن أدوار النساء، ويثبت أن النساء قادرات على القيام بما يقوم به الرجال مما يثبت أن هذا التنميط نابع من الأعراف المجتمعية التي ترسم أدوار النوع الاجتماعي وتفرضها على الذكور والإناث، والتي تتغير بتغير السياق الزمني والمكاني، وهو ما تحاول العديد من النساء القيام به من أجل محاربة الأنظمة الأبوية وخلق مساحات لأنفسهن يتمكنَ من خلالها من ممارسة حيواتهن وفق اختياراتهن الحرة بعيدا عن الضغوط المجتمعية المفروضة عليهن".