في بداية حملها الأول عانت رحاب (29 سنة) من اضطرابات شديدة في المعدة أفقدتها القدرة على تناول الطعام لقرابة ثلاثة أشهر. في البداية لم تُظهر التحاليل أي شيء يسترعي الانتباه، فاعتقدت طبيبتها أن الألم والقيء وغيرهما أعراض طبيعية معتادة تواجهها نساء كثيرات خلال شهور الحمل الأولى، وتعاملت مع شكواها من عدم القدرة على تناول الطعام أبدًا كـ "مبالغة" تأتي في سياق "الدلع على جوزها".
لكن الوضع لاحقًا تدهور إلى حد بعيد عندما فقدت رحاب 18 كيلوجرامًا من وزنها الطبيعي حتى وصل إلى 50 كيلوجرامًا، لتقترح طبيبتها أن تحجز في المستشفى لتلقي العلاج رغم محاذير انتشار فيروس كورونا، لكن رحاب قررت تلقي الرعاية اللازمة مهما كلف الأمر.
أقامت رحاب في المستشفى لمدة أسبوعين، اعتمدت خلالهما على المحاليل حتى تعافت بصورة تدريجية، وتمكنت من تناول الطعام من جديد.
لم تنتهِ أزمات رحاب بسبب حملها هنا. في نهاية الشهر التاسع شعرت بأن جنينها ليس بخير بسبب توقفه عن الحركة ما دفعها لمراجعة الطبيب الذي استعجل ولادتها. وضعت رحاب طفلتها بصحة جيدة ولكن جرح الولادة لم يلتئم والآلام استمرت واستمر معها النزيف شهرًا ونصف، راجعت رحاب الطبيب لكن مجددًا ظن هو الآخر أنها تبالغ، وبعد فحصها أوضح أن الجرح ملوث لا أكثر وبحاجة لعلاج التلوث.
لم تقتنع رحاب أن جرحها ملوث واتبعت غريزتها، بدأت تبحث بنفسها على الإنترنت لتعرف ماذا بها وأجرت تحاليل مختلفة حتى وضعت يدها على المشكلة أخيرًا، الجرح لا يزال مفتوحًا من الداخل حتى الآن ولا بد من إعادة فتحه من جديد لإغلاقه بطريقة صحيحة.
توجهت رحاب إلى طبيب ثالث وافق على إجراء الجراحة، وخلالها تبيّن أن المشكلة أكبر بكثير؛ تعاني رحاب من الالتصاقات البطنية (abdominal adhesions) ما يعني أن أنسجتها تلتحم على بعضها البعض، وسيتكرر الأمر في كل مرة تجري فيها عملية جراحية.
بعد اكتشاف حقيقة مرضها، تأكدت رحاب أنها لم تكن تبالغ مثلما كان يشير بعض المحيطين بها ومن بينهم أطباء أجروا عليها فحوصًا ظاهرية، وانتهوا إلى أنها تبالغ في التعبير عن آلام الحمل العادية.
لوهلة قد يبدو ما واجهته رحاب حالة فردية ترتبط بـ "سوء الحظ" الذي ألقى بها بين يدي أطباء قد تنقصهم الكفاءة، ولكن كثير من النساء يشتركن مع رحاب في "سوء الحظ" هذا، الذي إذا نظرنا إليه بتمعن سيبدو كنمط انحياز متكرر سلط تدهور حالة الفنانة ياسمين عبد العزيز الصحية بعد إجرائها عملية نسائية "بسيطة" في منتصف يوليو/ تموز الماضي، الضوء عليه أكثر لتجد قضية الانحياز الطبي ضد النساء طريقها إلى الجمهور من خلال أشهر صناع المحتوى العربي على الإنترنت.
بعد العملية، وحسبما يروي زوجها الفنان أحمد العوضي، واجهت ياسمين آلامًا مبرحة، قلل طبيبها من حدتها وخطورتها وأكد لها أن ما تشعر به طبيعي وتمر به 15% من السيدات، وقدّم لها نصيحة "روحي اتعشي واتمشي"، غير أن ما حدث أن المضاعفات التي مرت بها ياسمين كادت تودي بحياتها واستدعت سفرها إلى الخارج للعلاج.
أزمة عالمية
ما واجهته ياسمين من تقليل لأثر آلامها دفع رحاب وغيرها من النساء لمشاركة تجاربهن الكثيرة المشابهة، لتنتشر العديد من التجارب والشهادات في المجموعات النسائية عبر فيسبوك، حيث وجدت النساء مساحة للتنفيس عن جزء مما يعانون، وتعددت الحكايات عن سلوك الأطباء المتكرر في التقليل من أثر ما تواجهه النساء من آلامٍ وأعراض مرضية.
هذه الحكايات تأتي متوافقة مع ما ذكره مقال بعنوان "لماذا تعاني النساء للحصول على تشخيص صحيح؟"، استعان بدراسة للكلية الأمريكية لأطباء النساء والتوليد، تؤكد أن تشخيص متلازمة بطانة الرحم المهاجرة التي تعاني منها امرأة من بين كل 10 نساء، يستغرق ما بين ست إلى عشر سنوات، فيما يستغرق تشخيص الأمراض المناعية مثل الذئبة واضطرابات الغدة الدرقية، من 4.6 إلى خمس سنوات للتشخيص.
كما أن 50% من النساء، وفقًا للمقال نفسه، يحتمل تشخيصهن بشكل خاطئ عند الإصابة بأمراض القلب حتى بعد تعرضهن لأزمات قلبية. ونسبة وفيات النساء تحت سن 50 نتيجة الإصابة بأزمات قلبية في المستشفيات تبلغ ضعف نسبة الرجال. أما فيما يتعلق بالسكتات الدماغية فإن نسبة التشخيص الخاطئ ترتفع 30% أكثر إذا كانت الحالة المصابة امرأة عمّا إذا كانت رجلًا، وحتى في حالات التشخيص الصحيح فإن تقديم العلاج بعقاقير إذابة التجلط يبقى أقل مما يحصل عليه الرجال.
وبحسب دراسة أخرى أجريت في الدنمارك على 6.9 مليون شخص، فإن اكتشاف إصابة امرأة بمرض ما يستغرق بشكل عام أربع سنوات أطول من تشخيص إصابة رجل بنفس المرض، كما تُشخص الأورام عند النساء بعد حوالي سنتين ونصف، أما الأمراض التي لها علاقة بالأيض فتصل لأربع سنوات ونصف، والاستثناء الوحيد هو مرض هشاشة العظام التي يمكن تشخيص النساء به سريعًا وحتى قبل إصابتهن بأي كسور على عكس الرجال. ولفتت الدراسة إلى أن الذكور يراجعون الأطباء في وقت متأخر مقارنة بالنساء ما يعني أن الفجوة الزمنية في اكتشاف الأمراض لكلا الجنسين أكبر بكثير.
كيف بدأ كل ذلك؟
طوال عشرات السنين اُستبعدت النساء من غالبية التجارب السريرية التي تجرى على الأدوية والعلاجات الجديدة والتي تقوم على ثلاث مراحل لاختبار فعالية العقار، حيث أشارت غالبية الآراء إلى أن لا فارق بين الجنسين سوى في الجهاز التناسلي، لذلك ليس هناك أهمية تُذكر لتمثيل النساء في هذه التجارب.
ولكن هذا الاعتقاد ثبت خطؤه استنادًا إلى النتائج المختلفة لنفس الأدوية بين الذكور والإناث والتي تؤثر عليها عناصر كثيرة منها اختلاف البنية الجسدية والهرمونات، ودفعت النساء الثمن طوال سنوات إلى أن أقر الكونجرس الأمريكي عام 1993 قانونًا يوجب مشاركة النساء في التجارب السريرية، وقد وصلت نسبة مشاركتهن اليوم نحو 49%.
وإلى جانب الاستبعاد من التجارب السريرية، تستعرض الباحثات سيسيليا تاسكا وماريانجيلا رابيتي وبيانكا فادا في بحثهن النساء والهيستيريا في تاريخ الأمراض النفسية تاريخًا طويلًا من التمييز تجاه النساء في تشخيص الأمراض النفسية، بداية من "الهيستريا" التي ظل الطب قرونًا متعاقبة يعتقد أنها "مرضًا" مصدره اضطرابات في الرحم. تنطلق الدراسة من هنا لتركز على "البعد الشيطاني" الذي منحه الطب للمرأة كمخلوق أدنى من السهل أن يسقط فريسة للسحر والشيطان.
استمرت هذه الأفكار التي بدأت من مصر القديمة وأمّن عليها أبقراط الملقب بـ "أبو الطب" حتى القرن القرن السابع حين قام الطبيب توماس ويلس بتقديم طرح ثوري مختلف عن السائد حيث أكد أن الهيستيريا مرتبطة بالمخ والجهاز العصبي لا الرحم، ظل هذا الطرح "ثوريًا" إلى أن أزيلت الهيستيريا عام 1980 من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية (DSM).
هيمنة الرجال على المجال الطبي منذ اكتشافه ومزاولته كانت من أسباب انحياز الطب ضد النساء، فالذكور لم يختبروا حياة النساء ولم تراجعهم امرأة تعمل بالمجال الذي ظل لفترة طويلة حكرًا عليهم، ما أنتج رؤية أحادية للألم والمرض، وحتى العلاجات التي ظلت سنوات طويلة تختبر على الرجال فقط.
كانت الطبيبة أجنوديس التي عاشت في القرن الرابع قبل الميلاد أول امرأة في أثينا تعمل في هذه المهنة، ولكنها اضطرت للتنكر في هيئة الرجال لأن الطب كان محظورًا بشكل رسمي على النساء. هذا التنكر لم يقتصر فقط على مرحلة الدراسة بل امتد إلى سنوات عملها. وبعد أن ذاع صيتها شكك الرجال فيها وطالبوا بإعدامها كونها رجلًا يغوي النساء أثناء علاجهن، ليكون دفاع النساء عنها وكشف حقيقتها سببًا في تغيير القانون الذي سمح بعد ذلك للنساء للعمل في الطب بذريعة "مداواة النساء"، التي كانت وراء انفتاح المجال للنساء للمشاركة خصوصًا مع تحفظات الكثيرات لعلاجهن على أيدي رجال إما لدواعي دينية أو مجتمعية، فظهرت القابلات والتي شكلت النسبة الأكبر من النساء الممارسات للطب.
ومع بدايات الحداثة، أصبحت إليزابيث بلاكويل أول طبيبة تتخرج في كلية الطب في الولايات المتحدة عندما حصلت على الدكتوراة في عام 1949 من جامعة جينفيا بنيويورك، وأسست مع شقيقتها إميلي مستشفى نيويورك للنساء والأطفال في عام 1857. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر بدأت النساء تواجه التمييز ضدهن في المجال الطبي بشكل عملي، وتكلل سعهين بانشاء مدارس طبيبة مخصصة للنساء، كانت أولى هذه المدارس هي كلية الطب للإناث ببنسلفانيا في عام 1850، وبعدها أُسست مدارس مماثلة في لندن وإدنبرة وطوكيو والصين.
والآن تشير الدراسات إلى زيادة عدد الملتحقات بكلية الطب في السنوات الأخيرة والتي وصلت نسبتها إلى 49% في الولايات المتحدة التي تصل فيها نسبة الإناث العاملات في المجال الطبي ككل إلى الثلث فقط.
ولكن رغم هذه الزيادة، لم ينفتح المجال للنساء كليةً، فبعض التخصصات وعلى رأسها الجراحة لا تزال في ملعب الرجال. التشكيك في قدرات الطبيبات على الالتزام بأداء مهنتهن في الوقت الذي يقع عليهن عبء تكوين أسرة ورعايتها، مع التلميح بضعف قوتهن الجسدية مقارنة بالذكور وعدم قدرتهن على تحديات المهنة لا يزال يلاحقهن حتى الآن ويمنع أغلبهن من مواصلة أحلامهن في الترقي والتحقق الوظيفي.
هل ننفق النقود على أمراض النساء؟
في الجزء الثالث من كتابها ربما عليك أن تكلم أحدًا، كشفت المعالجة النفسية الأمريكية لوري جوتليب عن صراعها مع أعراض بدأت بطفح جلدي أثناء إجازة صيفية قضتها في هاواي. بعد علاجه توالت أعراض مختلفة منها الإعياء المستمر والإرهاق والضعف بشكل عام، وتغير في حالتها النفسية.
ورغم إجرائها العديد من التحاليل المختلفة لم تعرف لوري ماهية مرضها، في البداية طمأنت نفسها بأنه عدم القدرة على التشخيص يعني أن المرض ليس خطيرًا لكنها لم تستطع مسايرة هذه الفكرة، وزادت مخاوفها. في البداية شخّصت حالتها على أنها مرض مناعي غير معروف بعد.
طبيب آخر تعامل مع الأعراض على أنها (فيبروميالجيا) أو متلازمة الألم العضلي التليفي وهو عبارة عن اضطراب في البنية العضلية يصاحبه أعراض منها الإرهاق واضطرابات النوم والذاكرة، وهو ما لا يمكن تحديده بواسطة اختبار أو تحليل ويقوم علاجه على مداوة الأعراض وانتظار تحسنها.
زيارات لوري للأطباء لم تتوقف، طبيب أورام شخص مرضها على أنه سرطان نادر لكن الاختبارات لاحقًا نفت هذه الفرضية، وآخر قدّر أنها مصابة بالتصلب المتعدد MS، وهو مرض يصيب النساء بصورة أكبر من الرجال ويهاجم فيه الجهاز المناعي أنسجة الجسم الذاتية، لكنه لم يكن التشخيص الصحيح بعد، ترددت لوري على جميع التخصصات الطبية ولم تصل لنتيجة.
بعد عام من معاناة لوري أخبرها أحد الأطباء أنها تعاني من متلازمة الرحم المتنقل، وعلى غرار طبيب ياسمين عبدالعزيز، طالب الطبيب لوري أن تزور أحد مراكز التدليك أسبوعيًا حتى تتخلص من آلامها كونها أمًا عزباء.
وفي السياق نفسه، تستعرض المخرجة جينفر بريا من خلالها فيلمها الوثائقي Unrest رحلتها مع متلازمة التعب المزمن (chronic fatigue disorder)، والذي ألزمها الفراش شهور متواصلة دون إجابة شافية من الأطباء.
لا يتوقف الفيلم عند مأساة بريا، حيث تحاور المخرجة العديد من المرضى حول العالم ممن يعانون من تجارب مشابهة من خلال لقاءات عبر Skype، إذ يستلقي كلا الطرفين على السرير في محاولة منهم لمشاركة معاناتهم مع المرض وتجاربهم مع الأشياء التي تجدي نفعًا ولو بصورة مؤقتة مثل الرياضة واليوجا والتأمل والأعشاب الطبيعية.
متلازمة التعب المزمن مرض غير واضح المعالم حتى الآن، وتختلف الفرضيات حول مسبباته، البعض يرى أنه مرض حقيقي له أسبابه وأخرون يرفضون هذا الطرح ويعتبرون أنه إما مُتخيل وغير حقيقي أو لا يوجد له سبب بعينه، ما يدفعهم لعلاج كل عرض على حده دون الوصول لأصل المشكلة.
تظهر أعراض المرض، الذي لا علاج له حتى اليوم، على شكل إعياء شديد مستمر وآلام مبرحة في الجسم، ملازمة السرير طوال الوقت، الاكتئاب، عدم القدرة على التركيز.
الإعلان التشويقي لفيلم Unrest
تشكل النساء الشريحة الأكبر من المرضى وهو ما تعده المشاركات في الفيلم السبب في تأخر تشخيصهن ومن ثم علاجهن، كما يدعين أنه في حال شكل الرجال الشريحة الأكبر كان المجتمع الطبي سيوجد حلًا سريعًا للمرض. هذا الانطباع تعززه دراسة أجرتها جامعة بنسلفانيا تؤكد أن تمويل الأبحاث التي تجري على أمراض تصيب النساء وحدهن أقل كثيرًا من تلك التي تصيب النساء والرجال على حد سواء.
رحلة النساء مع التمييز قديمة قِدم البشرية نفسها، لكن القرن الأخير شهد محاولات جديرة بالاهتمام ساهمت في تغيير الأوضاع الراهنة بعض الشيء، لكن الوقت لا يزال طويلًا أمامهن لاستعادة حقوقهن في حياة كريمة ورعاية صحية آمنة.