تصميم أحمد بلال، المنصة، 2025
أحمد عدوية

وطار عدوية

منشور الأحد 19 يناير 2025

في 29 ديسمبر/كانون الأول 2024 رحل عن عالمنا أحمد عدوية، الفنان ذو الألف وجه، والصوت الذي طوَّع التكنولوجيا لحرية اللعب والمنجهة والبغددة لأكثر من 50 عامًا.

يمكننا أن نستغرق إلى ما لا نهاية في حالة السلطنة التي نُسبغ فيها الألقاب على أحمد عدوية، ونقتطع جملًا شعرية من أغانيه لنُركِّبها في مجازات مرحة. لكن هذا الرحيل المتوقع لعدوية؛ بعد وفاة زوجته ورفيقته نوسة في مايو/أيار الماضي، يجعلنا، وقد اكتملت الدائرة، نتأمل في رحلة الفنان وكيف انتهى إرثه في سيرفرات أمريكية وصينية.

الآن، بينما يستمع المصريون إلى أغانيه ويشاهدون فيديوهاته، تذهب كل العائدات لتلك الشركات، في حين لا تنال عائلة الفنان والشركات المصرية صاحبة الحقوق سوى الفتات. فكيف وصلنا إلى هذه اللحظة؟ ومن أين أتى عدوية وإلى أين ذهب؟

أسئلة ما حدث بالأمس ومتى سيأتي الغد، تتطلب منَّا أن نخطو أكثر من مائة عام إلى الخلف، إلى بدايات القرن الماضي.

في البدء كانت الأسطوانة

ما نطلق عليها اليوم اسم الموسيقى الشعبية المصرية، ظهرت في بدايات القرن العشرين مع ظهور تكنولوجيا تسجيل الأسطوانات (78rpm). ومع نهاية الحرب العالمية الأولى، كانت هناك ثلاث شركات إنتاج تتحكم في السوق، هي جرامافون وبيضافون وأوديون.

وحيث إن سعة تسجيل كل أسطوانة لم تكن تتجاوز بضع دقائق، تطورت الموسيقى الشعبية التي كانت ابنة الأداء الحي والتفاعلي في الأفراح والموالد، لتُنتِج أغاني مدتها دقائق ليُمكن تسجيلها، فظهر فن الطقطوقة. 

انتشار الكاسيت في مصر خلال السبعينيات أتاح لعدوية مساحة جديدة للإبداع والتواصل المباشر مع جمهوره

فرضت تكنولوجيا التسجيل وصناعة وتوزيع الأسطوانات واقعًا اجتماعيًا جديدًا، فلم تعد الأغاني الشعبية حبيسة الأفراح والموالد، بل انتشرت بين جميع الطبقات. وما كان يُغنَّى في الكباريهات وعلب الليل كثمرة محرمة، أصبح متاحًا على الأسطوانات وجزءًا من التاريخ والصوت الذي يشكل هوية الأمة المصرية، التي كانت لا تزال في طور التكوين.

لذا، رافق كلَّ ما سبق جدل ثقافي وسياسي سيتكرر مرة تلو الأخرى بين من يرى في الغناء الشعبي تعبيرًا عن روح مصرية خالصة، ومن يراها إسفافًا وخروجًا عن معايير ما يفترض أن يكون حضاريًا ومصريًا. أغانٍ مكانها الغرز والكباريهات، وأخرى مكانها الاحتفالات الرسمية أمام رئيس الجمهورية.

سيستمر هذا الجدل، ويتجدد مع كل تكنولوجيا صوتية جديدة تظهر وتفرض تغيير بنية الأغنية، وتُطوِّر من قدرتها على الانتشار. حدث ذلك مع ظهور عدوية والكاسيت في السبعينيات، ويحدث اليوم في لحظتنا الحالية مع حمو بيكا وتكنولوجيا التسجيل الرقمي ومنصات الاستماع.

في هذا السياق السياسي والثقافي، ولد أحمد محمد مرسي العدوي في يونيو/حزيران 1945؛ أسابيع بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. ستجذبه نداهة الفن والموسيقى، ومنذ مراهقته سيهرب باستمرار من منزل العائلة ليصاحب "المغنواتية" والموسيقيين، لكن الحظ لن يبتسم له إلا بعد النكسة. ففي عام 1968، قدَّمته شريفة فاضل إلى مجتمع الفنانين، ليبدأ الغناء في صالة الأريزونا بوسط البلد.

سيظهر عدوية مرتديًا الجلباب، محاولًا محاكاة خيال دولة ناصر ومثقفيها عن الفن الشعبي. أو كما سيقول في أحد حواراته وقتها "أنا أقدم إيجيبشان شعبي فلكلور". لكنه مع ذلك، لن ينال الرضا وسيظل منبوذًا وغير معتمد في الإذاعة، التي كانت المنصة الأولى للاستماع للأغاني وقتها، لكن بعد إنتاج شركة صوت الحب لأسطوانة السح الدح امبو التي باعت 170 ألف نسخة في طبعتها الأولى، سيدير عدوية ظهره للإذاعة. سيخلع الجلباب ويسافر إلى لندن للغناء في بداية السبعينيات، ليعود بوجهٍ جديدٍ وتكنولوجيا جديدة للتسجيل والتوزيع.

في لقاء شخصي عام 2014، روى لي عاطف منتصر، مكتشف عدوية ومنتجه الأول، أن شركته كانت على وشك الإفلاس، عندما انفتحت أمامها طاقة القدر مع إنتاج السح الدح امبو. على حد تعبيره؛ كانوا يعبئون أموال المبيعات في أجولة. هذا المال أعاد عاطف تدويره في صورة معدات وستوديوهات تسجيل حديثة، وشبكة توزيع على مستوى الجمهورية ثم العالم العربي، واكتشاف وتقديم أصوات وفنانين جدد منهم عزيزة جلال، محمد فؤاد، ناهيك عن تسجيلات القرآن الكريم للحصري والطبلاوي، كل هذا من تدوير عائدات مبيعات عدوية.

انتشار الكاسيت في مصر خلال السبعينيات، أتاح لعدوية مساحة جديدة للإبداع والتواصل المباشر مع جمهوره. بفضل تطور تكنولوجيا التسجيل الصوتي وظهور تقنية الستريو التي ستُعرف شعبيًا بالتسجيل بـ"صدى الصوت"، تمكَّن عدوية من نقل أجواء الحفلات والسهرات الليلية إلى الاستديو.

صنع هذا فرقًا بين الأغنية الشعبية قبل عدوية وبعده. فعالم ما قبل السح داح امبو، كانت الأغنية الشعبية تسجل في إطار منضبط؛ مؤلف يكتب الكلمات، وملحن يضع اللحن، وعازفون ملتزمون بالنوتة الموضوعة أمامهم. لكن الكاسيت وتطور تكنولوجيا التسجيل كسرا هذا الانضباط لصالح اللعب الحر، والسعي لتسجيل هذه الحميمية والسحر التلقائي الذي يحدث بين عدوية والعازفين. ففي تسجيلات عدوية نسمع صوته وهو يوجه الفرقة، أو يثني على عازف أبدع في أداء منفرد.

توسعت شركات الإنتاج في تسجيل حفلات عدوية الحية وطرحها في السوق، لكن المشكلة أن السهرات الخاصة لها أجواؤها، قد يغني عدوية أغنية لمغنٍّ آخر، أو يعرج في منتصف الأغنية إلى واحدة أخرى رائجة وقتها فيغني منها كوبليه أو اثنين ثم يعود إلى الأولى، أو لا يعود. هذه ممارسات معتادة في الغناء الشعبي، حتى لو تعارضت مع قوانين الملكية الفكرية المصرية والأمريكية الحاكمة لعمل منصات الاستماع للموسيقى الآن.

أحمد عدوية

كتير الناس كتير وأنا عايز أهرب وأطير

سيغني عدوية لأكثر من عشرين عامًا، ومع ذلك سيظل ممنوعًا في الإذاعة المصرية، وستترصد له الرقابة وتضايقه أجهزة السلطة بمختلف الأشكال، حتى تقبض عليه مباحث الآداب بتهمة خدش الحياء عام 1985.

ورغم كل ذلك، استمر صعوده الصاروخي، ولم يتباطأ إلا في يونيو/حزيران 1989 عندما تلقى دعوة من الأمير الكويتي وتاجر المخدرات طلال بن ناصر الصباح للسهر والتعرف عليه في غرفته رقم 750 بفندق الماريوت. في صباح اليوم التالي، غادر الأمير متخفيًا، بينما وُجِد عدوية في الغرفة مغمىً عليه دون أي إصابات ظاهرية. نُقِل إلى مستشفى مصر الدولي بالدقي، حيث أظهرت التحليلات وجود كميات كبيرة من الهيروين والمورفين والكودايين في جسده، وهو مزيج متعارض وخطير من المخدرات لا يجوز تعاطيه بالتزامن.

ونتيجة ذلك، دخل عدوية في غيبوبة وشلل دماغي استمرا أشهرًا. وعندما استفاق، تطلبت حالته سنوات من العلاج الطبيعي لاستعادة القدرة على الكلام والمشي، وتركت هذه الأزمة الصحية أثرها بقية حياته.

أنكر عدوية تعاطيه المخدرات واتهم الأمير الكويتي بمحاولة تسميمه بإذابة المخدرات في كأس الويسكي الذي قدمه إليه. احتمى الأمير بعائلته المالكة وجواز سفره الدبلوماسي. لكن بعد غزو الكويت، عاد الأمير إلى مصر في 1991 ليُقبض عليه وبحوزته 600 جرام هيروين كان على وشك بيعها.

تقدم عدوية ببلاغ يتهم الأمير بمحاولة قتله، لكن النيابة المصرية تجاهلت التحقيق في هذا الأمر وحوكم الأمير الكويتي بتهمة الاتجار فقط، وأدين فيها وعوقب بالسجن سبع سنوات. رُحِّل بعدها إلى الكويت، حيث قُبض عليه مجددًا في 2006 بتهمة تجارة المخدرات مرة أخرى، وعاقبته المحكمة الكويتية بالإعدام شنقًا.

أُخفيت حقائق الحادث وتجنب عدوية وأسرته الحديث في التفاصيل، لأن المجرم يحمل اسم واحدة من العائلات الملكية الحاكمة في الخليج، وبدلاً من ذلك انتشرت مجموعة من الأساطير والأكاذيب، تروج لعلاقة متخيلة بين عدوية وأميرة عربية، جعلت أخوتها ينتقمون منه بتخديره والاعتداء عليه وخصيه.

بعد التعافي، أصدر في التسعينيات أكثر من ألبوم محاولًا العودة إلى الساحة. لكن الزمن تغير، وسادت فيه أصوات وإيقاعات جديدة، بينما لياقة عدوية لم تعد كما كانت. قدم معه ابنه محمد في أكثر من تجربة، حاول التطوير وإعادة تسجيل بعض الأغاني القديمة بتقنية الستريو، لكن الروقان في الصوت، والضحكة في الفيلم، والتجلي في الحفلات الحية، كلها أشياء غابت بعد الحادثة.

اكتسب عدوية وجهًا مستحدثًا، صار أسطورةً تلهم فناني الجيل الجديد الذين عبَّروا دائمًا عن محبتهم له بطرق متنوعة، منها ما فعله نجم ذلك الجيل حميد الشاعري في 1991، عندما أصدر ألبومًا كاملًا قدم فيه أغاني عدوية بتوزيع وإيقاعات جديدة.

المعلم يستوي على العرش

في مطلع الألفية عاد عدوية بوجه جديد مع بداية أفول عصر الكاسيت وبداية عصر الفيديو كليب وقنوات الأغاني. إنه عصر الصورة وزمن الاستعراض حيث تُضخُّ الملايين في سوق الموسيقى وصناعة الإعلام. وفي خضم ذلك وبمساعدة ودعم نوسة زوجته، أعاد عدوية خلق صورته كأب روحي لزمن الروقان، فلم يعد الشاب القصير خلف الراقصة، ولم يعد الواد البنج، بل جلس على كرسي العرش، يتوافد عليه المغنون الشباب العرب طمعًا في دويتو يجلب لهم حظ ونجاح عدوية.

حتى مطلع الألفية لم يغنِّ عدوية سوى الشعبي، لكن في العقدين الأخيرين سيحضر مُطوعًا أغانيه القديمة مع فنانين وموسيقيين من أجيال وأنواع موسيقى مختلفة من الروك إلى الراب. سيجد صوت عدوية طريقه للأجيال الجديدة، التي لن تعرف عدوية ملك الكاسيت، بل عدوية الأيقونة البصرية، ولن تضطر هذه الأجيال إلى البحث عن شرائط عدوية أو انتظار أغانيه في الإذاعة، بل سيجدونها متاحة مجانًا على الإنترنت، حيث ستنبت تسجيلات العدوية كالفطر في كل منتديات الموسيقى ومواقع تنزيل الأغاني.

لكن زمن السداح مداح وتحميل الأغاني مجانًا من على الإنترنت، لم يدم طويلًا. فبداية من 2011 ظهرت منصات الاستماع والمشاهدة، التي احتكرت المحتوى الغنائي والتراث الموسيقي المصري كله. وبعد أكثر من قرن من دخول تكنولوجيا التسجيل إلى مصر، أصبحت معظم عائدات الموسيقى والأغاني المصرية التي تنتج في مصر ويستمع لها المصريون تذهب خارج السوق المصرية، وأصبحت منصات مثل أنغامي السعودية أو سبوتفاى السويدية أو يوتيوب الأمريكية هي الموزع الحصري والوحيد للموسيقى والأغاني العربية، ومن ضمنها تراث الغناء الشعبي من ياسين التهامي حتى أحمد عدوية.

تدفع منصة مثل سبوتيفاي مثلًا للشركة مالكة الحقوق، من 0.003 إلى 0.005 دولار، أي أقل من عشرة قروش مصرية، على كل مرة استماع للأغنية الواحدة. ناهيك عن عدم وجود وسيلة للمراقبة على الأرقام التي تعلنها أو تقدمها تلك المنصات، والأهم ما يمكن أن يحدث إذا قررت هذه المنصات لأي سبب حجب محتواها أو منعه لأي سبب، كما شاهدنا مؤخرًا حين حذفت هذه المنصات أغاني فلسطينية بحجة معاداتها للسامية.

أعادت هذه المنصات رفع الأغاني القديمة وتقديمها بشكل ظاهره الاحترافية لكن باطنه العشوائية الإجرامية، كأن تستمتع لحفلة لعدوية فتجد خوارزمية الذكاء الصناعي قسَّمت الحفلة إلى تراكات قصيرة، محطمة بذلك الوحدة العضوية للتسجيل. 

عندما رأيت أحمد عدوية وشاهدته على المسرح في ليلة رأس 2018/2017، تسابق الجميع لالتقاط السيلفي معه، وكان هو قادرًا بصوته وإشارات يديه على تكييف الجميع وتوزيع المحبة والمنجهة. والآن، مع رحيل هذا الجسد، وتحلل صناعة الموسيقى المصرية وغياب أي مبادرات لإنشاء أرشيف موسيقي مصري، يفكر المرء ما الذي قد يحدث غدًا؟ هل يحمل الاحتكار الاستعماري لصناعة الموسيقى المصرية غياب صوت عدوية؟ هل نشهد إعاده استنساخه بالذكاء الاصطناعي؟ أم تكنولوجيا جديدة تبيد كل ما نعرفه الآن وتطمره في النسيان، مثلما طمر النسيان صناعة الكاسيت، وغيَّب الموت ملكها؟