والله لا أجيبك برضاك يا بلح،
ياما جرالي،
وأطلعك فوق قصر عالي يا بلح،
بـ 400 سلم،
وكل سلم عليه بنت بتوحد الرحمن يا حلالي يا رُطَب
كنت خصمًا شرسًا. كلاسيكيٌّ أنا، إن أردت التعبير عن ذوقي الموسيقي ارتديت بزة سوداء بربطة عنق محكمة، مستعينًا بـ"أسمر وغاوي شكسبير، وله في بيتهوفن كتير". حفظت كتاب فؤاد زكريا التعبير الموسيقي عن ظهر قلب، ورفعته في وجوه محبي الزمن الجميل، مناظرًا إياهم بالحجج التي استخدمها في نقده للموسيقى الشرقية برمتها.
أنا البلح الذي أتى برضاه بعدما ضاع في ضلال مقولة ابتدعها لنفسه، مُعارضًا كانط، تقول "شيآن يملآنني إعجابًا: النغمات الإلكترونية فوق رأسي، والموسيقى الكلاسيكية في نفسي". صعدت السلالم الشرقية الأربعمائة، وآمنت مع البنات اللاتي يتمايلن على درجاته ويوحدن الرحمن، بعدما كفرت بكل ما يتعلق بالمقامات الشرقية والمواويل والغناء الشعبي.
فما بالكم بموقفي آنذاك من رجل مثل أحمد عدوية، الذي كان مثقفو الزمن الجميل أنفسهم يرون أنه أس الانحدار الثقافي وتدني الذوق العام؟!
أغنية خرج ولم يعد، كلمات بهجت قمر، ألحان فاروق سلامة، غناء أحمد عدوية
يا متدلع بالقوي
لحكايتي مع عدوية زوايا كثيرة يمكنني البدء منها، ولكني سأختار قصة ولعي بالموسيقى الإلكترونية، الترانس والسايكدليك على الأخص، خاصة فرقة Infected Mushroom التي سمعتها لسنوات وربما كنت أحد أهم مسوقيها في مصر؛ فلم أترك منتدى ولا منصة ولا ميدانًا إلا ونشرت فيه ذلك المشروم الفاسد، ولم أترك أحدًا إلا وعرَّفته على الفرقة، وكنا حينها نتجاهل الحقيقة الجلية المؤسفة والمربكة؛ أن هذه الفرقة التي تقدم موسيقى ساحرة، فرقة إسرائيلية.
بالطبع، شعر كل من سمع هذا الخبر بالنفور في البداية، ولكن قوة الموسيقى تأسره، فكنا نستمع إليها متجاهلين منشأها، وبما أنها مجرد موسيقى، فهي أصوات بريئة، لا ذنب لها في الوجود، وبالتالي كنا نستمتع بها، بغض النظر عن أي شيء آخر، وهكذا كان يفعل الجميع.
خلال تلك السنوات تناوبت على جيب بنطالي موبيلات كثيرة. اختلفت ماركاتها لكنها اشتركت في أنها جميعًا لم ترن إلا بأغنيات المشروم الفاسد، وكنت أخصص نغمات معينة لبعض الأصدقاء المقربين. كنت مهووسًا تمامًا بالسايكدليك، إلى أن عملت في البحر، وهناك، تغير كل شيء.
على متن السفينة، فوق البحر العاصف، ووسط الغربة، شيء ما في التطبيق الذي كان مضبوطًا على الموسيقى الكلاسيكية والإلكترونية جعله يغير قبلته إلى أغنية زحمة يا دنيا زحمة. لا أخفي عليكم، كانت من مفضلاتي أصلًا لكني أكابر؛ أحببت سماعها في الخلفية بالصدفة ونحن جالسين مثلًا في أحد المقاهي، أو في الميكروباص، أو في فيلم الشقة من حق الزوجة (1985)، ولكن وقعها في البحر كان مختلفًا، إذ حرك فيَّ شيئًا شعرت به للمرة الأولى في حياتي.
زحمة، تأليف حسن أبو عتمان، ألحان هاني شنودة، غناء أحمد عدوية
من باب الفضول ليس إلا، سمحت للتطبيق أن يأتي بأغاني عدوية، واحدة تلو الأخرى، حتى سمعت "يا بحر يا أبو البحور موجك لعب بيا، شوقتني للسمك نزلت له الميه"، فقلت "آه والله يا عدوية"، ثم ضعت في نشوة أستشعرها للمرة الأولى وأنا أذوق صوته، وعجائب الكلمات التي يتغنى بها.
لما عدت للبر، أخذت معي عادة جديدة وهي التجوال صوته؛ كنت أستمع إلى أغنية جديدة تمامًا كل يوم، وكنت محظوظًا، إذ أنني كلما أسمعت أحد أصدقائي أغنية من أغاني عدوية يقولون "إنت قديم قوي"، وكنت مبتهجًا بكوني قديمًا، يستمتع لأول مرة بهذه العظمة.
أخرجني عدوية في عام صعب في حياتي، من حالة ركود واكتئاب أطاحت بي، إلى حالة من النشوة العجيبة والطاقة الإيجابية، فكان خير معين على الليالي الثقيلة. وجدت في أغانيه ومواويله الشفاء، خاصة تلك التي يغنيها في الحفلات والأفراح، ومن حوله الناس يصيحون "أيوه يا عدوي! عظمة على عظمة!"، ومن خلفه بيبو يردد "يا متدلع بالقوي"، وحوارهما معًا.
آه يا بيبو
إيه يا عدوي؟
تعبان قوي يا بيبو.
اصبر يا عدوي، بكره تنول اللي إنت عايزه.
أبي وعدوية
عندما وجدتني بدأت التسويق لعدوية، أدركت أني أصبحت معجبًا متحمسًا جدًا، كطفلٍ لأول مرة يكتشف الحب. فلا جلسة سمر مع الأصدقاء إلا ويحضرها في الخلفية. نفس الوهج الذي لازمني في سنوات التدليل على المشروم الفاسد، يصاحب الآن عدوية ومواويله.
في مواجهة مُحبي فن الزمن الجميل، انقلبت الآية. فمن ناظَرتهم بالأمس باعتباري مُناصرًا للكلاسيكي على حساب الشرقي؛ صرت اليوم أدعوهم للاستمتاع بعدوية وأغانيه الشعبية. ومن بين هؤلاء أبي؛ جلست بجواره، وشغلت حلقة الدحيح عن عدوية، وعددًا من أغانيه، ليطرق هو السمع، وأسترق أنا النظر إلى وجهه المتأمل.
لكن طوال تلك المدة، ظلَّت نغمات الموبايل تصدح بأغنيات الفرقة الإسرائيلية، حتى جاء الطوفان، لتتلوث موسيقاهم البريئة بأعمالهم الخسيسة، وأفقد أنا كل رغبة في سماع الفرقة بأي شكل. ومن حينها، تبدلت رنة الموبايل من السايكدليك الإسرائيلي إلى الموال المصري، وأصبحت أخصص أغاني عدوية بالذات لأقرب الأصدقاء.
حلقة "أحمد عدوية" من برنامج الدحيح. 4 أبريل 2023
تعالى وخش عليا
يا ليل يا باشا هي النغمة الأساسية للموبايل. وبإمكاننا منها، مع أغنيتي بنت الأمير وخرج حبيبي ولم يعد وموال يا قلبي صبرك على اللي راح، أن نرى أسلحة عدوية في حربه الوجودية ضد حملات إجهاض رحلته منذ بزوغ نجمه، عبر إلحاق اسمه بكلِّ تدنٍّ أخلاقي وانحدار للذوق العام. كانت هذه الحرب أحد الموضوعات المهمة التي ميّزت مسيرته.
لم يكن همُّ عدوية سوى أن يعترف به المثقفون. أن يعترفوا بأنه يقدم لونًا من الفن مختلفًا عمَّا ألفوه، وأن من حقه أن يختار طريقته في الغناء. لم يكنُّ عدوية للمثقفين كرهًا، بل على العكس. كان يحب الجميع، وكلما أهداهم حُبًّا وودًّا، قذفوه كرهًا وبغضًا.
يمكننا الانطلاق من خرج حبيبي ولم يعد، التي صدرت في العام التالي لفيلم محمد خان خرج ولم يعد (1984)، حيث خرج عطية/يحيى الفخراني من زحام القاهرة إلى بساطة الريف ولم يعد يريد العودة إلى القاهرة؛ حيث الضوضاء والغوغاء، وكان عدوية رمزها جميعًا في صيحة النهاية؛ "جايلك يا عدوية!".
في الأغنية يرد عدوية "حبيبي من بعد الوفا، من قلبي على سهوة اختفى، ده تقل ده ولا جفا، حلوها يا أهل الفلسفة"، ليطلق على الجمهور الذي ينتقده ويكره سماعه لقب "حبيبي"، لأن الحب عند عدوية ليس كله رومانسيًا، بل يمكن أن يخاطب به المثقفين الذين لم يعترفوا بوجوده وشنوا حملات كبيرة ضده، وجعلوه سببًا لمشاكل البلاد، أو رمزًا لها.
أما في بنت الأمير، يعارض عدوية ثلاث أغانٍ لعبد الحليم، رمز "الزمن الجميل"، فقال "نار يا حبيبي نار، فول بالزيت الحار"، في ثورة بالألفاظ الشعبية على ما هو كلاسيكي، مؤسسًا كوكتيلًا عجيبًا غير متجانس يبرز المعنى، ثم يقول "أسمر يا أسمراني، يا ابو دم خفيف، يا حلو ورباني، باين عليك مِ الريف"، وفي لمحة للحديث عن فنه يقول "بتلوموني ليه؟ على إيه بتلوموني؟ أنا عملت لكم إيه عشان تلوموني؟!"، متسائلًا بحرقة.
ومؤكدًا على أن مهاجميه لهم مكانة كبيرة في قلبه، نجده يقول مخاطبًا خصومه "وتعالى وخش عليا، يا حلو يا غالي عليا"، ثم يدعوهم إلى الاستماع إليه "وأمانة عليك أمانة لَ تسمع الأسطوانة وتقول لي رأيك إيه"، وفي تلميح آخر لطيف يقول "اللي هيزعل مني، واللي هيغضب مني، يبقى كلامي عليه".
بنت الأمير، كلمات السيد قشقوش، ألحان حسن أبو السعود، غناء أحمد عدوية.
إروي الغلابة يا ليل
في يا قلبي صبرك، يحكي عدوية عن مسيرته الغنائية ويناجي الأغنية الشعبية في موال طويل يغنيه بقهرٍ قائلًا "يا ليل يا عين ياما فيك مواجع يا ليل"، ثم يقول "ده أنا سبع سنين بعشقك، وأنا تمن سنين بهواك، أنا تسع سنين بكتبك، وأنا عشر سنين بقراك" أي الأغنية الشعبية.
"أنا بقول يا عين يا ليل من فوق شواشي الجبل"، ثم يشير إلى عازف الإيقاع قائلًا "وده نغم حجاز يا حسن يا أنور واللي غاويين السهر بالليل"، لأنه يفهم في المزيكا ولا أجدع مزيكاتي، "أنا طول عمري يا عيني يا ليلي من صغر سني وأنا بغني وأقول يا عيني يا ليل".
و"الليل" عند عدوية هو رمز للأغنية الشعبية، فنجده في أغنية يا ليل يا باشا يشن حربًا وجودية عظيمة دفاعًا عن فنه، وعن مسيرته الغنائية، طالبًا الاستحقاق والاعتراف به من خصومه، بدءًا من قوله "ويلوموني، ما عليا ملامة". خصومه يلومونه لأنه أفسد الذوق العام، ويرد عليهم بأنه غير ملام، فهو لم يفعل شيئًا سوى أنه يغني الأغنية الشعبية "يا ليل يا باشا يا ليل، إروي العطاشى يا ليل"، الغلابة والعطاشى، ترويهم الأغنية الشعبية التي تحاكي الشارع البسيط، وبداية مسيرته في الأفراح "دبلة وغويشة يا ليل، طرحة وبيشة يا ليل".
ثم نجده يصف مشواره الفني مع الأغنية الشعبية أنه "ياما فيك مواجع يا ليل"، ويستنجد بخصومه قائلًا "خف حبة عَ الولا!" قاصدًا نفسه، ويتكلم عن أساطين زمن الفن الجميل والنقاد والمثقفين قائلًا "إحنا فين وهم فين؟"، ثم يقول "هم هم" أي أنهم مشاهير ومهمون، "وإحنا هم" أي أنه يغني وبشر مثلهم، "بس هم وإحنا مين"، أي كيف نقارن أنفسنا بهؤلاء، إنهم "هم"، أما نحن، فمن نحن؟ نحن نكرة! ثم يكشف الأمر في النهاية "هم الإدارة يا ليل، وإحنا الحيارى يا ليل!".
ثم نجد المعارضة الشعرية مرة أخرى مع أغنية أم كلثوم، قائلًا "كل ليلة وكل يوم"، ثم يستكملها بـ"كله كوم والحب كوم"، ويؤكد أنه يحب الجميع "كله كله" أي خصومه "الحب كله" يحبهم جميعًا، "بس كله عتاب ولوم"، أي ورغم ذلك يستمرون في شن حملاتهم عليه، "ياما لامونا يا ليل، وحيرونا يا ليل، يا ليل يا باشا يا ليل، ده إحنا غلابة يا ليل".