كانت مصر منذ مئة عام، تعج بالحراك الاجتماعي والسياسي والثقافي، وتشهد الصحافة فترة انتعاش لم يسبق لها مثيل. صدرت العديد من المجلات والصحف المتخصصة، في شؤون المرأة، والفكاهة، والمسرح، أما في السينما فظهرت مجلة "الصور المتحركة"، أول مطبوعة مصرية متخصصة في الفن السابع.
كان الشاغل الأول لصفحات تلك المجلة تغطية أخبار أفلام ونجوم السينما الأمريكية، التي بدأت تغزو العالم كله، ولكن لا يعني ذلك أن المجلة لم تكن مهتمة بما يحدث في مصر، كما ذكرت في مقالات سابقة. على العكس، كان الهدف الأول والأخير لأصحاب المجلة، محمد توفيق وولده محمود، والمحررين الذين عملوا معهما، هو السعي لإنشاء سينما مصرية، ونشر الثقافة السينمائية.
وتمثّل ذلك في أبواب المجلة، كما تبدّى في تغطياتها لكل ما يتعلق بالسينما في الحياة الاجتماعية المصرية، من أخبار الفعاليات وعروض الأفلام والأعمال المصرية والأجنبية التي تصور في مصر، وأيضا افتتان أبناء الطبقة العليا بفنانات السينما.
سعت المجلة لجمع "غواة" (هواة) السينما في مصر تحت مظلة واحدة، ومن خلالهم بدأت في المناداة بإنشاء شركة سينمائية، ومدرسة لتعليم فنون السينما، وتشجيع الشباب والشابات لدخول مجال الفن السينمائي. وواجهت المجلة حربًا شعواء بسبب المطلب الأخير الذي كان من أسباب أزماتها المتلاحقة، ثم توقفها.
وفي هذه الحلقة، التي أستكمل فيها الاحتفال بمرور مئة سنة على إطلاق أول إنتاج سينمائي مصري، أستعرض كيف تفاعل جمهور السينما مع المعروض من إنتاج ذلك الفن الناشئ، بالإضافة إلى بعض من القصص الطريفة المتعلقة بالسياسة والفن مجتمعان، واللذان أفردت لهما مجلة الصور المتحركة صفحات كثيرة، وهي قصص، للمفارقة، لم تؤد لغلقها أو ملاحقتها، بعكس أخرى سنتعرض إليها أيضًا.
نجمات هوليوود في بلاط الأسرة العلوية
تابعت "الصور المتحركة" بعض الموضوعات الاجتماعية الخاصة بالكواكب (نجوم السينما) قبل أن يكون للسينما في مصر كواكبها، منها مثلًا موضوعان طريفان عن زواج نجمتين أمريكيتين بأميرين مصريين.
ففي العدد 13 بتاريخ 2 أغسطس/آب 1923، تطالعنا المجلة تحت عنوان "قصة غرام غريبة" بخبر عن زواج الممثلة الأمريكية المعروفة بيرل شيبرد والأمير المصري محمد علي إبراهيم، "وإذا أردتم معرفة دخائل هذه القصة الغرامية الغريبة فانتظروا العدد القادم". وبالفعل تخصص المجلة في عددها التالي صفحة حول تفاصيل قصة الحب التي توجت بالزواج. فتكتب بأسلوب قصصي عاطفي "تخلت فتاة في ريعان الشباب عن مركزها في عالم الظلال (السينما)، وقبلت أن تأتي إلى مصر هبة النيل وأعجوبة الصحراء، وستجرب بنفسها إذا كان في مقدور امرأة أجنبية أن تتطبع بطباع الشرقي وحجابه وعوائده، ولتحقق أحلام الحب الحلوة التي كانت تتخيلها تحت نجوم الغرب".
وتذكر المجلة أن شيبرد مثلت مع فيفيان مارتن في رواية الأم الأبدية وتروي أن قصة الحب بدأت منذ عام، عندما سافر الأمير محمد علي إبراهيم إلى أمريكا لأول مرة، "حيث كان وجوده يثير الدهشة أينما حل، هو وسكرتيره بلنك مكلوسكي الملاكم الأمريكي"، وأنه رآها وهي ترقص في كازينو بحي سنترال بارك، وأظهر لها افتتانه بهداياه وأمواله وسياراته وحاشيته، ولكنه اضطر إلى الرجوع إلى مصر، تاركًا إياها. غير أن الأمير ومحبوبته ظلا يتراسلان يوميًا على مدار شهور، إلى أن قرر أن يعود إلى أمريكا ليخطبها ويعود بها إلى مصر.
وتذكر المجلة معلومة غريبة هي أن شيبرد الآن "على ظهر السفينة (أكيتانيا) تصحبها والدتها والأمير وحاشيته، قادمون إلى مصر ليحصلوا على تصريح بالزواج، لأن الحكومة الأمريكية لديها مادة في القانون تمنع التصريح بعقد الزواج في مثل هذه الحالة". لكنها لا تذكر، ولا نعرف نحن، ما هي "هذه الحالة".
نشرت المجلة أيضًا أن الأمير إذا لم يحصل على تصريح من عائلته ليتزوج بحبيبة قلبه فسيتزوجها بأي طريقة كانت، كما ذكرت أنه قدّم لخطيبته 50 ألف ريال (دولار) ما يعادل 10 آلاف جنيه (كان الجنيه يساوي خمسة دولارات)، قبل أن تركب السفينة، كمصروف يد. ولكنها رفضت المال قائلة إنها تريد أن تتزوجه فقط، وأوضح أن مصدر الخبر هو الأمير نفسه، أو أحد مساعديه.
قصة حب تصلح للسينما، وللأسف لم تكمل المجلة بقية فصول الرواية لنعرف ما حدث للحبيبين خلال الشهور والأعوام التالية. بحثت عن الاسمين ولم أوفق في العثور سوى على قليل من المعلومات، منها أن محمد علي إبراهيم، الذي ينتمي للأسرة العلوية، ولد في 1900 وتوفي في 1977، وأنه درس في باريس حيث أصبح مصممًا للمراكب الشراعية، وأنه كان ملاكمًا، أو يمارس الملاكمة.
وعثرت على صورتين له، واحدة يستعرض فيها عضلاته، والثانية مع بيرل شيبرد في سيارته الفاخرة. ومن الطريف أن صحيفة اليوم السابع نشرت تقريرًا في العام الماضي عن أحد مرممي السيارات القديمة، أشارت فيه أن أشهر أعماله ترميم إحدى سيارات الأمير محمد علي إبراهيم.
أما صفحة ويكيبديا الخاصة بالأمير محمد علي إبراهيم، فتذكر أنه تزوج من خانزاده سلطان، بنت شاهزاده عمر فاروق بن عبد المجيد الثاني، في سبتمبر/أيلول 1940 (عندما كان الأمير في الأربعين من العمر!) ولا تذكر أي زيجات أخرى له أو إشارة إلى شيبرد!
ويذكر موقع IMDB عن بيرل شيبرد أنها مثلت في ثلاثة أفلام من 1919 حتى 1922، حيث تنتهي مسيرتها الفنية. ويبدو أنها استقرت في مصر بالفعل ولم تعد إلى التمثيل، كذلك تذكر مجلة The Moving Picture World/عالم الصور المتحركة، في عددها الصادر في 18 مارس 1916، أن بيرل شيبرد، البالغة من العمر آنذاك 17 عامًا، فازت بجائزة أجمل فتاة في حفل سينمائي مهم.
ويبدو أنها كانت جميلة بالفعل كما يظهر في الصورة التي نشرتها "الصور المتحركة"، لكن مسيرتها الفنية كانت عابرة وقصيرة ولا تكاد تذكر. وليس معروفًا مصير زيجتها من الأمير، التي يبدو أنها لم تدم أيضًا.
وريثة الأمير حسن
في العدد 29 من "الصور المتحركة" قصة أخرى غريبة عن ممثلة أمريكية ثانية اسمها أولا همفري. كانت تعمل لدى شركة يونيفرسال وتزوجت من أمير مصري اسمه حسن، لا تذكر المجلة لقبه. ثم جاءت معه إلى مصر، ولما توفي، قامت باستئجار محامٍ للحصول على ثروتها. وبعد أن ورثت 500 ألف جنيه مصري (أي ما يقرب من 900 مليون دولار الآن!)، هربت ولم تمنح المحامي نسبته، وقامت السلطات الأمريكية بالعثور عليها، وقدمتها للمحاكمة في لوس أنجيلوس.
وبالبحث عن أصل القصة توصلت لبعض المعلومات الشيقة: أولا همفري/Ola Humphrey كانت ممثلة مسرح، وقليل من السينما الصامتة، ولدت في أمريكا في 1875 أو في 1884 حسب مصدرين مختلفين، وتزوجت من أحد زملائها الممثلين في بداية حياتها. وتعرفت على الأمير إبراهيم حسن (ابن عم الخديوي عباس، وعم الملك فاروق) أثناء تمثيلها على المسرح في لندن، وتزوجا في 1911، حيث أصبح لقبها الأميرة أولا حسن. ولكن الزواج لم يستمر طويلًا، ونتج عن الطلاق مشاكل قضائية استمرت حتى وفاة الأمير في 1918، ثم استمرت حتى 1923، عندما حصلت على نصيبها واحتالت على المحامي.
الأغرب من ذلك أنني عثرت على تقرير من مجلة Oklahoma Enquirer بتاريخ 10 أغسطس 1947، ص 127، بعنوان "خمر القاهرة المر"، يذكر أن أولا همفري (أو حسن) تعيش في غرفة حقيرة وتعتمد على إعانة المسنين، رغم أنها أميرة من حقها أن ترث الملايين من زوجها الراحل.
ويبدو أن ذلك التقرير مصدره أولا فقط، لأنها تروي القصة من وجهة نظرها، فتقول إنها لم تحصل على ميراثها، وأنها عاشت سعيدة مع الأمير حتى وفاته (لم تشر إلى طلاقها قبل ذلك بسنوات). وتدعي أن زوجها الثالث، وهو ضابط إنجليزي، رفض أن تُطالب بميراثها بدافع الكرامة، ولا تشير إلى الـ500 ألف جنيه التي ورثتها بحكم المحكمة، ولا كيف ضيعتها. ويبدو أنها نالت جزاء الاحتيال في نهاية حياتها.
قصة أخرى تستحق أن تصنع فيلمًا.
طنطا الأكثر نشاطًا
كانت "الصور المتحركة"، كما ذكرت، منبرًا للدعاية للنشاطات السينمائية ودور العرض في مصر. ومن الطريف أن دار العرض الرئيسية التي واظبت على الإعلان عن برامجها أسبوعيًا في المجلة هي دار عرض كوزموجراف الأهلي بشارع عباس بطنطا، التي بدأت الإعلان عن نشاطها منذ العدد الثاني من المجلة.
نشرت المجلة أيضًا أول إعلانات عن أفلام مصرية بداية من عددها السادس عشر، تحت عنوان "إلى المصريين. انتظروا قريبًا. أول شريط مصري صنعته يد مصرية. سفر المحمل. زيارة اللورد هدلي وزملائه للقاهرة. رجوع المحمل بدون تأدية فريضة الحج. أول حادث من نوعه في التاريخ".
ورغم أن المجلة نشرت العديد من الإعلانات الأخرى، بعضها يتعلق بالمسرح، وبعضها لا علاقة له بالفن، مثل الإعلان عن كتب جديدة، أو نبيذ، أو شاي، محال حلويات، لكن الغريب أن دور العرض السينمائي بالقاهرة والإسكندرية لم تعلن عن نفسها بالمجلة، وأن دار العرض الوحيدة التي واظبت على نشر برامجها أسبوعيًا كانت "كوزموجراف طنطا"!
رابطة غواة السينما
كان حماس المجلة لفن السينما هائلًا، ومعديًا. لم يمض بضعة أعداد على صدورها حتى أحاط بها عدد كبير من القراء، وتحولت إلى منبر وملتقى لغواة السينما.
يحمل العدد الثاني إعلانًا عن باب جديد بالمجلة تحت عنوان "دائرة معارف السينما. الأسئلة والأجوبة، خصصت المجلة بابًا خاصًا للرد على كل ما يسأله القراء عن السينما وعنوان المجلة".
بجانب ذلك الباب أنشأت المجلة آخر بعنوان "برلمان الصور المتحركة" الذي صار أيضًا منصة لقراء المجلة واقتراحاتهم وآرائهم. والاسم، كما هو واضح، مستمد من المناخ السياسي السائد، وتأسيس البرلمان والأحزاب السياسية وأول نظام ديمقراطي في مصر يقوم على الانتخابات.
قبل ظهور "الصور المتحركة" كان هناك محاولات لإنشاء كيانين، الأول رابطة، أي جمعية، تضم هواة السينما، والثاني شركة مصرية لإنتاج الأفلام. وترددت تلك المطالب عبر أعداد مجلة "السمير المصور" على مدار عام 1922، وبعد أن أوشك كل من المشروعين على التدشين، تبخرا فجأة، بسبب عدم توفر الدعم الكافي، واكتفاء المتحمسين له بالكلام دون الفعل.
وهو سيناريو نمطي نلاحظ تكراره كثيرًا في حياتنا الثقافية، وقد تكرر في العام التالي مع مجلة "الصور المتحركة"، وإن كانت المجلة حققت بعض النجاحات الصغيرة، ومنيت بقدر أكبر من الفشل.
معركة تحرير المرأة
منذ عددها الأول، خاضت "الصور المتحركة" حربًا ترددت أصداءها في الحياة الثقافية المصرية. نشبت تلك الحرب من موقف المجلة التنويري والليبرالي، فقد انحازت للسينما ودافعت عنها ضد الاتهامات التي كانت توجه إليها. على سبيل المثال يحتوي العدد الأول من المجلة مقالًا بعنوان "فضل السينما- السينما كطبيب" تشعر وكأنه كتب بالأمس القريب ردًا على دعاوى الرجعية الحالية.
وهذه بعض فقرات من ذلك المقال/البيان، بعد تصحيح إملاء ونحو بعض الكلمات الواردة به:
"سرق ولد مرة قرشًا ولما سُئل عن ذلك قال سرقته لأذهب إلى السينما. وقام الوَعظة واهتزت المنابر وقام خطباء الأدب وقتلة السرور طالبين أن يقضوا على الواسطة السيئة التي تؤثر على العقل. لماذا! التفتوا إلى غيرها من هوادم الأخلاق ثم إذا بقيت هي بعد تيار عاصفتكم فالتفتوا لها. ولكن لماذا تتغاضون عن فضلها. فإذا كان هناك ذرة من الشر في السينما فهناك القناطير من الخير. فهي تؤثر على النفس بتأثيرها المعنوي وتؤثر على العقل بتأثيرها المحسوس من تتابع الحوادث.
كثيرًا ما تكون السينما خير من الدواء الذي يقدمه الطبيب زيادة على أنه ليس هناك من برشام أو مرارة، إن الآلاف الآلاف لتنسى نفسها في تيار السينما كل مساء ويخلوا فكرهم سويعة قصيرة من هموم الحياة ومتاعبها في هذه الأيام. أتودون أن تحرموهم من ذلك.
إني لأنصح الطبيب أن يصف لعليله المنهوك القوى، كلمتين (راحة في السرير وسرور ليلة في السينما) وأني لأعده أنه سيرى الخير كله، فالسينما دواء رخيص الثمن ويمكن المريض أن يتعاطاه كلما أراد".
ومنذ عددها الرابع تقريبًا اشتبكت المجلة مع الواقع والمجتمع حول قضيتين أساسيتين: الأولى تأسيس صناعة سينما في مصر، والثانية، المتولدة عن الأولى، هي الدفاع عن حق المرأة المصرية في التمثيل والعمل بالسينما. وجرّتْ المعركتان على المجلة وصاحبيها متاعب كبيرة أدت في النهاية، مع بعض المشاكل الاقتصادية، إلى توقفها بعد أقل من عامين على صدورها. وترصد الباحثة فريدة مرعي هذه المعركة في دراستها الممتازة "صحافة السينما في مصر"(*).
حلم الإنتاج.. والتمثيل
كان لبابي "دائرة معارف السينما" و"برلمان الصور المتحركة" شأن عظيم في تثقيف القراء وصنع ما أطلق عليه أول رابطة بين "غواة السينما" في مصر. حتى أن المجلة دعت إلى اجتماع عام في 12 أغسطس 1923 بمقرها للمهتمين، لمناقشة مشروع إنشاء شركة سينمائية مصرية، والاحتفال بتأسيس فرع لنادي الصور المتحركة بالإسكندرية (العدد 14).
وكان لـ"الصور المتحركة" الفضل أيضًا في إنشاء أول مدرسة لتعلم فن التمثيل السينمائي. في العدد 27 بتاريخ 8 نوفمبر 1923، يطالعنا باب "برلمان الصور المتحركة" بالرسالة التالية من القارئ حسين رشدي من الحبانية "مدرسة لتعليم السينما. بعد أن يتم مشروع الشركة السينماتوغرافية وتفتح أبوابها، ستكون بالطبع في حاجة إلى ممثلين متعلمين في التمثيل الصامت فأين تجد هؤلاء الممثلين. وبذلك نرى إنا في حاجة إلى مدرسة لتعليم فن التمثيل الصامت كما نرى في البلاد الأجنبية، حتى يتمكن الممثل المصري من تمثيل دوره في الرواية ويخلو من الانتقاد".
قامت المجلة بإنشاء مدرسة لتعليم السينما بالفعل واستقدمت لها ممثلًا أمريكيًا، اسمه جيمس تايفور، وبذلت الكثير من الأموال والإعلانات لإطلاقها. وقام بعض القراء القلائل بدعمها بالمال، لكنها لم تستمر طويلًا بعد الأزمات التي لاحقت المجلة، وعلى رأسها قلة إقدام "غواة السينما" على اتخاذ خطوات "مادية"، بالتبرع لإنشاء الشركة أو حتى بالاشتراك في المدرسة.
ربما تكون المجلة توقفت عن الصدور قبل أن يتحقق الحلم بتأسيس شركة سينمائية مصرية، وقبل أن تظهر النساء المصريات على الشاشة أو وراءها. ولكن لم تمر سوى سنوات معدودة إلا وظهر فيلم ليلى في 1927، الذي قامت ببطولته وإنتاجه عزيزة أمير، كما ظهرت شركة ستوديو مصر، التي أسسها أكبر اقتصادي في البلاد طلعت حرب، بجانب عدد آخر من الشركات الصغيرة، وبدأ العصر الذهبي لصناعة السينما في مصر.