تصميم أحمد بلال، المنصة
الرئيس عبد الفتاح السيسي

والرئيس إذا تكلم

يظهر أقل ليدافع أكثر.. السيسي يتمسك بسياساته الاقتصادية في 2024

منشور الثلاثاء 18 فبراير 2025

في 2024، كان الرئيس عبد الفتاح السيسي مُقِلًّا في حديثه إلى المصريين. فطوال هذا العام الذي بدأ وقد فاز الرئيس للتو بولايته الثالثة والأخيرة، ثم تزامن ربيعه مع خريف الجنيه المصري عندما هوت قيمته أمام الدولار بنحو 40%، واستمرَّ خلاله دور الوساطة المحوري الذي لعبته مصر لإيقاف الحرب في غزة، لم يسمع المصريون رئيسهم إلا 75 مرة، وهو أقل عددٍ من المرات منذ بدأت المنصة توثِّق كلام الرئيس في 2018.

وإذا كان العام الماضي، بالتساوي مع عام الجائحة، شهد أقل عدد من خطابات الرئيس، فإن 2021 كان عام الظهور القياسي، حيث بلغ السيسي ذروة نشاطه الإعلامي بإلقاء 166 خطابًا وكلمة، بزيادة نحو 60% عن معدلات ظهوره قبل الجائحة؛ 105 كلمات عام 2018، و103 في 2019.

ورغم أن الساسة لا يُصرِّحون دائمًا بكل شيء، فإن خطابات الرؤساء والقادة تعكس بدرجةٍ ما أفكارهم وانحيازاتهم وأولوياتهم، وتلقي الضوء على الملفات المهمة وفق أجنداتهم الشخصية والمؤسسية، وعلى أساسها تُخضِعهم شعوبهم للمساءلة.

في خطاباته في 2024، وقد ارتجل في نحو نصفها، كانت "مصر" أكثر كلمة جرت على لسان الرئيس، وجاءت بعدها كلمات "الله" و"الرئيس" ثم "الاقتصاد" بمفرداته وتصريفاته. ويتسِّق ذلك مع موجات ارتفاع الأسعار التي تلت قفزة الدولار القياسية في مارس/آذار 2024، ويشير إلى أن السيسي يضع الأزمة الاقتصادية على رأس أولوياته.

ومع ظهوره عدد مرات أقل، ظل الرئيس في العام الماضي يدافع عن كفاءة حكومته، متمسكًا بسرديته التي تلقي اللوم في تدهور الأوضاع على أطراف أخرى داخلية وخارجية. ومع تأكيده على أن الحكومة لم ترتكب أخطاءً كارثية أو مغامرات غير محسوبة، لم يتردد في استخدام نبرة التحذير وعبارات التحدي وهو يُحفِّز الشعب على الصبر وتحمل الصعاب.


من سوريا والعراق إلى الصومال وغزة

في مطلع العام، تحدَّث الرئيس في مؤتمر صحفي عقده مع نظيره الصومالي عندما استقبله في 21 يناير، مُستدعيًا الحرب الأهلية الصومالية للتحذير من أثر الاضطرابات على الاقتصاد "الصومال حجم الاقتصاد بتاعها 7 مليون دولار(*) وفق تقديرات على عدد سكان 25 مليون. ممكن يكون أكتر من كده بشوية، لكن تصوروا لو من سنة 90 للنهارده الاقتصاد الصومالي بيزيد مليار دولار سنويًا، كان زمان رقمها اقتصاديًا كام دلوقتي؟ كل ده مقدرات راحت على، على شعب الصومال و.. وتبدأ من جديد.. تبني وتعيد وتعمر.. فـ.. الكلام ده..للمصريين".

باستخدام لغة التخويف، حملت عبارات السيسي تحذيرًا ضمنيًا من مصير مماثل. ولم يكن السياق عشوائيًا، لأنه جاء في لحظة بلغ فيها سعر صرف الدولار في السوق السوداء 70 جنيهًا، راسمًا صورة قاتمة لمستقبل قد يتحقق ما لم يصطف المصريون خلف سلطتهم.

وبعد ثلاثة أيام، وفي احتفالية عيد الشرطة، استخدم الرئيس نفس الاستراتيجية، لكنه اتجه شرقًا هذه المرة، عندما ربط الأزمة الاقتصادية بالإبادة التي كانت تجري في غزة، مُكررًا عبارات "كل حاجة تهون، كل حاجة تهون.. إلا بلدكو.. أو بلدنا، هه.. كل حاجة تهون إلا بلدنا.. يعني مش هناكل؟ ما إحنا بناكل. مش هنشرب؟ إحنا بنشرب.. كل حاجة ماشية. طب غالية أو بعضها مش متوفر؟ وإيه يعني؟ إيه يعني؟ بقولكوا ربنا مدينا مثال حي لناس مش عارفين ندخل لها أكل".

"ما لقيتش بلد.. لقيت أي حاجة!"

في أكثر خطاباته حدةً وانفعالًا، خلال الندوة التثقيفية للقوات المسلحة في 9 مارس 2024، استخدم الرئيس عبارة عكست رؤيته للوضع عند توليه الحكم "أنا والله العظيم.. أنا بحلف بالله.. والله العظيم أنا ما لقيت بلد.. أنا ما لقيتش بلد.. أنا لقيت أي حاجة.. وقالوا لي خد دي".

كرَّر الرئيس العبارة كاملة مرة أخرى، وهى عبارة تتجاوز مجرد التشديد على التحديات التي واجهها، إلى محاولة نزع المسؤولية عن أي تدهور لاحق.

وفي سياق نفيه القاطع لأي مزاعم بالفساد داخل أروقة السلطة أو أي تشكيك في الحكومة، لجأ الرئيس إلى أسلوب التأكيد المضاعف والنفي القاطع، مستخدمًا نبرة تتسم باليقين المطلق عندما قال "زي ما قلت لكم كده، ما اتقالش مثلًا إن في 10، 12 مليار دولار خرجوا من مصر عشان المسؤولين في الدولة خدوهم.. لا ما حصلش.. لا ما حصلش.. وما يحصلش بفضل الله سبحانه وتعالى".

يتكرر النفي هنا بشكل لافت، ليس فقط عبر العبارات المباشرة مثل "لا ما حصلش.. لا ما حصلش"، بل أيضًا بالنفي الاستباقي للمستقبل في "وما يحصلش بفضل الله"، وهو ما يعكس محاولة لحسم الجدل حول هذه المزاعم، وقطع الطريق أمام أي حديث عن احتمال وقوع الفساد لاحقًا. 

اللافت أيضًا هو أسلوب الطرح ذاته، إذ يبدأ الجملة بصيغة تبدو وكأنها تأكيد لحقائق بديهية "زي ما قلت لكم كدا"، في محاولة للإيحاء بأن هذه المسألة محسومة مسبقًا، وأن مجرد التشكيك فيها هو خروج عن الحقائق المعروفة.

التكاليف المتراكمة والأزمات الموروثة

في الخطاب ذاته، يحرص الرئيس على تبرير الوضع الراهن بربطه بالأحداث الماضية، مؤكدًا أن ما تمر به البلاد ليس إلا "تكلفة 10 سنين قتال"، مضيفًا "10 سنين قتال ليهم تكلفة.. وقبل منهم 2011 ليها تكلفة.. وبعد منهم 2013 ليها تكلفة.. التكلفة دي ما حدش لوحده يقدر يشيلها، أنا ما أقدرش أشيلها لوحدي، ولا الحكومة تقدر تشيلها لوحدها".

يضع الرئيس الشعب إلى جانبه والحكومة في تحمُّل المسؤولية، إذ يبرِّر ما آلت إليه أوضاع الاقتصاد بأنه نتيجة حتمية لمراحل سابقة غاب عنها الاستقرار. لكنه في الوقت نفسه، يحرص على تبرئة إدارته من أي قرار خاطئ قد يكون ساهم في تفاقم الأزمة "إحنا ما غامرناش، لا عشان خاطر هوى، ولا بفهم خاطئ، ولا بتقدير منقوص، ولا خدنا قرار فدخلناكوا في الحيط وضيعنا مصر.. لأ".

من السبب إذن؟

في خطاب عيد الشرطة مطلع العام، قال إن الاقتصاد المصري كان يسير بمعدلات نمو مرتفعة قبل 2020، حيث تجاوز 6% (**)، مستهدفًا "الكتلة الغالبة" من المواطنين، وليس الطبقات الغنية. وأضاف "الغلبان ده يتطحن في الأرض، هيجيب منين؟ يصرف إزاي؟ يصرف إزاي؟ هيودي ولاده مدرسة إزاي؟ يأكلهم إزاي؟ يدفع كهربا وميه ويجيب لبس إزاي؟ لما الدنيا تبقى صعبة كدا؟"، مشددًا على أن الأزمة لم تكن في ترتيب الأولويات، بل في ضرورة الحفاظ على "تماسك الدولة بأسرع ما يمكن".

وأكد وقتها أن حل الأزمة يكمن في معالجة نقص الدولار "لو حليت أزمة الدولار فيكي يا مصر، ولا يهمني أي حاجة تاني". واعتبر أن الحل الوحيد هو تعزيز التصنيع والتصدير، لتحقيق تدفقات طبيعية للعملة الصعبة تكفي احتياجات الاستيراد.

يعتمد خطاب الرئيس على فكرة "التحدي والصبر"، لكنه لا يقدم حلولًا واضحة للأعباء اليومية التي يتحملها المواطن. وبينما يركِّز على الحلول طويلة المدى، وأن الحل يكمن في إنهاء أزمة الدولار عبر زيادة التصدير والتصنيع، لا يشتبك هذا الخطاب الأزمات الهيكلية التي تعاني منها الصناعة المصرية، مثل نقص المواد الخام، وارتفاع تكلفة الإنتاج، وارتفاع فائدة الاقتراض، وارتفاع الضرائب، وهروب أصحاب الشركات والمصانع من مصر.

كما أن هذا النمو الذي تحدث عنه الرئيس لم ينعكس بشكل ملموس على معيشة المواطنين، خاصة الفئات الأكثر احتياجًا، وهو ما يتناقض مع حديثه عن استهداف "الكتلة الغالبة". فرغم تحقيق معدلات نمو جيدة، ظل الفقر يتزايد.

ولأن الحكومة "لم تخطئ"، كان ضروريًا البحث عن أطراف أخرى تتحمل اللوم، وهنا جاءت الإشارة إلى التجار والمضاربين، إذ قال بنبرة عتاب "أنا عاتبت حد؟ عاتبت ناس جابت البضايع وسعرت على إن الدولار بـ70 وبـ80؟ عاتبت حد؟ ولا قلت للحكومة حاولوا تنظموا الموضوع من خلال أجهزة الدولة المختلفة".

بهذه العبارات، يضع الرئيس المسؤولية على عاتق التجار والمستوردين، مشككًا في أثر تفعيل الرقابة الحكومية على الأسواق "ممكن حد يقول لي طب وإنت ما عملتش إجراء حاد ليه؟ ممكن حد يقول لي كدا. يعني إحنا في أزمة كبيرة زي دي، وكمان نعمل إجراءات ممكن تعقد الأمر أكتر من اللازم؟ ولا نحاول إن إحنا نحل المسألة ونتعب كلنا شوية".

"كل حاجة ماشية"

بعد ستة أيام على حديثه الحاد في الندوة التثقيفية للقوات المسلحة يوم 9 مارس، بدا الرئيس أكثر هدوءًا خلال زيارته لأكاديمية الشرطة في 15 مارس 2024. يومها، بعث الرئيس رسالة تطمين إلى المصريين بأن الأمور تتحسن، قائلًا "بطمنكم إن الحمد لله الأمور ماشية، وأيضًا ما فيش عندنا مشكلة لا في سلع ولا حاجة، وحتى المستلزمات اللي كانت متأخرة في الموانئ الحمد لله بتخرج دلوقتي".


قبلها بأيام، كان البنك المركزي، وفي اجتماع استثنائي للجنة السياسات النقدية، أقرَّ بالتزامه بتحديد سعر الصرف وفقًا لآليات السوق، تزامنًا مع قراره رفع أسعار الفائدة بنسبة 6%، وهي أكبر زيادة في جلسة واحدة منذ بداية أزمة شح النقد الأجنبي في فبراير/شباط 2022.

وعقب الإعلان ارتفع سعر صرف الدولار الرسمي في البنك الأهلي من نحو 31 جنيهًا إلى 47 جنيهًا، مع تذبذب السعر في البنوك المختلفة تبعًا لآليات السوق.

في احتفالية يوم المرأة المصرية في رمضان الماضي، بعد أسبوع واحد فقط، لجأ الرئيس إلى أسلوب مختلف، هذه المرة مستخدمًا المزاح "ما تحطوش سكر كتير على الكنافة والحاجات ديّت.. يعني.. كدا يعني (يضحك الرئيس والحضور) الدكتور مصطفى راح يجيب مليون طن سكر (يضحك الرئيس) بقوله إيه مليون طن سكر؟ قال لي عشان الأزمة يعني وبتاع. ماشي ها نجيب مليون طن سكر".

بعدها في أبريل/نيسان، خلال حفل إفطار الأسرة المصرية، لم يحاول الرئيس تخفيف وقع الأزمة الاقتصادية على المواطنين، بل بدا وكأنه يتحدث من موقع من يشاركهم القلق، مستخدمًا التكرار لتأكيد عمق الأزمة "حتى في الموقف الاقتصادي الصعب... كان كل الناس اللي حرم (كلمة غير مفهومة) مننا، يعني قلقانة جدًا، جدًا، وبدون شك كان الموقف صعب وما زال صعب، صعب وما زال صعب".

يبدو الاعتراف العلني نوعًا من المصارحة، لكنه في الوقت ذاته يهيئ الأذهان لاستمرار الأزمة، إذ لا يقدِّم حلًا أو جدولًا زمنيًا للخروج منها، مكتفيًا بوصف الواقع كما هو.

يقر الرئيس بفشل السوق الحرة في ضبط الأسعار

يخلق الانتقال السريع بين التحذير والتطمين، ثم بين الحديث عن بلد كان "أي حاجة" إلى التأكيد على أن "كل شيء تحت السيطرة"، قبل العودة إلى "الوضع صعب"، حالة من التضارب في السردية الرسمية للأزمة. فإذا كانت المشكلة عميقة وتتطلب "التعب والصبر"، فلماذا تؤكد الخطابات أن الحلول قريبة؟ وإذا كان الاقتصاد المصري يتجه للتعافي، فلماذا يستمر التخويف من المصير المجهول؟

بين حرية السوق وشبح الاحتكار

لطالما أكدت الحكومة ضرورة دعم القطاع الخاص وفتح المجال أمامه، لكن الرئيس عاد في يوم المرأة المصرية ليشير إلى أن السوق لا تعمل دائمًا  كما ينبغي، وأن الدولة قد تضطر إلى التدخل حين تقتضي الحاجة. ففي حديثه عن ضبط الأسعار، قال "لو الأمور.. سواء كان إن إحنا نحيي موضوع الاحتكار والمؤسسات اللي هي معنية بهذا الأمر، أو إن إنتو تخشوا، خدوا 2، 3 مليار هاتوا بيهم سلع، وتبقى مؤسسات الدولة هي اللي بتقوم بالدور عشان تعمل توازن في السوق".

يُقرُّ الرئيس بأن تحرير السوق لم يكن كافيًا وحده لضبط الأسعار، وأن الدولة تجد نفسها مضطرة للعب دور في توفير السلع وتحديد آليات التسعير، رغم أنها في الوقت نفسه هي التي توفر الدولار للتجار لاستيراد هذه السلع. وهكذا، يتأرجح الخطاب بين الإيمان باقتصاد السوق وضرورة التدخل الحكومي، في معادلة يصعب ضبطها.

الإنفاق الضخم ضرورة

حين تعالت التساؤلات حول أولويات الإنفاق الحكومي الكبير رغم الأزمة، اختار الرئيس أسلوب التوضيح القاطع، نافيًا وجود أي بدائل أخرى أمام الدولة. خلال افتتاح المرحلة الأولى من موسم الحصاد بمشروع "مستقبل مصر"، قال بصيغة حتمية "يعني رأي عام أو مفكرين أو مثقفين أو إعلاميين، يقول لك إنتو وديتوا الفلوس فين؟ مش كده؟ بس أنا عايز أقول لكو على حاجة، أنا ما كانش عندي خيارات تانية.. ما كانش عندي خيارات تانية، إن إحنا نسيب بلدنا كدا وتبقى، يعني، تخرب.. لا إحنا كنا نعاني يا دكتور مصطفى من إنفاق عالي جدا زي كدا من الحكومة ومن الدولة، في سبيل إن البلد دي تعيش".

كرَّر الرئيس فكرة "لم يكن لدينا خيار آخر" وهو يبرر الإنفاق الضخم على المشروعات الكبرى، وبالطريقة التي تم بها، في خطاب مغاير لما ذهب إليه هو نفسه في الجلسة الختامية للمؤتمر الاقتصادي في 2022 وهو يتحدث عن عدم نجاح تجربة مدينة دمياط للأثاث، عندما قال "عملنا الهناجر وعملنا كل حاجة طبقًا لل إيه، للي إحنا متصورين إنه ممكن ينجح، طب أهلنا في دمياط جم يا دكتور (كان يخاطب وزير الإسكان حينها عاصم الجزار)؟ لأ"، مُسببًا ذلك بأن "عناصر أخرى فُقدت في الدراسة، ما اتحطتش في الاعتبار".

مشاريع البنية التحتية: عبء أم استثمار؟

في مايو/أيار  الماضي، خلال افتتاح أحد المشروعات التنموية في محافظة جنوب الوادي، واصل الرئيس دفاعه عن الاستثمارات الحكومية الضخمة، مؤكدًا أن المشروعات الكبرى لم تكن ترفًا، بل ضرورة ملحة "هو الشغل اللي إحنا عملناه في الدولة في ما يخص البنية الأساسية، هو ده كان ضروري ولا كان زيادة؟ ده كان ضروري، واضطرينا ندفع فيه أرقام ضخمة جدًا، لو كانت اتعملت على مدى 20، 25 سنة، كان تكلفتها أكيد ها تبقى أقل من إللي إحنا بنعمله دلوقتي".

يصور الرئيس الدولة في صورة من اختار المعاناة عمدًا لضمان مستقبل أفضل للأجيال القادمة

يقدم الرئيس تفسيرًا مزدوجًا، الأول أن هذه المشروعات لا يمكن الاستغناء عنها، والثاني أن الظروف الاقتصادية فرضت تنفيذها بسرعة، رغم تكلفتها العالية.

مع استمرار الضغوط الاقتصادية، لم يتردد الرئيس في الإشارة إلى أن الدولة كانت تدرك منذ البداية أنها ستواجه صعوبات، لكنها اختارت ذلك عمدًا. خلال افتتاح محطة قطارات الصعيد في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، كرر هذا المعنى، مؤكدًا "وكان الخيار بالنسبة لنا، نعملها وتبقى ظروفنا الاقتصادية صعبة، ولا ما نعملهاش؟ ودي تالت مرة بقولها.. تالت مرة بقولها. إوعوا تفتكروا واحنا بنعمل ده ما كناش عارفين إن إحنا هنعاني منه، لا كنا عارفين، بس نعاني منه ونغير بلدنا، ولا نفضل زي ما احنا والبلد دي ما يبقاش ليها مستقبل".

يُظهر هذا الخطاب الدولة في صورة من اختار طريق المعاناة عن عمد، وأنها فضلت اتخاذ قرارات صعبة في اللحظة الراهنة لضمان مستقبل أفضل للأجيال القادمة.

الأزمة الاقتصادية بعد نكسة 1967

يقارن الرئيس الوضع الراهن بما عاشته مصر من ضائقة اقتصادية بعد نكسة 1967، قائلًا خلال احتفالية اتحاد القبائل في نهاية أكتوبر الماضي "أنا عايز أقول آآ عايز أقول لك ال.. إللي إنتو بتشوفوه دلوقتي.. دلوقتي.. ومن غير تفسير كتير وتوضيح كتير، كان تقريبًا ده الظروف اللي إحنا بنعيشها بعد 67 في مصر".

لكن بينما كانت الأزمة الاقتصادية في 1967 وما تلاها من سنوات نتيجة لحرب وتداعيات عسكرية، تأتي الأزمة الحالية في سياق مختلف تمامًا، مرتبط بإدارة الموارد والسياسات الاقتصادية.

بين الضرورة والتبرير، أي رسالة تحملها خطابات الرئيس؟ في كل مرة يتحدث فيها السيسي عن الاقتصاد، تتكرر الرسائل ذاتها: الأزمة صعبة، الخيارات محدودة، الإنفاق الكبير ضرورة، والتحمل مطلوب لبناء المستقبل، وسط هذه السردية المتكررة، تبقى الأسئلة الجوهرية دون إجابات واضحة: كيف تفاقمت الأزمة رغم كل المشروعات الكبرى؟ ومن المسؤول حقًا عن الوضع الراهن؟


(*) يبدو أن استخدام الرئيس للمليون كان خطأ غير مقصود لأن الناتج المحلي الإجمالي في الصومال سجل 11.68 مليار دولار في عام 2023

(**) تصريح الرئيس عبد الفتاح السيسي بشأن تحقيق الاقتصاد المصري معدلات نمو تتجاوز 6% قبل 2020 غير دقيق، إذ لم تتخطَّ معدلات النمو هذه النسبة خلال الفترة بين 2014 و2020، وفقًا لبيانات البنك الدولي. وبلغ أعلى معدل نمو اقتصادي خلال تلك السنوات 5.6% في عام 2019، بينما تراوحت النسب بين 2.9% في عام 2014 و3.6% في عام 2020. ووفقًا للبيانات، سجل الاقتصاد المصري معدل نمو 2.9% في عام 2014، ثم ارتفع إلى 4.4% في عام 2015، قبل أن يسجل 4.3% في عام 2016، و4.2% في عام 2017، و5.3% في عام 2018، ليصل إلى أعلى مستوياته عند 5.6% في عام 2019، ثم ينخفض مجددًا إلى 3.6% في عام 2020.