في صيف 2020 مع حلول الذكرى السابعة لـ30 يونيو، ثم صيف 2021 الذي تزامن مع الذكرى السابعة لتولي الرئيس عبد الفتاح السيسي منصبه، تبارت صحف وقنوات فضائية مصرية في بثِّ محتوى دعائي يُعدد "إنجازاته" في مختلف المجالات، التي حققت للبلاد "طفرة غير مسبوقة"، ودشنت الطريق إلى "الجمهورية الجديدة".
وبغير عِلم؛ استدعى المشاركون في تلك الحملات نصًا قرآنيًا وضعوه عنوانًا رئيسيًا لكثير من المقالات والتقارير التي أعادوا تدويرها، إذ شبهوا سنوات حكم السيسي التي مرَّت بـ"السبع السمان"، التي وردت في قصة نبي الله يوسف وهو يفسر رؤيا أحد ملوك مصر، رأى في منامه سبعَ بقرات سمان يأكلهنَّ سبعٌ عجاف، وسبعَ سنبلات خضر وأُخَرَ يابسات.
فسر يوسف الرؤيا بأنَّ مصر ستمر بسبع سنوات يكثر فيها الزرع ويعم الخير، تليها سبع سنوات شداد، ينتشر فيها الجفاف وتهلك المحاصيل فلا يجد المصريون شيئًا يأكلونه، إلا من حصاد ما زرعوه في سنوات الغنى والوفرة.
من استدعى مثلًا فليكمله
وقع كلُّ من شارك في حملة "السبع السمان" للتدليل على إنجازات الرئيس في فخ التبشير بأنَّ السنوات السبع المقبلة ستكون، وفق الترتيب القرآني، "عجافًا". وبينما أراد هؤلاء مداهنة السلطة، كانوا يستشرفون السبع الشداد.
وما هي إلا شهور بعد تلك الحملة، حتى بدأت مصر تحصد ما زرعته السلطة في سنواتها السبع الأولى، التي أهملت فيها وقتَّرت في الإنفاق على ما هو أهم؛ التعليم والصحة والزراعة والصناعة، وهي تُسرف في بناء المدن المخملية والمشروعات السكنية الفارهة التي أرهقت كاهل الدولة وكلفتها مليارات الدولارات، لتدخل البلاد بعدها بشهور في أزمة اقتصادية هي الأسوأ في تاريخ مصر الحديث، وضعت الدولة على حافة الإفلاس، لولا خطط الإنقاذ الإقليمية والدولية العاجلة التي ضخت مليارات الدولارات في شرايين الاقتصاد المصري.
حدث ذلك بعد شهرين من تحليل لمجلة الإيكونومست البريطانية حذرت فيه من "انهيار الاقتصاد المصري"، لافتة إلى أن انهيار مصر سيؤدي "إلى مزيد من زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط بأكمله"، لتخلص إلى أنَّ "تلك الدولة الضخمة التي يبلغ عدد سكانها 110 ملايين نسمة وتدير قناة السويس، وتشترك في الحدود البرية مع غزة، وتحافظ على معاهدة سلام مع إسرائيل، وتساعد في التوسط في محادثات السلام، لا يجب أن ينهار نظامها".
ووصفت المجلة هذا الانهيار بأنه "أمر محتمل إلى حدٍّ مخيف"... لذا يجب أن يُسارع العالم إلى دعم الاقتصاد المصري.
تعهدات بين آيتين
أمام مجلس النواب وبمناسبة أدائه اليمين الدستورية لفترة ولايته الأخيرة، استهل الرئيس السيسي كلمته بالآية 26 من سورة آل عمران "اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ".
وختم الرئيس الذي دشن ولايته الثالثة من العاصمة الإدارية بتلاوة الآية 101 من سورة يوسف "رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ".
وما بين الآيتين، تعهد الرئيس بـ"استكمال مسيرة بناء الوطن، وتحقيق تطلعات المصريين في بناء دولة حديثة ديمقراطية متقدمة في العلوم والصناعة والعمران والزراعة والآداب والفنون"، وتطرقت كلمته إلى ما مرت به البلاد خلال العشر سنوات الماضية من تحديات "ما بين محاولات الشر الإرهابي بالداخل، والأزمات العالمية المفاجئة بالخارج، والحروب الدولية والإقليمية العاتية"، لافتًا إلى أنَّ تلك التحديات "ربما لم تجتمع بهذا الحجم وهذه الحدة.. عبر تاريخ مصر الحديث".
وفي سبع نقاط موجزة، تناول السيسي ما وصفه بـ"مستهدفات العمل الوطني خلال المرحلة المقبلة"، على الصعيدين الخارجي والداخلي، متعهدًا بـ"ترسيخ الاستقرار والأمن والسلام، واستكمال وتعميق الحوار الوطني وتنفيذ توصياته التي يتم التوافق عليها"، بالإضافة إلى تعزيز صلابة الاقتصاد والتركيز على الصناعة والزراعة والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وزيادة الرقعة الزراعية وجذب الاستثمارات وتوفير فرص عمل مستدامة.
أثناء السباق الانتخابي المحسوم سلفًا، لم يطرح "المرشح" عبد الفتاح السيسي برنامجًا رئاسيًا محددًا، ولم يلتقِ بالجماهير ويناقشها ويتعرف على مطالبها ويعرض عليها ما لديه من حلول وبدائل. أما حملته، فاكتفت بتقديم ما اصطلح على تسميته بـ"الرؤية"، دون أن تخوض في التفاصيل التي كان يفترض عرضها على الناخبين.
ولكن في خطاب تنصيبه، أمس، قدم "الرئيس" السيسي مجموعة من المحددات والمقاصد، التي لو قمنا بتفكيكها والنظر إليها باعتبارها أسئلة تبدأ بـ "كيف ومتى ومن أين"، فقد تصبح إجاباتها برنامج إنقاذ متماسكًا، يمكن للمصريين أن يتابعوا تنفيذ ما جاء فيه من بنود خلال السنوات الست المقبلة، حتى يتسنى لهم، وللمرة الأولى في تاريخهم، محاسبة الرئيس قبل رحيله على ما أنجز وما لم ينجز من برنامجه، كما يحدث في أي دولة ديمقراطية.
خلال الأيام الماضية، تواترت أنباء عن تغيير قد يطيح بحكومة مصطفى مدبولي التي تشكّلت عند تنصيب السيسي بفترة رئاسية ثانية قبل ست سنوات، فيما ذهبت أنباء أخرى إلى أنَّ التعديل سيقتصر على بعض الحقائب الوزارية، وبالتوازي تحدّث البعض عن تعيين نائب أو أكثر للرئيس، وتكليفه أو تكليفهم بمهام وصلاحيات دستورية.
قد تكون تلك التغييرات، إن حدثت، أول طريق لإصلاح ما جرى، لو تمت الاختيارات وفق قاعدة "أهل الكفاءة والمقدرة" وليس على قاعدة "أهل الثقة"، فمصر ذاخرة بالكفاءات في كل المجالات، ولو حظي هؤلاء بفرصة وتُركت لهم مساحة يمارسون من خلالها صلاحياتهم ويثبتون قدرتهم، بعيدًا عن التعليمات والتكليفات، لانتقلت البلاد إلى محطة الاستقرار الحقيقي التي تُمكِّنها من التقدم والنهوض.
قد تكون هذه فرصتنا الأخيرة قبل أن تقع مصر في المحظور الذي نجت منه بأعجوبة، وبدعم جهات يعلم الجميع أنها كما لا تريد لمصر أن تسقط، فإنها لا تريد لها أيضًا أن تقوم. بتحويل ما جاء في خطاب تنصيب الولاية الأخيرة إلى برنامج عمل، واختيار الكوادر البشرية القادرة على تحويله إلى واقع، قد تعبر مصر محطة "السنوات العجاف الشداد" بسلام.