تصميم: سيف الدين أحمد، المنصة 2025
لقطة معدلة تجمع يسرا وجميل راتب في فيلم طيور الظلام، إخراج شريف عرفة 1995

الإجراءات الجنائية ورجال الرئيس.. كده ينفع وكده ينفع

القانون "مثالي" إلا إذا اعترض الرئيس

منشور الأحد 5 تشرين الأول/أكتوبر 2025

يومَ الأحد 21 سبتمبر/أيلول الماضي، فجّر رئيس الجمهورية مفاجأة من العيار الثقيل؛ أعاد قانون الإجراءات الجنائية إلى البرلمان لبحث الاعتراضات على عدد من مواد مشروع القانون.

حدد البيان الرئاسي عددًا من المواد التي تحتاج إلى تعديلات، وأشار في الوقت نفسه إلى المناشدات العديدة التي وردت للرئيس لإعادة النظر في بعض مواده.

المفاجأة الرئاسية فجّرت بدورها تبعاتٍ حكوميةً وبرلمانية، ووضعت الدائرة المحيطة بالرئيس، من وزراء ونواب وسياسيين محسوبين على الموالاة أو المعارضة، في حرجٍ شديدٍ.

الشيء وعكسه

جاءت ردود الأفعال المرحبة بالقرار الجمهوري بإعادة القانون إلى البرلمان مناقضة تمامًا لردود الأفعال السابقة عند انتهاء البرلمان من مناقشة مشروع القانون وإقراره، ثم رفعه إلى الرئيس للتصديق عليه قبل نشره في الجريدة الرسمية؛ كأنها لم تتوقع أن يعيده الرئيس إلى البرلمان مرة أخرى.

بدأت أزمة تعديلات قانون الإجراءات الجنائية قبل عام، حين أوصى مجلس أمناء الحوار الوطني بتقليص مدد الحبس الاحتياطي، ورفع توصياته للرئيس الذي وافق على التوصيات وأحالها إلى البرلمان لتضمينها في تعديلات قانون الإجراءات الجنائية المعمول به منذ عام 1950، وبعد جولات من المناقشة والاعتراضات داخل مجلس النواب وخارجه، قدّم المجلس المشروع الجديد بوصفه إنجازًا تشريعيًا غير مسبوق، واحتفى به النواب باعتباره مولودًا عصريًّا مكتمل الملامح، لا يعتريه نقص ويجسد تطورًا في مسار العدالة.

هذا المديح الذي كالته أطراف وشخصيات مسؤولة للقانون تبدل تمامًا مع الاعتراضات الرئاسية على بعض مواد القانون بدعوى تعزيز الحوكمة والوضوح وضمان الحقوق، خاصة ما يتصل بالحصانة والحبس الاحتياطي وصياغات قد تفتح باب الالتباس في التطبيق، ليتغيّر الخطاب بسرعة شديدة وتتحول الإشادة إلى حكمة الرئيس صاحب البصيرة والنصير الأول لحقوق المظلومين.  

نحن لا نتحدث عن قانون عادي، بل عن أحد أهم القوانين التي تحدد حدود السلطة التنفيذية أمام حريات الأفراد. فالأصل أن يكون هذا النص أداة لضبط مشروعية ما تقوم به أجهزة إنفاذ القانون، لا مجرد وثيقة قابلة للمديح أو النقض حسب من يملك الكلمة العليا.

مع الرئيس

وزيرا العمل محمد جبران والشؤون النيابية محمود فوزي في مجلس النواب، 15 أبريل 2025

في أولى جلسات مناقشة ملاحظات الرئيس على مشروع القانون، الأربعاء الماضي، خاطب رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، النواب، في كلمته أمام الجلسة العامة، مؤكدًا أن الحكومة والبرلمان "اجتهدا قدر الطاقة" لصياغة نصوص متوازنة تحقق العدالة، ثم حوّل المسار نحو الإشادة بحكمة الرئيس والإشارة إلى أنه رأى ما يستحق الإضافة من ضمانات، وما يحتاج إلى إيضاح يزيد النصوص "جلاءً وتبيانًا".

النصيب الأكبر من الحرج، لم يكن هنا على رئيس الحكومة، بقدر ما كان من حظ المستشار محمود فوزي، وزير الشؤون النيابية والقانونية والتواصل السياسي، باعتباره أبرز المدافعين عن مشروع قانون الإجراءات الجنائية في مواجهة الانتقادات الواسعة.

في الوقت الذي كانت سهام النقد توجه للقانون من جهات عدة؛ من الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية والنقابات ونواب المعارضة، نجح الوزير في تمريره داخل المجلس في أبريل/نيسان الماضي، وكان يروّج له بوصفه "آلية لتفعيل العقد الاجتماعي" وامتدادًا لتوجه القيادة السياسية نحو "العدالة الناجزة"، مؤكدًا أنه يتماشى مع الدستور ومع التزامات مصر الدولية.

لكن حماس فوزي تبدد تمامًا بعد قرار الرئيس إعادة القانون إلى البرلمان، وظهر المدير السابق للحملة الرئاسية للسيسي، في عدة مداخلات إعلامية ليمتدح خطوة الرئيس، واصفًا إياها بأنها تصب في صالح حقوق الإنسان وتمنح القانون "مزيدًا من الضبط والوضوح".

المفارقة أن الوزير، الذي لم يأبه لاعتراضات الأمم المتحدة حين حذرت في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 من أن بعض مواد القانون قد تتعارض مع التزامات مصر الدولية، وجد نفسه اليوم يتبنى الملاحظات ذاتها تقريبًا، ولكن هذه المرة لأنها جاءت من الرئيس.

يا غالب يا مغلوب

لم يتغير الحال كثيرًا لدى مجلس النواب الذي وافق على هذا القانون بالإجماع، فقد أصدر بيانًا أعلن فيه ترحيبه باعتراض الرئيس على مشروع القانون، معتبرًا الخطوة تعكس "وعيًا استثنائيًا بقدسية العدالة الجنائية ودورها في صون السلم العام".

رأى مجلس النواب أن اعتراض الرئيس يأتي لضمان قيام البناء التشريعي على "الوضوح والإحكام والتوازن"، بحيث لا تطغى شعارات العدالة الناجزة على حساب ضمانات الحرية والحقوق.

لم يستمع البرلمان إلا للاعتراضات الرئاسية على المواد التي سبق وكانت هي ذاتها وغيرها محل انتقاد جهات دولية من بينها لجنة مناهضة التعذيب بالأمم المتحدة التي أعربت عن قلقها من أن بعض مواد القانون تفتح الباب للتعسف، عبر إقرار المحاكمات عن بُعد دون ضمانات كافية، وتوسيع سلطات النيابة في الحجز والحبس الاحتياطي، ومنحها صلاحية تقييد عمل المحامين بدعوى "مصلحة التحقيق".

كما حذَّرت اللجنة من بقاء آثار الطوارئ وقوانين الإرهاب التي تمنح أجهزة الأمن صلاحيات شبه مطلقة في توقيف الأفراد.

في أجواء كهذهٍ يستحيل أن يخرج قانون يتمتع بالموضوعية أو يملك مقومات الاستدامة

في الداخل، اتحدت منظمات حقوقية ونقابات من بينها نقابة الصحفيين في موقفها المناهض لكثير من مواد القانون الذي ينتقص من حقوق المتقاضين، بتقييد الاستشكال (الاعتراض القانوني عليها) على الأحكام، وتوسيع نطاق التحفظ على الأموال، واعتماد الأسورة الإلكترونية دون ضمانات، ما يجعل القانون في نظرهم تهديدًا لاستقلال العدالة وتكريسًا للإفلات من المحاسبة بدلًا من أن يكون ضمانة للحقوق والحريات.

واستحوذت المادتان 79 و116 بالأخص على مساحة واسعة من الانتقادات لكونها تمنح النيابة العامة صلاحيات استثنائية في مراقبة المراسلات الخاصة والتنصت على الهواتف والاجتماعات، بموجب إذن قضائي يصدر لمدة ثلاثين يومًا قابلة للتجديد مرات متعاقبة.

مع هذا التصاعد والتضامن في المواقف الرافضة للقانون من نقابة المحامين إلى نقابة الصحفيين، مرورًا بعشرات الحقوقيين، حاولت بعض الأصوات القليلة من نواب المعارضة إبداء ملاحظاتها والاعتراض على المواد التي تحتاج تعديلات، لكن الأغلبية كانت تقمع صوتها بإبداء الموافقة على المادة تلو الأخرى؛ سيطر على البرلمان مناخ شعور التحدي؛ كأن لسان حاله يقول "يا غالب يا مغلوب".

بدت المناقشات كأننا أمام معركة صفرية لن تُحسم إلا بانتصار طرف وإخضاع الآخر، وجرت في أجواء يستحيل أن يخرج فيها قانون يتمتع بالموضوعية أو يملك مقومات الاستدامة، فأول شروط التشريع، خصوصًا لقانون يعد عماد منظومة العدالة ويمس حياة أكثر من 100 مليون مواطن، أن يُناقَش في مناخ منفتح، يُرحّب بالاعتراض بقدر ما يثمّن التأييد، وفقًا لمقال نشره الكاتب محمد بصل على موقع المنصة.

وزير أمام محكمة

"النواب" يدرس اعتراض السيسي على "الإجراءات الجنائية"، 1 أكتوبر 2025

وقع وزير العدل المستشار عدنان فنجري ضحية المواقف المتبدلة. فعند تمرير القانون لأول مرة، روّج للقانون باعتباره ثمرة "دراسة متميزة" ونتاج "مستوى رفيع من العمل البرلماني والقضائي والقانوني"، مؤكّدًا أنه يرسي نظامًا قضائيًا عادلًا يحمي حقوق الإنسان ويضمن الاستقرار.

غير أنّ الخطاب تغيّر بالسرعة نفسها مع اعتراض الرئيس؛ فإذا بالفنجري يخرج مشيدًا بخطوة السيسي في الاعتراض على مواد القانون، معتبرًا ذلك دليلًا على حرص القيادة السياسية على ضمان حرية الأفراد.

كأن ما كان بالأمس منجزًا مكتملًا، بات اليوم بحاجةٍ إلى لمسة إضافية من الرئيس ليغدو صالحًا للعمل به؛ حتى حين أبدى وزير العدل اعتراضًا فنيًا -وإن كان على استحياء- على إحدى المواد التي أعاد الرئيس بسببها مشروع قانون الإجراءات الجنائية، أصر على أنه لا يعترض على الرئيس، وأن اعتراضه يأتي من ناحية فنية بحتة.

وبعد تداول خبر اعتراض الوزير على بدائل الحبس الاحتياطي، سارعت وزارة العدل لإصدار بيان تنفي فيه أي اعتراضات من الوزير على الرئيس.

وفي اليوم التالي وجد الفنجري نفسه في جلسة استتابة من رئيس مجلس النواب، الذي كان من أشد المدافعين عن القانون في البداية، ثم أصبح من أشد المدافعين عن اعتراضات الرئيس لدرجة توجيه عبارات قاسية لوزير العدل.

أمام هذه المحاكمة البرلمانية التي بدا فيها الوزير متهمًا أمام محقق، اضطر للتراجع  عن اعتراضه الوحيد؛ هكذا تحولت الجلسة البرلمانية إلى مرآة تعكس بوضوح أن "الموقف" في السياسة المصرية ليس التزامًا بمبدأ أو دفاعًا عن صياغة قانونية، بل هو مجرّد صدى لموقف رأس السلطة التنفيذية. وفي النهاية، مرّ التراجع تحت لافتة "حكمة الرئيس".

ليس فقط الموالاة

لم يقتصر التبدل في المواقف على وزراء ومسؤولي الحكومة، إنما شمل شخصيات محسوبة على المعارضة، وأصدر رئيس حزب الإصلاح والتنمية محمد أنور عصمت السادات بيانًا رسميًا رحّب فيه بقرار الرئيس إعادة قانون الإجراءات الجنائية إلى البرلمان لمراجعته، واعتبر الخطوة "انتصارًا للعدالة وتعزيزًا للضمانات"، وذهب إلى حد المطالبة بمحاسبة البرلمان والحكومة، ودعا وزير شؤون المجالس النيابية إلى الاستقالة.

لم يقتصر تبدّل المواقف على الحكومة والمعارضة وشمل المجلس القومي لحقوق الإنسان

العجيب أن السادات الذي يطالب، الوزير محمود فوزي، بالاستقالة يضع صورته إلى جواره غلافًا لصفحة الحزب الذي يرأسه على فيسبوك.

كما أن هذه اللهجة الحادة من السادات عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان بدت مناقضة لتصريحاته قبل أشهر قليلة فقط؛ ففي فبراير/شباط الماضي، وخلال لقاء متلفز، أشاد بالقانون نفسه واعتبره "خطوة إصلاحية مهمة" لمعالجة أزمات الحبس الاحتياطي والمنع من السفر.

المجلس القومي لحقوق الإنسان عدّل هو الآخر من مواقفه؛ ففي نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وقفت السفيرة مشيرة خطاب، رئيسة المجلس، داخل قاعة البرلمان لتوجه الشكر للنواب على ما وصفته بـ"الجهود المضنية" في إعداد مشروع قانون الإجراءات الجنائية، مؤكدة أنه يمثل "مقاربة حقوقية رصينة" تتسق مع المعايير الدولية، بل ووصفته بأنه "نقلة نوعية نحو جعل حقوق الإنسان واقعًا ملموسًا لكل مصري ومصرية".

لكن بعد قرار الرئيس إعادة القانون، أصدر المجلس بيانًا يرحب بالخطوة، معتبرًا أنها تجسد احترام الدستور والاتفاقيات الدولية، وتبعث رسالة إيجابية حول جدية الدولة في تعزيز حقوق الإنسان.

بين الإشادة بالنصوص كما جاءت أول مرة، ثم الاحتفاء بردها وإعادة النظر فيها، بدا المجلس الذي شارك ممثلون عنه في لجنة الصياغة مثل غيره جزءًا من مشهد التماهي مع توجهات الرئيس، أيًا كان مضمونها، ولم يبتعد بعض ممثلي النقابات المعترضة بالأساس على القانون عن المسلك نفسه؛ فنقيب المحامين الذي وقف تحت قبة البرلمان واصفًا النص بأنه "يعد خطوة على طريق الجمهورية الجديدة تحت قيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي"، عاد وتفاعل بالتأييد والثناء على اعتراضات الرئيس.

 بدا تبدل المواقف ما قبل وبعد اعتراضات الرئيس على الإجراءات الجنائية أقرب للمشهد الشهير في فيلم طيور الظلام، حين سألت يسرا الوزير الذي جسّده جميل راتب "تحب تقيس الجاكيت الأول ولا البنطلون؟"، فأجابها "إنتي شايفة إيه"، فردّت عليه "يختشي.. كده ينفع وكده ينفع".