
يوميات صحفية برلمانية| "الإجراءات الجنائية" ووزير العدل.. ماذا لو عاد متراجعًا؟
فجّرت اعتراضات الرئيس السيسي على قانون الإجراءات الجنائية صدامًا بين وزير العدل ورئيس مجلس النواب، وكشفت تناقضًا بين الحكومة وممثلها، في أول مناقشة لمشروع القانون المثير للجدل والأزمات، بعد ردّه للمجلس.
اعترض رئيس الجمهورية على ثماني مواد في مشروع القانون المكون من 552 مادة، الذي سبق وأثار خلافًا بين البرلمان ونقابة الصحفيين، وتلقى انتقادات حقوقية حادة من الداخل والخارج، واعتبره حقوقيون انتقاصًا من حقوق الإنسان وضمانات المحاكمة العادلة.
صباح الأربعاء 1 أكتوبر/تشرين الأول، ألقى رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي بيانًا أثنى فيه على تحفظات الرئيس على مواد في مشروع قانون الإجراءات الجنائية.
بدوره، شارك مجلس النواب، الذي سبق ووافق قبل خمسة أشهر على القانون، رئيس الوزراء في مدحه وثناءه على تحفظات الرئيس؛ التحفظات التي وصفتها بيانات وكلمات رئيس الحكومة ورئيس المجلس بأنها "تسعى لمزيد من ضمانات الحقوق والحريات".
وفي الوقت ذاته دافع رئيس مجلس النواب المستشار حنفي جبالي عن دور المجلس في إعداد المشروع، موضحًا أن الرئيس اعترض على ثماني مواد فقط من بين 552 مادة.
تانجو.. خطوة للأمام واثنتان للوراء
دعا جبالي ظهر الأربعاء الماضي لاجتماع اللجنة العامة التي تضم رئيس المجلس ووكيليه، ورؤساء اللجان النوعية، وممثلي الهيئات البرلمانية. ووجه الدعوة لوزيري العدل والشؤون النيابية للمشاركة. وفي ذلك الاجتماع اتخذ وزير العدل المستشار عدنان فنجري مسارًا معاكسًا لموقف الحكومة مُسجلًا رفضه لبعض اعتراضات الرئيس.
غير مسموح للصحفيين المشاركة في اجتماعات اللجنة العامة، وعادةً ما نلجأ إلى الاستعانة بتصريحات خاصة ممن يشاركون في الاجتماعات من رؤساء اللجان وممثلي الهيئات البرلمانية، بالإضافة إلى الأخبار التي تصدر عن إدارة الإعلام في مجلس النواب وتُرسل للصحفيين.
ومع نشر الخبر، انتفضت وزارة العدل لإنكاره فأصدرت بيانًا ينفي رفض الوزير اعتراض الرئيس
لكن في ذلك اليوم تلقيت وزملائي خبرين من مجلس النواب عقب الاجتماع، الأول يشيد فيه وزير العدل بالتعديل المقترح من الرئيس بإرجاء تطبيق قانون الإجراءات الجنائية عامًا قضائيًا بعد إقراره، لمنح الحكومة فترة لتجهيز المحاكم للعمل بالطرق التي استحدثها المشروع، وإنشاء مراكز الإعلانات الهاتفية في المحاكم الجزئية، وتدريب المسؤولين عن التنفيذ والتطبيق.
أما الخبر الثاني فوصلني في السادسة مساءً وحمل اعتراض نفس الوزير على طلب الرئيس بتعديل المادة 114 من مشروع القانون التي تتضمن ثلاثة بدائل للحبس الاحتياطي، بينما دعا الرئيس لاستحداث المزيد من التدابير غير الاحتجازية لإتاحة الفرصة لجهات التحقيق لاختيار الأوفق بينها.
حسب الخبر، رفض الوزير طلب الرئيس وأكد أن البدائل الواردة في مشروع القانون كافية، وأن المادة محل الجدل تجيز لعضو النيابة أن يصدر بدلًا من الحبس الاحتياطي أمرًا مسببًا بأحد التدابير الآتية: إلزام المتهم بعدم مبارحة مسكنه أو موطنه، أو إلزام المتهم بأن يقدم نفسه لمقر الشرطة في أوقات محددة، أو حظر ارتياد المتهم أماكن محددة.
ومع نشر المواقع الإخبارية الخبر، انتفضت وزارة العدل لإنكاره فأصدرت بيانًا ينفي رفض الوزير اعتراض الرئيس، ويعتبر أن التصريح مجتزأ من سياقه.
قبل نهاية الأربعاء الطويل بدقائق قليلة، تلقيت التقرير الرسمي للجنة العامة الذي كشف بيان الوزارة، وأكد صحة الأخبار الصادرة عن مجلس النواب، وأوضح الموقف الذي اتخذه وزير العدل من التعديلات المطلوبة ومخالفته رؤية الحكومة التي رحبت بتحفظات الرئيس.
كشف تقرير اللجنة العامة اعتراضًا واضحًا من الوزير على وضع بدائل جديدة للحبس الاحتياطي، فضلًا عن اعتراضه على التحفظ على مواد أخرى من بينها المادة 48 التي تجيز لرجال الضبط دخول المنازل دون إذن قضائي في حالات الاستغاثة والخطر، وكان رئيس الجمهورية وجَّه بضرورة تحديد المقصود بحالات الخطر منعًا للتوسع في التفسير وامتدادها لحالات لم يقصدها المشرع، وهو المقترح الذي سبق وقدمه عدد من نواب المعارضة في مقدمتهم النائبة مها عبد الناصر خلال مناقشة مشروع القانون في الجلسات العامة.
أكد وزير العدل استحالة حصر وتحديد حالات الخطر، واكتفى باقتراح إضافة عبارة "وما شابه ذلك" أسوة بنص القانون القائم، وفقًا للتقرير.
وتجيز المادة 112 من مشروع القانون إيداع المتهم -في جرائم معينة- والذي يتعذر استجوابه لعدم حضور محام، في أحد مراكز الإصلاح والتأديب دون تحديد مدة لإيداعه أو حد أقصى لمدة الإيداع، ودون تقييد هذا الإيداع بصدور أمر قضائي مسبب أو تخويل المتهم حق التضرر من أمر إيداعه أمام القضاء والفصل فيه خلال أجل محدد.
"إذن سيادة الوزير تراجع عن كل ما ذكره في اللجنة العامة"
طلب السيسي ضرورة إعادة النظر في هذه المادة في ضوء المادة 54 من الدستور، والمادة 9 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، لا سيما أن الفقرة الأولى من ذات المادة راعت ما تقدم في الجرائم الأقل جسامة، غير أن وزير العدل تمسَّك بالنص الأصلي مع تخفيض مدة الفصل في التظلم لتكون خلال 48 ساعة.
كما تمسَّك وزير العدل بنص المادة 411 كما هو، رافضًا اقتراح الرئيس بتعديل المادة التي ألزمت المحكمة بندب محام، حال تخلّف المحكوم عليه أو وكيله عن الحضور أمام محكمة الجنايات المستأنفة، بحيث يتولى المحامي المنتدب الدفاع عن المحكوم عليه، ويحق للمحكمة إصدار حكم بات لا يجوز الاستئناف فيه.
استجواب الوزير
يفتقد وزير العدل الذي انضم لحكومة مدبولي في 3 يوليو/تموز 2024 الحس السياسي، وتغيب عن ابن محافظة قنا الذي تدرج في المناصب القضائية المختلفة الحصافة والقدرة على إدارة الخلاف والخروج من المواقف المحرجة.
وقف الوزير في مشهد سينمائي خلال الجلسة العامة أمس الخميس، يجيب عن تساؤلات رئيس مجلس النواب الذي تقمص دور محقق يستجوب مُتّهم؛ يطرح أسئلة محددة للوصول لإجابات معينة. سأله في بداية الجلسة "هل تريد سيادتك التراجع عن أي من آراء سيادتك التي أفصحت عنها صراحة باجتماع اللجنة العامة أمس؟".
https://www.youtube.com/watch?v=6xbKieVXPTwحاول الوزير الهرب بكلمات جوفاء عن تكامُل المؤسسات وأهمية القانون، فقاطعه جبالي مذكرًا إياه بجلسة الأمس "أمس قلت يستحيل حصر حالات الخطر كما جاءت باعتراض السيد رئيس الجمهورية، ضربت بإيدك وقلت يستحيل تحديد حالات الخطر... هل تراجعت عمّا ذكرته في اللجنة؟"، فرد وزير العدل "نعم". فقال جبالي "إذن سيادة الوزير تراجع عن كل ما ذكره في اللجنة العامة". حاول الوزير استكمال كلمته لكن جبالي منعه ونبهه لاختلاف العمل البرلماني عن القضائي.
وأمام هذا التراجع تعرّض الوزير لهجوم كبير من النواب، فاعتبره النائب أيمن أبو العلا، رئيس حزب الإصلاح والتنمية "يقلل من شأن المجلس"، ما دفع رئيس المجلس لاستعادة دور المحقق في نهاية الجلسة ودفع الوزير لمقعد المتهم مكررًا سؤاله عدة مرات عن أسباب التراجع.
خلال المواجهة، لم يكتف جبالي بتذكير الوزير بكلماته في اجتماع اللجنة العامة، بل ذكره بلغة جسده، مكررًا أن الوزير ضرب بعنف على الطاولة مرتين خلال المناقشات، مرة تأكيدًا لاستحالة تحديد حالات الخطر والأخرى رفضًا لإضافة تدابير بديلة للحبس الاحتياطي.
حاول الوزير مرتبكًا الهروب من الإجابات، نفى التراجع الذي اعترف به، ثم عدل عن النفي مرة أخرى، وأصبح في موقف لا يُحسد عليه أمام النواب، قضى على هيبته في مشهد نقلته الفضائيات على الهواء مباشرة.
ماذا نتوقع
مع حالة الاحتفاء برد الرئيس لمشروع القانون، وتوصيته بمزيد من الضمانات سواء لإعلاء الحرية على الحبس أو ضمانات حق الدفاع، خفت الحديث عن المادة 105 التي تمنع عضو النيابة من استجواب المتهم أو مواجهته بغيره من المتهمين أو الشهود إلا في حضور محاميه. وأوصى الرئيس بتعديل هذه المادة لعدم تناسقها مع المادة 64 التي أعطت لمأمور الضبط القضائي المنتدب من النيابة حق استجواب المتهم دون اشتراط حضور محاميه، في حالة الخشية من "فوات الوقت".
ولدت التوصية اعتراضًا لدى عدد من نواب المعارضة بما فيهم من سبق ووافقوا على مشروع القانون، خاصة النائب عبد المنعم إمام والنائب ضياء الدين داود، وهو نفس الموقف الذي أعلنه نقيب المحامين عبد الحليم علام خلال كلمته في الجلسة العامة الخميس.
وقال علّام إن أي تعديل يسمح باستجواب المتهم بغير حضور محاميه بدعوى الخوف من ضياع الأدلة أو فوات الوقت يمثل مخالفة صريحة للدستور، واتخذ النائب ضياء الدين داود نفس الموقف، وقال منفعلًا "لا يجوز المساس بالمادة 105 والالتفاف على المادة 54 من الدستور"، رافضًا أي نص يسمح باستجواب المتهم في غيبة محاميه.
فيما اتفق عدد من النواب في مقدمتهم ضياء الدين داود وعبد المنعم إمام وأيمن أبو العلا ومحمد عبد العزيز على ضرورة التطبيق الفوري لمشروع القانون عقب صدوره، رافضين الانتظار عامًا قضائيًا جديدًا لحين تجهيز المحاكم، مؤكدين على ضرورة استفادة المحبوسين احتياطيًا والممنوعين من السفر وغيرهم من الحقوق المكفولة لهم بموجب المشروع الجديد.
وتساءل النائب محمد عبد العزيز عضو المجلس عن تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين "إذا كانت الحكومة تحتاج بعد كل هذه السنوات عامًا قضائيًا آخر فمتى تكون جاهزة؟" مشيرًا إلى أن المشروع استغرق فترة طويلة من المناقشات مع الحكومة.
يبقى مصير مشروع القانون معلقًا خلال الأيام المقبلة بين يدي مجلس النواب الذي يقترب من إسدال الستار على فصله التشريعي، فيما تتولى لجنة خاصة برئاسة وكيل المجلس أحمد سعد الدين مهمة دراسة اعتراضات الرئيس وصياغة تعديلات جديدة تُعرض لاحقًا.
لكن المسار لا يزال غامضًا: هل ستكتفي التعديلات بإضافة نصوص تجميلية مثل بدائل الحبس بالأساور الإلكترونية التي يصعب تطبيقها عمليًا؟ أم ستفتح الباب أمام تغييرات تمس جوهر الضمانات الدستورية للمتهم وحق الدفاع؟ أم ستظل النصوص المطاطة تحكم المشهد؟
المؤكد أن فلسفة مشروع القانون التي سبق واعترضت عليها المنظمات الحقوقية المحلية والدولية ستظل كما هي دون مساس.