كان أفضل السيناريوهات المتوقعة للانتخابات الرئاسية المقبلة هو أن يتسع صدر الأجهزة الأمنية المعنية قليلًا فتسمح بإجراء عملية اقتراع تتمتع بالحد الأدنى من المصداقية، عبر ترك معارضين حقيقيين لسياسات الرئيس عبد الفتاح السيسي يخوضون المنافسة أمامه، بدلًا من منافسة صورية تشبه ما حدث عام 2018.
وعزز تأزم الوضع الاقتصادي، وتصاعد الديون من احتمالات اضطرار الحكومة المصرية لعقد انتخابات "معقولة" إلى درجة ما، في ضوء الحاجة الماسة للدعم المالي الدولي، ولو على النمط الروسي حيث يفوز فلاديمير بوتين دائمًا، ولكن مع السماح لمنافسيه مجتمعين بجمع ربع أصوات الناخبين.
لم يتوقع أحد انتخابات مثالية، بحكم سجل النظام على مدى السنوات التسع الماضية في عدم اعتبار الديمقراطية أولوية من الأساس، ولكنَّ القناعة التي تشكّلت في الدوائر السياسية المحلية والخارجية، أنَّ بالإمكان الحديث عن انتخابات تنافسية لو سُمح للنائب السابق أحمد الطنطاوي تحديدًا بخوضها، بحكم أنه صاحب الخطاب الأعلى صوتًا في معارضته.
ولكنَّ صدر الأجهزة الأمنية المعنية لم يتَّسع، فاتخذت قرارًا غير معلن بمنع الطنطاوي من الترشح، وبدأت على الفور حملة منظمة شاهدها الجميع في بث حي ومباشر لمنع أنصار النائب السابق من تحرير توكيلات لصالحه، والاعتداء عليهم لو لزم الأمر. كما تتواصل حملات إلقاء القبض على أنصاره وأعضاء حملته الانتخابية، حتى بلغ عددهم حتى الآن 128 محتجزًا.
حضر الرئيس وغاب المرشحون
لم يجد إعلان الطنطاوي في 11 أكتوبر/تشرين الأول إنهاء حملته ومساعيه الانتخابية، الصدى المتوقع على الصعيدين الداخلي والخارجي. ولم ينظم أنصاره أي احتجاجات على ذلك المنع المتعمد للمرشح المحتمل، في ضوء انغماس العالم بأكمله، والمصريين على وجه الخصوص، في متابعة تطورات المجزرة الإسرائيلية بحق الفلسطينين في قطاع غزة، أكبر سجن في العالم. من الناحية العملية، فرضت حرب غزة نهاية مبكرة للانتخابات الرئاسية المقبلة.
تغيَّرت الأولويات والاهتمامات، وعالم ما بعد 7 أكتوبر لم يعد كعالم ما قبل هذا اليوم
وزادت التهديدات الإسرائيلية العنصرية الطين بلة، مع تصاعد المخاوف بتهجير سكان القطاع من الشمال إلى الجنوب تمهيدًا لنقلهم إلى الأراضي المصرية في شمال سيناء، ما خلق أجواءً توحي بأننا على وشك إنهاء حالة السلام مع إسرائيل، والذهاب إلى الحرب للمرة الأولى منذ خمسين عامًا، في حال إصرار تل أبيب على تنفيذ عملية التهجير.
وبينما كان الإعلام يتوسع في تغطية تأكيد الرئيس عبد الفتاح السيسي على أنَّ أمن مصر القومي خطٌّ أحمر، وأنه لن يسمح مطلقًا بتصفية القضية الفلسطينية، وتعريض الشعب الشقيق لنكبة جديدة، وتحديدًا على حساب مصر، غاب تقريبًا خبر انسحاب منافسه الرئيسي المحتمل عن وسائل الإعلام، حتى التي ظلت تتابع أخبار حملته، حتى وقوع هجوم حماس المفاجئ والمذهل ضد قوات الجيش الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنات القريبة في 7 أكتوبر.
في حالات الخطر الخارجي وأجواء الحرب الوشيكة، تتراجع الأجندة الداخلية أمام الخطر الماثل من الخارج، ويُخوَّن المعارضون ويُتَّهمون بانعدام المسؤولية والحس الوطني لو صمموا على إثارة المشاكل في الداخل. وعندما تشكِّل إسرائيل حكومة "وحدة وطنية" رغم كل ما تعانيه من انقسامات داخلية حادة بسبب أزمة التعديلات القضائية، يكون متوقعًا حالة مماثلة من الوحدة الداخلية في الدول التي تواجه خطر الحرب، كما هو حال مصر الآن.
تغيَّرت الأولويات والاهتمامات، وعالم ما بعد 7 أكتوبر لم يعد كعالم ما قبل هذا اليوم. ووفقًا لسجل الحروب العدوانية الطويلة التي شنتها إسرائيل ضد قطاع غزة، منذ سيطرة حركة حماس عليه في 2007، فإن الحرب الحالية ستكون الأشرس والأعنف وربما الأطول على الإطلاق. ولو مضت إسرائيل في إعمال آلة القتل بحق المدنيين الفلسطينيين بنفس المعدلات الحالية، فإن الرقم قد يتجاوز كل التوقعات ونبلغ حد الإبادة، طالما تمتعت إسرائيل بحماية الولايات المتحدة والدول الغربية.
حتى الآن، ليس مسموحًا لمجلس الأمن الدولي أن يتبنى قرارًا لوقف إطلاق النار، وذلك لأن إسرائيل تمارس وفقًا لواشنطن والعواصم الأوروبية الفاعلة في برلين ولندن وباريس "دفاعًا مشروعًا عن النفس".
يشعر الإسرائيليون بغضب عارم ورغبة مفرطة في الانتقام، ردًا على ما تعرضوا له من إهانة مذلة بأدوات بسيطة وبدائية استخدمتها حركة حماس، فقتلت 1400 إسرائيلي، بينهم مئات الضباط والجنود، وأسرت ما يزيد عن 200 إسرائيلي للمرة الأولى منذ إنشاء الدولة الصهيونية عام 1948.
ولذلك يصدق الرئيس الأمريكي جو بايدن سريعًا ومعه الحلفاء الأوروبيين الرواية الإسرائيلية العبثية، بتحميل حركة الجهاد مسؤولية إطلاق الصاروخ، الذي قتل نحو 500 فلسطيني في المستشفى المعمداني، وكأنه ليس قنبلة صنعتها أمريكا وأسقطتها إسرائيل.
كما يتسامحون مع صور قتل الأطفال والعائلات بأكملها، لأنهم يصدقون كذب إسرائيل أن كل بناية يقومون بقصفها فوق رؤوس سكانها تضم إما أعضاءً بارزين في حركة حماس، أو توجد أسفلها أنفاق يستخدمها مقاتلو الحركة لتهريب الأسلحة وشن الهجمات.
وبعد ما يزيد عن أسبوعين من القتل المتواصل والمخاوف المتزايدة من اتساع القتال ليشمل جبهات أخرى في لبنان وسوريا، وفي مواجهة رأي عالمي يتصاعد غضبه من مظاهر قتل الأطفال التي يتابعها الملايين يوميًا على الشاشات، اضطرت الولايات المتحدة والدول الأوربية الرئيسية إلى الموافقة على الضغط على إسرائيل ليس من أجل وقف القتال، ولكن فقط لإدخال كميات محدودة من المساعدات الإنسانية للقطاع.
هذه الأجواء المتوترة تستدعي من الحكومة والمعارضة معًا التصرف بمسؤولية
وظهر النفاق الغربي في مواجهة جرائم الحرب الإسرائيلية جليًّا في مؤتمر قمة السلام الذي دعت له مصر مؤخرًا، حيث رفضت الدول الغربية إصدار بيان مشترك لا يبدأ بإدانة هجوم حماس، وتغاضوا تمامًا عن الأعداد المهولة للضحايا للفلسطينيين، فقلوبهم وإنسانيتهم لا تتحرك إلا إذا كان القتلى إسرائيليون.
وحدة الجبهة الداخلية
هذه الأجواء شديدة التوتر التي لا يبدو أنها ستنتهي قريبًا، تستدعي من الحكومة والمعارضة معًا التصرف بمسؤولية لحماية الوطن ولدعم الشعب الفلسطيني، فلم يكن أحد بحاجة إلى استغلال أجواء الحرب والقلق الحالية من أجل حشد الدعم للرئيس، وطلب "تفويض" جديد له من أجل "حماية أرض مصر".
حماية أمن الوطن وسلامة أراضيه التزام دستوري ردده الرئيس في قَسَمه، ولا حاجة مطلقًا لإحياء تقليعة "التفويض"، كما أنه من غير المعقول أو المقبول أن تحدد الحكومة أماكن محددة للتظاهر، يتم فيها رفع شعارات التفويض ودعم فلسطين معًا، فيما يتعرض من يتمسك بالتظاهر في أماكن أخرى للملاحقة والقبض عليه.
اذا كانت الحكومة والأجهزة الأمنية المعنية تريد أجواء وحدة وطنية حقيقية، فالمبادرة في أيديهم، ليس بالضرورة عبر الانتخابات الرئاسية التي تراجع الاهتمام بها، ولكن أولًا عبر التسامح مع مظاهر التعبير عن الغضب الحقيقي الذي يشعر به كل المصريين إزاء ما نشاهده من قتل بدم بارد للفلسطينيين، وحرمانهم من الماء والغذاء والدواء والوقود، من دون القدرة على القيام بشيء حقيقي لوقف هذا الجنون.
ومن الممكن للنظام أيضًا المبادرة بإطلاق سراح أعداد كبيرة من السجناء السياسين المحبوسين احتياطيًا، أو من صدرت بحقهم أحكام في قضايا لا تتضمن التورط في أعمال عنف، ليشعر الجميع أننا بصدد توحيد الصفوف بالفعل.
هذه الوحدة لن تتحقق إذا اِستُغلِّت الحرب الحالية في غزة فقط لحشد الدعم للرئيس، بل ومطالبة البعض بإلغاء الانتخابات المقبلة من الأساس والاكتفاء بتفويض شعبي، وهي حتى وإن كانت مطالب غير جادة، فإنها تشبه ما نشاهده يتحقق عمليًا على الأرض الآن.