يبدو أن عجلة المفاوضات للتوصل إلى هدنة جديدة في قطاع غزة المنكوب بدأت في الدوران مجددًا، وإن ببطء يتماشى مع رغبة بنيامين نتنياهو في إطالة أمد الحرب لأطول فترة ممكنة، سعيًا خلف هدفه الوهمي بـ"تدمير" حركة حماس، عقابًا لها على هجوم السابع من أكتوبر الذي هزَّ المجتمع الإسرائيلي وحطَّم وهم الجيش الأقوى في الشرق الأوسط، والقادر دائمًا ليس فقط على توفير الأمن لمواطنيه، ولكن الأهم ردع "الأعداء" عن التفكير في مهاجمة دولة الاحتلال المعزولة المحاصرة.
العاملان الحاسمان في استمرار الحرب هما أولًا الدعم الداخلي من جمهورٍ إسرائيليٍّ كان منقسمًا بحدة عندما هبَّ طوفان الأقصى، على تعريفه لهوية الدولة، وهل هي دولة دينية متطرفة يحكمها غلاة اليمين أنصار تفوق العرق اليهودي أمثال إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، أم دولة مدنية ديمقراطية لمواطنيها المتنوعين.
أما العامل الثاني، فهو الدعم الأمريكي الصلب، الذي يوفر لإسرائيل الغطاء الدبلوماسي والحماية في المحافل الدولية مثل مجلس الأمن، وكذلك، والأهم، الدعم العسكري بالأسلحة والذخائر الذي لم يتوقف منذ ثلاثة أشهر بطريقة تشبه الجسر الجوي الذي أطلقته إدارة نيكسون في 1973 لإنقاذ الجيش الإسرائيلي من هزيمة مُذلة، دون العودة في بعض الأحيان إلى الكونجرس، ما أثار حفيظة أعضاء بارزين فيه.
حجم الخسائر البشرية الإسرائيلية الفادح منذ السابع أكتوبر، أدى لتراجعٍ حادٍ في مجرد قدرة ما كان يسمى بـ"معسكر السلام" في إسرائيل، على التحرك ولو لعقد مظاهرات صغيرة تدعو لوقف الحرب. فمثل هذا المطلب يرقى للخيانة الآن، في وقتٍ يخوض فيه الجيش الإسرائيلي حربه المدمرة في غزة. وكثيرًا ما تلقى نشطاء إسرائيليون مؤيدون للسلام مع الفلسطينيين رسائل تهديد متواصلة واضطروا للاجتماع في أماكن سرية.
مسلسل الخسائر والضغوط
ولكن بعد مرور ثلاثة أشهر على الحرب لا يزال مسلسل الخسائر البشرية الإسرائيلية مستمرًا. عشرات القتلى من الضباط والجنود، لا من المدنيين القاطنين في البلدات المحيطة بالقطاع، التي يستمر إخلاؤها من السكان إلى جانب مثيلاتها في الشمال على الحدود مع لبنان، ليصبح نحو 150 ألف إسرائيلي نازحين.
ومع استمرار مظاهرات أهالي المحتجزين الإسرائيليين في غزة، وهم لا يتلقون عن أحبائهم في غزة سوى الأنباء السيئة، منذ تجدد القتال بعد الهدنة القصيرة التي استمرت أسبوعًا حتى بداية الشهر الماضي، وتزايد التقارير عن الخلافات الداخلية فيما يعرف بـ"حكومة الحرب الإسرائيلية" في ضوء انعدام الثقة المتزايد في قدرة نتنياهو على مواصلة الحرب وتدهور شعبيته، تزيد توقعات اضطرار رئيس الوزراء المنكسر في النهاية للعودة إلى طاولة المفاوضات، والقبول بوقف إطلاق نار يسمح بعملية تبادل جديدة للمحتجزين والسجناء بين الطرفين.
لا يعبأ نتنياهو كثيرًا بالمظاهرات التي تجتاح العالم وتتهمه بارتكاب جرائم حرب في غزة، طالما أنه يحظى بالدعم الأمريكي، فهو أمر اعتادت عليه الدولة الصهيونية منذ نشأتها في 1948. ولكنَّ المشكلة أنَّ صبر الحليف الأمريكي بدأ ينفد.
موقع أكسيوس الأمريكي وصف آخر مكالمة جرت بين بايدن ونتنياهو قبل عدة أيام بأنها "كانت الأصعب والأكثر إحباطًا على الإطلاق" بين الرجلين، واستدلت باضطرار بايدن لإنهائها من طرفه قائلًا "هذه المحادثة انتهت"، على الطبيعة المتوترة التي باتت تغلف العلاقة بينهما.
لم يكن موضوع الخلاف يتعلق بإصرار الرئيس الأمريكي، مثلًا، على تحديد موعد نهائي لموقف إطلاق النار أو سحب جيش الاحتلال من غزة، ولكنه تعلق فقط بإصرار رئيس الوزراء الإسرائيلي على الاستمرار في وقف تحويل الأموال التي تُحصلها إسرائيل من الضرائب إلى السلطة الفلسطينية، بزعم أنها تقوم بتحويل جزء منها إلى حركة حماس.
وتراجع نتنياهو عن مقترح تقدم به إلى السلطة، ووافقت عليه، بتحويل الجزء المخصص لغزة إلى النرويج وسيطًا محايدًا للاحتفاظ به وديعة حتى انتهاء الحرب، بزعم أنه لم يعد يثق في النرويجيين، وإن كانت الحقيقة هي أنه خضع لضغوط وزير ماليته سموتريتش المتطرف، الذي تمسك بموقفه الرافض لتحويل أيِّ أموال للسلطة الفلسطينية منذ 7 أكتوبر.
حِرْصُ نتنياهو على استمرار التحالف وبقائه في منصبه، هو ما دفعه أيضًا إلى إلغاء اجتماع كان مقررًا لمناقشة "اليوم التالي" لحرب غزة، أيضًا بناء على تهديدات سموتريتش وبن غفير، ما أثار غضب عضو مجلس الحرب ومنافس نتنياهو السابق بيني جانتس وتهديده بالاستقالة. ولو استقال جانتس المقرب من واشنطن فسيكون ذلك إعلانَ النهاية لحكومة الوحدة الوطنية المزعومة، التي يفترض أن تضع أولوية حماية أمن إسرائيل قبل المصالح السياسية الضيقة للأحزاب الإسرائيلية ونتنياهو شخصيًا.
ستزيد شعبية النظام المصري كثيرًا لو صارح مواطنيه بحقيقة الأوضاع
تصريحات نتنياهو، التي تحظى بدعم غير معلن من إدارة بايدن، تفيد بأنه لا انسحاب كامل قريبًا من القطاع حتى لو وافق على وقف المرحلة المكثفة من القصف العشوائي، وستحتفظ إسرائيل بمناطق من القطاع تُمكِّنها من القيام بما يصفه القادة العسكريون الإسرائيليون والمسؤولون الأمريكيون بـ"عمليات جراحية" موجهة داخل قطاع غزة بناء على معلومات استخباراتية لاستهداف قادة حماس مثل يحيى السنوار وشقيقه محمد وكذلك محمد الضيف، الذين قد يُمثِّل قتل أيٍّ منهم "صورة النصر" التي يبحث عنها الإسرائيليون بمفهوم أفلام "رعاة البقر" الأمريكية.
هل يضحي نتنياهو بمصر؟
وفي هذا الصدد، لا يمانع نتنياهو في التصعيد مع مصر رغم أهمية ما بين النظامين من تنسيق، من خلال تصريحه الأخير بضرورة سيطرة إسرائيل على محور فيلادلفيا الحدودي بين مصر وقطاع غزة، في انتهاك خطير وصارخ لمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وكذلك التفاهمات التي رعاها الاتحاد الأوروبي في أعقاب انسحاب إسرائيل المنفرد من القطاع في 2005.
ويرفض نتنياهو كذلك كلَّ ما ورد في المبادرة المصرية الخاصة بتشكيل حكومة تكنوقراط في غزة أو أيِّ حكومة أخرى تتضمن السلطة الفلسطينية التي يقول إنه لا يثق بها.
كما أن حجم الدمار الهائل الذي لحق بغزة، ويفوق ما تعرضت له المغرب وليبيا معًا إثر الزلازل والأعاصير التي ضربت البلدين الشقيقين هذا العام، سيتطلب سنوات طويلة من جهود إعادة الإعمار وأموالًا طائلة قد لا توافق الأطراف المعنية على توفيرها إذا استمر الاحتلال الإسرائيلي للقطاع والعمليات العسكرية داخله، حتى وإن كانت بقدر أقل كثافة ووحشية.
فالتقارير تفيد بأنَّ 70% من مباني القطاع دُمِّرت، وتصل النسبة إلى 80% في شمال القطاع. ووفقًا لمنظمات الأمم المتحدة العاملة هناك، فإنَّ إزالة الركام فقط قد تتطلب عامًا على الأقل، بينما قُدِّرت التكاليف الأولية لإعادة الإعمار بثلاثة مليارات ونصف المليار دولار.
المشكلة الحقيقية أنه وإن توقفت الحرب غدًا بعد التوصل لهدنة مؤقتة، فإنَّ ذلك سيكون مجرد بداية مرحلة طويلة من عدم الاستقرار في المنطقة، ستؤثر على مصر بشكل مباشر، كونها الطرف الأقرب لغزة وصاحبة الحدود التي تمر عبرها معظم المساعدات الإنسانية القادمة من الخارج إلى القطاع. وفي هذا الصدد، ستزيد شعبية النظام المصري كثيرًا لو صارح مواطنيه بحقيقة الأوضاع، وما نُعدُّه من إجراءات للتعامل مع مرحلة عدم الاستقرار والاضطراب الطويلة المتوقعة هذه.