رغم فشل قمة الرياض العربية الإسلامية التي عُقدت نهاية العام الماضي في تحقيق مقصدها الأهم بـ"وقف المجازر الهمجية الوحشية التي ترتكبها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني"، دعت المملكة العربية السعودية إلى عقد قمة جديدة بعد أيام لـ"بحث استمرار العدوان الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية ولبنان".
كان لافتًا في البيان الختامي لقمة نوفمبر/تشرين الثاني 2023 بندٌ تحدث عن "فرض" إدخال المساعدات الإنسانية، "بشكل فوري"، إضافة إلى "حماية" طواقم المنظمات الدولية المشاركة في قوافل المساعدات، و"تمكينها" من القيام بدورها بشكل كامل، ودعم الأونروا.
وتبعه بندٌ آخر يؤكد على "دعم مصر فيما تتخذه من خطوات لمواجهة تبعات العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزة، وإسناد جهودها لإدخال المساعدات إلى القطاع بشكل فوري ومستدام وكاف".
انفضَّت القمة، ولم تتمكن الأنظمة العربية والإسلامية من "فرض" أي إجراءات عملية تواجه الحصار الذي فرضته إسرائيل تحت رعاية أمريكية وغربية، فلم تدخل شاحنات الغذاء والدواء إلى القطاع، وبطبيعة الحال لم "تُمكَّن" أطقم المنظمات الدولية من العبور إلى القطاع لأنها ببساطة لن تجد من يوفر لها "الحماية".
الأدهى، أن دولة الاحتلال حوَّلت "التجويع الممنهج" إلى سلاح لمعاقبة أهل غزة العُزل على تمسكهم بأراضيهم ومقاومتهم لخطط التهجير، ولإجبار فصائل المقاومة على الاستسلام ورفع الراية البيضاء، وذلك كله تحت مرأى ومسمع أصحاب الفخامة والسيادة والمعالي.
عندما اجتمع القادة العام الماضي، كان عدد شهداء غزة 11 ألف فلسطيني فضلًا عن نحو 27 ألف مصاب. وعندها، لم يفلح هؤلاء القادة في جعل الولايات المتحدة وحلفائها يتوقفون عن الدعم العسكري والمالي والسياسي لدولة الاحتلال.
كما لم يجرؤ المطبعون منهم على التلويح حتى بورقة قطع العلاقات الدبلوماسية، باستثناء الأردن الذي سحب سفيره من تل أبيب. وما يحزن ويدمي القلوب أن بعض تلك الدول تسمح بمرور سفن الاحتلال وشركائه في ممراتها المائية متحججة بالتزاماتها الدولية، وبعضها الآخر يزوِّد الكيان بالوقود، وما يثير الدهشة والغضب معًا ارتفاع حجم التبادل التجاري بين الدول المطبعة وإسرائيل خلال النصف الأول من هذا العام، الذي تصاعدت فيه المجازر ضد الفلسطينيين واللبنانيين حتى بلغ عدد الشهداء نحو 50 ألفًا فضلًا عن ضِعف هذا الرقم من الجرحى والمصابين.
مع كل هذا الإخفاق والفشل الذي أحاط بقمة نوفمبر الماضي، يرتب القادة أوراقهم الآن لعقد قمة جديدة بالرياض الأسبوع المقبل لـ"متابعة واستكمال الجهود المبذولة".
متابعة الجهود التي أخفقت
لم يرتكب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تلك الجرائم في فلسطين ولبنان إلا بعد أن اطمأن إلى أن القادة العرب والمسلمين لن يحركوا ساكنًا، ولن يجرؤوا على تنفيذ ما جاء في بيانهم من قرارات، اللهم ما يتعلق منها بتحركات سياسية ودبلوماسية لا تطرف له عينًا ولا "تفرض" عليه شيئًا بخصوص وقف الحرب أو إيصال المساعدات الإنسانية لضحاياه.
بعد أن انكشفت المخططات الإسرائيلية لكل ذي عين فهل يبادر العرب قبل أن تحرق النار بلادهم؟
كان نتنياهو وهو يوجه رسالته التي طالب فيها القادة العرب بـ"الصمت"، على علمٍ بمواقف هؤلاء القادة الحقيقية، فهناك شبه إجماع بينهم على "ضرورة منح إسرائيل الوقت حتى تتمكن من القضاء على حماس"، حسبما ذكر الكاتب الصحفي الأمريكي بوب وودورد في كتابه حرب، الذي صدر قبل أسابيع.
بغض النظر عن صحة ما أورده الكاتب الأمريكي لما جرى في 7 أكتوبر، فكل الشواهد أثبتت أن معظم القادة العرب كانوا راغبين في أن تتخلص إسرائيل من فصائل المقاومة التي تتلقى دعمًا إيرانيًا، فانتصار المقاومة، سواء في فلسطين أو لبنان في تلك المعركة، ليس من شأنه فقط تغيير توازنات القوى إقليميًا مع إسرائيل، بل قد يؤثر على بقاء أنظمتهم التي تناصب المقاومة ومحورها العداء.
لم يصدر بيان القمة السابقة إلا ذرًا للرماد في العيون، وحتى يجد القادة ما يقدمونه إلى شعوبهم التي هالها العدوان الدموي على الشعب الفلسطيني مثلما هالها أيضًا صمت وخذلان أنظمتهم.
والآن وبعد أكثر من سنة على العدوان، أدرك العرب، عاجزُهم ومتآمرُهم، أن شهوة إسرائيل لا تقتصر على التخلص من المقاومة ومحورها. فهي، وفقًا لما صرح به نتنياهو وعدد من أقطاب ائتلافه الحاكم، يسعون إلى السيطرة والهيمنة أيضًا على هؤلاء الذين شجعوها أو تغاضوا عما تقوم به في فلسطين ثم لبنان، لتحويلهم إلى أدوات تخدم مشروعها الصهيوني.
قبل نحو ستة عقود، وبعد أقل من شهرين على "النكسة الحقيقية"، لا تلك التي تحدث عنها الرئيس عبد الفتاح السيسي قبل أيام، انعقدت في العاصمة السودانية الخرطوم القمة العربية الرابعة لبحث ما يمكن أن يقوم به العرب لمواجهة آثار الهزيمة، وتحرير الأرض التي احتلتها إسرائيل في حرب 1967.
دفعت ظروف الهزيمة قمة اللاءات الثلاث؛ لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف بإسرائيل، إلى تبني قرارات "حازمة" واعتبار أن "إزالة آثار العدوان من الأراضي العربية هي مسؤولية جميع الدول العربية وتحتم تعبئة الطاقات العربية".
وكان من أهم مقررات تلك القمة تصفية الخلافات العربية العربية، والالتزام بميثاق التضامن الصادر في قمة الدار البيضاء، بما يضمن "تحرير الأراضي العربية التي يقع أمر استردادها على الدول العربية جمعاء".
وفي سبيل ذلك توافقت الدول العربية على تحويل النفط العربي إلى سلاح في المعركة، سواء بضخه وتوجيه عائداته لدعم اقتصادات الدول المتأثرة بالعدوان، أو بوقف هذا الضخ لو اقتضت الحاجة. وأقرَّ المؤتمرون وجوب اتخاذ الخطوات اللازمة لدعم الإعداد العسكري لمواجهة كل الاحتمالات، كما أقروا سرعة تصفية القواعد الأجنبية الموجودة في أي دولة عربية.
كان من الآثار المباشرة والسريعة لتلك القمة الصلح بين أكبر زعيمين عربيين حينها؛ الرئيس جمال عبد الناصر والعاهل السعودي فيصل بن عبد العزيز، في وقتٍ كانت الخلافات فيه بين البلدين تصاعدت إلى حدِّ المواجهة العسكرية غير المباشرة في اليمن.
دفعت الهزيمة زعماء الدول العربية إلى طي خلافاتهم وتنسيق جهودهم وتكريس موارد دولهم لتحويل النكسة إلى انتصار يستردون به كرامتهم التي أهدرت في ستة أيام، بعد إدراكهم أنهم لن يتمكنوا من إزالة آثار العدوان ومواجهة المخطط الصهيوني وهم مختلفون متصارعون مفككون كما أراد لهم الاستعمار ومشروعه المتقدم في المنطقة.
كان التضامن العربي أحد أهم العوامل التي قادت إلى نصر أكتوبر 1973، فكل دولة في المنطقة كان لها دور فيما تحقق.
حدُّ النجاة من القاع
مرَّ على تلك القمة ستة عقود، أصيب خلالها البنيان العربي بشروخ عميقة ضربت حتى أساساته؛ من كامب ديفيد إلى احتلال العراق للكويت وإقامة قواعد عسكرية أمريكية في دول المنطقة ثم سقوط العراق الذي كان يُعدُّ بوابة الأمن القومي العربية الشرقية، وصولًا إلى تفكيك عدد من دول المنطقة كأثر غير مباشر لموجة الربيع العربي، حتى وصلنا إلى القاع الذي دفعت فيه الولايات المتحدة دولًا لم تكن يومًا على خط المواجهة مع دولة الاحتلال إلى إقامة علاقات طبيعية معها بلا مقابل.
في هذه الأجواء شنَّت فصائلُ المقاومة الفلسطينية التي لجأت إلى الدعم الإيراني بعد يأسها من العرب طوفانَ الأقصى، لترد إسرائيل بأسوأ عدوان على قطاع غزة والضفة الغربية ثم لبنان.
والآن، وبعد أن انكشفت المخططات الإسرائيلية لكل ذي عين، فهل يبادر العرب باتخاذ إجراءات ملموسة قبل أن تصل النار إلى بلادهم أو أن يُفرض عليهم أن يكونوا أدوات وقواعد لحماية دولة إسرائيل؟
الحد الأدنى لما يجب أن يتبنَّاه القادة في قمة "المتابعة" التي سيعقدونها الأسبوع المقبل هو القرارات التي صدرت عن اجتماع مجلس جامعة الدول العربية على مستوى المندوبين الخميس الماضي، لا سيما البند الخاص باتخاذ الخطوات اللازمة لتجميد عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة. لكن عليهم قبلها سحب اعترافهم بها وإيقاف تعاملاتهم التجارية والسياسية معها. فكيف لدول تقيم علاقات طبيعية مع دولة ما، أن تطالب بتجميد عضويتها الأممية.