غابت عن الإعلام عامين؛ فضّلت الصمت رغم ما تثيره من جدل دائم في الأوساط السياسية، لكن جميلة إسماعيل، رئيسة حزب الدستور، اختارت العودة من جديد عبر المنصة لتكسر صمتها بحوارٍ في وقت حرج يواجه فيه حزبها خطر التجميد.
تعيد جميلة التأكيد على فلسفتها في العمل العام وتوضح خلال الحوار طريقتها في إدارة الحزب، وتشرح أسباب الخلافات الداخلية بين أعضائه، وهي صراعات وخلافات لم تغادره يومًا منذ أسسه محمد البرادعي قبل 12 عامًا.
الحزب الذي انتخب أول امرأة في مقعد الرئيس، وجمع أطياف يناير ما بين اليسار والليبراليين بل وبعض الإسلاميين؛ تخوض رئيسته الحالية معركة بقاء للحفاظ على استمراره، وتحقيق شعار "التئام - بناء - تجديد" الذي رفعته يوم انتخابها في يوليو/تموز 2022.
فخ الحوار
تعتبر جميلة المعروفة بغيابها عن الإعلام أنها وقعت في "فخ الحوار مع المنصة"، وتفسر أسباب الغياب "كنت قليلة الظهور، عارفة إنه كان مزعج للبعض، ومحبط لآخرين، كان عكس توقع الزملاء الإعلاميين وحتى أقرب الدوائر ممن تصوروا إن رصيدى كشخصيّة معروفة وإعلامية سابقة يجعلني حاضرة يوميًا فى الإعلام".
ابتعدت جميلة عن الإعلام بقرارٍ واعٍ "لاحظت أن أول ظهور لي بعد غياب عدة سنوات أثار حساسيات ومشاكل كبيرة، سواء بمداخلة صوت أو لقاء تليفزيوني أو تقرير".
قبل عامين أجرت جميلة مداخلة تليفونية مع الإعلامي يوسف الحسيني في برنامج التاسعة مساءً على القناة الأولى، انتقدت فيها التضييق على الأحزاب وإدارة الحكومة للأزمة الاقتصادية، ورد عليها الرئيس عبد الفتاح السيسي بمداخلة هاتفية تجاوزت مدتها ساعة وربع الساعة.
نتج عن مداخلة الرئيس الذي اعترض على كلام جميلة حذف الجزء الذي تحدثت خلاله من حلقة البرنامج المرفوعة على يوتيوب، "في فترة سابقة كان من الممكن أن تكون هذه هي منتهى الشجاعة، وأكتفي بعدها بموجات الإعجاب على السوشيال ميديا"، على حد قولها.
لكنها اختارت طريقًا آخر تعتبره "شجاعة جديدة أقل جاذبية ولا تلفت النظر أو تزيد المعجبين، اخترت مواجهة التحدي بمحاولة جماعية لبناء حزب سياسي حديث قادر على الاستمرار في ظل كل الظروف".
الحزب في خطر
لكن الحزب يواجه خطر "التجميد"، بعد صدور قرار لجنة الأحزاب السياسية في 10 سبتمبر/أيلول الماضي بإعلان خلو مقعد الرئيس ودعوة الحزب لإجراء انتخابات لاختيار رئيس جديد.
تنبه جميلة إلى أن خطورة القرار تكمن في أنه يعيد حزب الدستور مرة أخرى إلى لائحة 2012 و"المؤتمر العام"، رغم أن اللائحة التي جرت بموجبها الانتخابات التي انتهت بفوز جميلة وحصولها على خطاب الصفة الحزبية من لجنة الأحزاب السياسية أقرها الحزب في 2018 وأودع نسخة منها لدى لجنة الأحزاب السياسية.
"القرار يعيدنا إلى عهد الدكتور محمد البرادعي، ولائحة 2012 التي لم تعد سارية، والمؤتمر العام لم يعد له وجود وحلت مكانه الجمعية العمومية. والتغيير ليس في مسمى المؤتمر فقط بل في مكوناته وآلية الانتخاب"، توضح جميلة أن لائحة 2012 تنظم إجراء الانتخابات من خلال المؤتمر العام للحزب الذي يضم ممثلين عن الأعضاء في المحافظات، لكن لائحة 2018 أقرت الانتخاب المباشر بتصويت الجمعية العمومية التي تضم جميع الأعضاء.
لجنة شؤون الأحزاب ترفض اعتماد قرارات حزب الدستور منذ عام
يبدو أن القرار سبقته تغييرات في تعاطي لجنة الأحزاب مع حزب الدستور، من بينها، وفق جميلة، تعطيل اعتماد عدد من الإخطارات التي تقدم بها، ومنها قرارات الجمعية العمومية التي انعقدت في أكتوبر/تشرين الأول 2023، وانتهت لعدم المشاركة في الانتخابات الرئاسية، وانتخاب بعض أمناء اللجان وفتح حساب بنكي جديد للحزب.
حاولت جميلة الاستفسار عن القرارات المعطلة من خلال التوجه للجنة، لكن "قيل لي إن القرارات غير مطابقة للائحة، واللائحة ليس بها جمعية عمومية". دعت رئيسة الحزب الأمين العام للجنة لفحص اللائحة، لكنها فوجئت "طلع لي لائحة 2012 وليس لائحة 2018". طالبت بإحضار ملف الحزب وفحص اللائحة فقالوا "لم نجد سوى لائحة 2012".
تشير جميلة إلى أن الحزب سبق وتقدم بلائحة 2018 ثلاث مرات، منها مرتان قبل انتخابها رئيسة للحزب ومرة بعد انتخابها، "كما عقدنا سبع جلسات مع المستشار أحمد الريدي الأمين العام السابق للجنة وناقشنا اللائحة وإجراءات الانتخابات قبل إعطائنا الصفة الحزبية".
تعطيل الحزب إداريًا لمنعه من المشاركة في الانتخابات البرلمانية المقبلة وارد
لم تفلح محاولات جميلة "طلبوا مني إعادة إيداع اللائحة وتقدمنا بإخطار جديد". لم تلجأ رئيسة الحزب للتصعيد حينها "كان هدفي نحل المشكلة"، لكنها فوجئت بصدور قرار اللجنة بخلو مقعد رئيس الحزب والعودة للمؤتمر العام وفقًا للائحة 2012.
وأمام التناقض ما بين اعتماد صفة جميلة الحزبية في 2022، وإعلان خلو المقعد "ذهب الأمين العام للحزب وأمين الصندوق والمستشار القانوني للقاء أمين عام لجنة الأحزاب، وقال لهم إن ما حدث خطأ ارتكبته اللجنة ويجري تصحيحه".
تستبعد جميلة تأثير الخلافات الداخلية التي يمر بها الحزب على قرار اللجنة "القرار لم يشر إلى وجود أزمات"، وتوضح أن القرار تضمن حفظ قرارات صدرت عن المجموعة التي تعلن قرارات باسم الهيئة العليا للحزب "تم حفظها لأنها قُدمت من غير ذي صفة".
تشدد جميلة على أن معركة حزب الدستور الحالية مع لجنة الأحزاب السياسية وقرارها "المعيب" لم تنته، مؤكدة المضي قدمًا في المسار القضائي للطعن على قرار اللجنة، والتمسك بحق الجمعية العمومية في تقرير مصير الحزب.
هندسة المشهد الانتخابي
لا ترى جميلة تشابهًا بين تجربة حزب الغد التي انتهت بانقسام ووجود كيانين مختلفين، والوضع الحالي في حزب الدستور "على الأقل حتى الآن". وتعتبر أن ما يجري هو "محاولة بائسة لاستعادة لجنة الأحزاب للدور الذي كانت تلعبه قبل الثورة، وإنهاء مكتسبات أعطاها الدستور في 2014 للأحزاب باعتبار اللجنة ليست جهة إدارة لكنها جهة إخطار".
محاولة السيطرة على حزب الدستور مجرد بداية لهندسة المشهد السياسي بأكمله
"صراعنا الأساسي يبدأ مع ما يترتب على قرار لجنة الأحزاب ومع النتيجة"، مشيرة إلى المخاوف من حل الحزب وعرقلة محاولات تنظيمه ومسيرته، ووجوده كلاعب فاعل في الانتخابات التشريعية المقبلة، مؤكدة وجود كوادر في الحزب قادرة على لعب أدوار في الانتخابات المقبلة.
"استبعاد حزب الدستور، لو لم يكن مجرد خطأ إداري أو توجيه لإدارة الأحزاب من خارجها، سيكون البداية في هندسة المشهد السياسي بإحكام استعدادًا للانتخابات القادمة، والبداية تكون بالأحزاب التي اكتسبت صفة ولها حقوق بقوة القانون والدستور".
وهنا تلفت جميلة إلى أن "ملف حزب الدستور الأول لكنه ليس الأخير"، توضح "بلغني فتح لجنة الأحزاب السياسية ملفات كل الأحزاب بما فيها القريبة والموالية، وإعادة النظر في ملفاتها".
كانت الحركة المدنية الديمقراطية، ومن بين مكوناتها حزب الدستور، بدأت العمل على الإعداد للانتخابات البرلمانية، وعقدت لقاءً حضره ممثلون عن التيار المدني من الشباب وجيل الوسط من المنتمين لثورة يناير.
سلطوية أم التزام بالمسارات المؤسسية؟
في ظل الصراع القانوني أمام لجنة الأحزاب، تواجه جميلة خلافات داخلية، ورغم اتهامها من قبل المجموعة المعارضة لها بالإدارة المنفردة للحزب، توضح أنها لم تكن طرفًا في الخلافات، "التصعيد بدأ بواقعة اعتداء على اثنتين من نساء الحزب أثناء قيامهما بعملهما في لجنة الانتخابات القاعدية في أكتوبر الماضي. تقدمتا بشكوى لهيئات التحقيق المنتخبة والمعتمدة من الجمعية العمومية التي استدعت زملاءً للتحقيق في الواقعة".
تشير إلى أن أعضاء الحزب المتهمين في الواقعة رفضوا المثول للتحقيق، وقرر آخرون الانضمام لهم ودعمهم والإطاحة بقواعد المحاسبة وبالهيئات المنتخبة، وطلبوا طرح الثقة في هيئة التحكيم باعتبار "أننا أبناء يناير وأصحاب مواقع بالانتخاب ولا يجوز التحقيق معنا"، حسب جميلة.
تدافع جميلة عن إدارتها للحزب مشيرة إلى التزامها بالرجوع للهيئات المنتخبة، سواء بقرار المشاركة في الانتخابات الرئاسية أو الانضمام للتيار الحر، الذي صدر بالإجماع من الهيئة العليا باستثناء عضو واحد، وكذلك قرار الانسحاب من كليهما كان أيضًا بالأغلبية. تقول "احترمت القرار رغم أنه جاء عكس رؤيتي"، متسائلة "أين الانفراد بالقرار؟".
تخللت محاولة جميلة الترشح للانتخابات الرئاسية مواقف درامية، ما بين موافقة الهيئة العليا للحزب على خوضها الانتخابات، وتجربة جمع التوكيلات الشعبية والتضييق عليها، ثم توجهها لمجلس النواب لانتزاع الحق في لقاء النواب والنائبات والحصول على تزكياتهم، حتى صدور قرار الجمعية العمومية لحزب الدستور برفض المشاركة في الانتخابات، وإعلانها المثول للقرار.
"قيل الكثير وترددت أساطير مش بس إنها محاولة غير جادة، بل وصل الخيال عند البعض إلى أنني جلست واتفقت مع رئيس أحد الأجهزة لخوض الانتخابات، وأني لم أكن قادرة على التراجع ولا أملك من نفسي شيء، وأن التزكيات البرلمانية كانت في حقيبتي" تستنكر جميلة الاتهامات التي توجهها لها المجموعة المعارضة في الحزب بشأن فردية القرار.
ولكن تتخذ جميلة من تتابع تلك الأحداث دليلًا على جدية محاولتها خوض الانتخابات ثم التزامها بالقرارات المؤسسية، "تجربة حقيقية وخطوة مهمة من وجهة نظري في طريق ممنوع على المرأة، حق لا يقترب منه أصحابه، ودي في الحسابات السياسية نقلة في وعي كتلة مهمشة من المجتمع يفتح أمامها باب المشاركة".
في الوقت الذي تعتبر فيه رئيسة حزب الدستور هذه الخطوة "نوعًا من الشجاعة"، تجدها "تحتاج إلى تبرير لأنها مش منافسة عادية في أجواء عادية، لأنها فيما يظن الناس انتخابات معروف نتيجتها، فكنا نحاول فى هذه المعركة بناء موقف سياسي".
في النهاية، التزمت جميلة بقرار الجمعية العمومية، وقطعت مشوار استكمال تحرير التوكيلات أو جمع التزكيات وفقًا لإرادة الأغلبية في الحزب.
امرأة على رأس حزب
كان وجود امرأة على رأس حزب سياسي أمرًا محظورًا وتابو كسره حزب الدستور بانتخاب هالة شكر الله رئيسة للحزب في 2014، لكنها تقدمت باستقالة نهائية بعد نحو عام لفشلها في احتواء الصراعات الداخلية.
بينما ما زالت جميلة تواجه معاركها وإحباطاتها "أفخر بكوني مازلت قادرة وأنا فى عرض بحر السياسة على التعلم بمعناه القادر على الاكتشاف والنقد والتفاعل مع الواقع والأفكار الجديدة".
تعتقد أن التجربة لم تنته بعد حتى يمكن تقييمها، لكنها قد تخصص فصلًا عنها في كتابها الذي أجلت نشره عدة مرات، وتروي من خلاله تجربتها مع العمل السياسي.
مع حديث جميلة عن الخلافات الحزبية التي تخللها ما وصفته باعتداء على نساء، أوضحت أنها تعمل على "مدونة سلوك، فعبر 12 سنة لم يتمكن الحزب من وضع لائحة بدون ثغرات". تسعى جميلة لوضع أسس "لحزب تشارك فيه النساء ما يمشوش منه".
ما بين معركتها مع لجنة الأحزاب السياسية، ومحاولات تأسيس قواعد حزبية تراعي مشاركة النساء، والاتهامات الموجهة لها بالفردية والاستبداد باتخاذ القرار ، تستكمل جميلة مسارها، ويظل أكثر ما يزعجها "الفشل".
"أخشى لو تحملت مسؤولية وفشلت فيها" تقول بينما تشير إلى تحملها هذه المسؤولية عن "وعي"، مضيفة "ترأست الحزب واخترت هذا التوقيت وأنا أعي الظرف السياسي وطبيعته".
مسارات المستقبل
لا تجد جميلة حلًا للحفاظ على الوضع القانوني للحزب سوى الاستمرار في المسار القضائي لحسم الموقف أمام الجهات الرسمية. كانت محكمة القضاء الإداري نظرت في جلسة السبت 12 أكتوبر الحالي الطعن المقدم من جميلة وأحالته لهيئة المفوضين.
ورغم المخاوف بشأن مستقبل الحزب، تشير إلى استكمال مسار البناء من خلال العمل على مشروع لائحة جديدة والاستعداد للانتخابات "ربما يكون ما نمر به حاليًا فرصة لشرح قضيتنا وفرصة لتماسك الحزب والعودة والتضامن بالدفاع عن السياسة والديمقراطية. والعمل أكثر على تقوية ثقافة الاختلاف وإدارته واحترام البناء الديمقراطي".
تركز رئيسة حزب الدستور على ضرورة استغلال مساحة الحركة المتاحة "كيف نستغل هذه المساحة، هذا هو الأصل في العمل في بلد تخوض مشوارًا صعبًا فى عملية التحول الديمقراطي"، تستهدف الانتقال من مرحلة الاحتجاج لمرحلة التنظيم السياسي "هذا هو الأخطر، ويتعمل له حساب. فالسلطة عبر العصور توافق على الاحتجاح ولكنها لا توافق على التنظيم".
تخوض جميلة صراعًا قضائيًا مع لجنة الأحزاب السياسية، في معركة بقاء الحزب ومقاومة الفشل، وعينها على شعارها "التئام.. بناء.. تجديد".