تصميم: أحمد بلال- المنصة

القومية المصرية في نسختها المنحطة

منشور الأحد 6 أكتوبر 2024

"علا النخبه المصريه ان تختار بين الدوله الوطنيه الحديثه يعني الجمهوريه المصريه، او دولة الخلافه تحت مسميات 'القومية العربية' او' الأمه الاسلاميه .....الاتنين مع بعض ماينفعش".

هكذا كتب أحد "مثقفي" القومية المصرية المعاصرة على فيسبوك تعقيبًا على اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله. أعجب هذا الكلام 17 شخصًا بعضهم من "مثقفي" النخبة المصرية الآخرين.

بغض النظر عن الأخطاء الإملائية المتعمدة التي يعتبرها كاتبها تأكيدًا على هويته المصرية من خلال استخدام العامية الدارجة في الكتابة وتجاهل قواعد الإملاء العربية، فإن البوست من حيث توقيته ومقدار التفاعل معه ومفرداته يعبر بشكل كبير عن خطاب القومية المصرية في طور الانحطاط.

وما أقصده بالقومية المصرية هنا هو محاولات إنتاج خطاب سياسي يدور حول استدعاء تراث الوطنية المصرية السابق على 23 يوليو، الذي تكوَّن بالأساس في مواجهة الاستعمار البريطاني والامتيازات الأجنبية، ورفع شعارات من نوعية مصر للمصريين أو "مصر أم الدنيا"، وربط بناء الدولة الحديثة بتشكُّل هويةِ شعبٍ مصريٍّ ترتبط جذوره التاريخية الممتدة بالمصريين القدماء. 

تحجيم الإسلاميين

يمكن لنا ملاحظة أن القومية المصرية في نسختها المعاصرة هي ابنة انهيار المسار السياسي التالي على ثورة يناير، التي شهدت بعثًا للانتماء الوطني المصري باسم سيادة الشعب والحرية والكرامة، وهو ما جرى توظيفه ضد محاولات الإسلاميين الهيمنة على مسار ما بعد الثورة، وبلغ أوجه في حراك 2013 ضد حكم الإخوان.

لا يعني هذا أن النسخة الحالية من القومية المصرية بما في ذلك الفرعونية والكيميتية هي امتداد مباشر أيديولوجي أو حتى فكري بوجه عام للقومية المصرية التاريخية؛ لأن الأولى كانت قبل كل شيء مناهضة للاستعمار بينما ما نراه حاليًا هي نسخة متصالحة معه بل ومعجبة به ومروجة له أحيانًا.

يضاف إلى هذا بالطبع أن القومية المصرية لم تسائل قط حضور الإسلام في تعريف الهوية المصرية المعاصرة إلى درجة أن ضمن التعبيرات الأولى للقومية المصرية كانت بذور الإسلام السياسي نفسه ممثلة في مصطفى كامل باشا والحزب الوطني القديم، وحتى الوفد فلم يحمل مشروعًا علمانيًا بل مشروع دستوري يعلي من مواطنة تقوم على "احتضان الهلال للصليب". 

ويختلف ذلك تمامًا عن الإحالات القومية المصرية في خطاب الدولة الرسمي، الذي لا يزال يحمل ذلك المزيج بين الحضارة المصرية القديمة والإسلام والعروبة والتأكيد على الوحدة الوطنية بين عنصري الأمة، ما يجعله في مرمى انتقادات كثيرين من "مثقفي" القومية المصرية المعاصرة.

إن من أكثر ما يميز محاولات الإحياء القومي المصرية المعاصرة، هو استدعاؤها في مواجهة مكونات أخرى في الهوية المصرية المعاصرة، خاصة الإسلام والعروبة، وبالتالي يمكن فهم البناء على تراث الوطنية المصرية كمشروع سياسي علماني يأمل أن يصبح جماهيريًا في يوم ما. وهو أمر مفهوم تمامًا في ضوء ما فعلته قوى الإسلام السياسي في تجارب الانتقال السياسي بعد ثورات 2011.

وينقلني هذا إلى اعتبار هذه المحاولات معبرة بصدق عن القومية المصرية في طور انحطاطها، وهو تعبير لا أقصد به حكمًا أخلاقيًا أستدعي به معايير قيمية لمحتوى الخطاب، رغم أنه أزعج الكثيرين في الآونة الأخيرة، مع تضمنه أشكالًا من العنصرية الفجة، سواء بالتحريض ضد المهاجرين واللاجئين أو بادعاءات التفوق الجيني للأصل المصري "الفرعوني" على باقي سكان المنطقة من العرب والأفارقة.

نخبة مأزومة 

ما يهمني في هذا المقال هو معاينة القومية المصرية المستحدثة التي نلحظها في بعض الخطابات هنا وهناك، بمعاييرها هي نفسها كمحاولة لإطلاق مشروع سياسي أو على الأقل لتشكيل الأرضية الثقافية لخطاب يصلح أن يتطور فيما بعد إلى مشروع سياسي، يحمل تصورًا ما للمجتمع وهويته وتنظيمه. خاصة وأن القومية المصرية المعاصرة تحمل رسالة علمانية واضحة، كما من المفترض أن تحمل تصورًا للدولة باعتبارها السلطة العامة والتجسد المؤسسي للشعب المصري.

 

تبلغ القومية المصرية المعاصرة قاع الانحطاط بإنتاجها خطابًا مناهضًا لغالب المصريين أنفسهم

لا أتحدث هنا عن نخبوية الخطاب، إذ إن كثيرًا من المشروعات السياسية ذات الأصول الفكرية تعاني من النخبوية باعتبارها عدم القدرة على تحقيق التواصل الفعال مع الجمهور. لكن المشروع السياسي في العصر الحديث يظل يدور حول تحديد مفهوم ما للشعب، وبالتالي فإن مكونًا رئيسيًا من كونه سياسيًا، يتعلق بتخيل شكل الخطاب الموجه للجمهور.

وفي تاريخ مصر ما قبل 1952، حين كانت التعددية السياسية حاضرة على المستويين الأيديولوجي والتنظيمي، كانت مشروعات مثل الليبرالية كما حملها الأحرار الدستوريون على سبيل المثال نخبوية، وطالما عجزت عن الوصول لجمهور واسع من المصريين. تكرَّر الأمر نفسه مع الحركة الشيوعية بل ومع محاولات الفاشية المحلية مثل مصر الفتاة، حيث فشلت جميعها في التحقق على الصعيد الجماهيري، خاصة إذا ما قورنت بسطوة حزب الوفد ثم صعود الإخوان المسلمين.

ورغم أوجه القصور تلك، فإن تلك المشروعات جميعًا ظلت تدور حول تخيِّلٍ ما للجمهور الذي تخاطبه وتستهدفه، وحتى أكثر تلك المشروعات نخبوية كالأحرار الدستوريين في عشرينيات القرن الماضي أنتجت تفاعلات سياسية وثقافية مهمة ومتنوعة للغاية، بدءًا من الفقه الدستوري لـ عبد العزيز فهمي، إلى الدفاع عن قضايا حرية الفكر والبحث العلمي التي واجهت أناسًا مثل علي عبد الرازق وطه حسين، أو حتى في الاتجاه الآخر كقيادة محمد حسين هيكل لأولى الحملات ضد التبشير المسيحي باعتباره ذراعًا استعمارية بريطانية، وهو المجهود الذي تُوج بكتابه حياة محمد كإعادة قراءة عقلانية للسيرة النبوية.

غياب المشروع السياسي

ما يشوب الخطاب القومي المصري المعاصر ليس فحسب نخبويته رغم أن نخبته تعاني من تواضع شديد في مستويات التعليم، والثقافة جراء تدهور التعليم في عهد مبارك الطويل، إنما كونه معاديًا للجمهور الذي من المفترض أنه يخاطبه. 

يتجلى عداء خطاب القومية المصرية المعاصرة لجمهوره أو للجمهور المصري عامة في عدة نواحٍ منها سرعة انحداره ليصبح خطابًا طائفيًا مناهضًا للإسلام، مُطعمًا في هذا ببعض الإحالات العنصرية لنقاء الأصل "الفرعوني"، والتصدي للغزو العربي، و"كنا بخير حتى استعربونا"، وهو في هذا يتماهى في غالبية مفرداته مع الخطابات اليمينية الأوروبية المناهضة للإسلام والمهاجرين المسلمين.

يعكس الخطاب القومي المصري المعاصر عداءه للجمهور المصري نفسه ليس فحسب من خلال تجاهل القضية الفلسطينية، باعتبارها تجليًا للمكونات العربية والإسلامية التي يسعى لاجتثاثها في إطار إعادة تأسيسه للهوية المصرية الحديثة، بل من خلال التماهي مع الخطاب الصهيوني نفسه ليصدر خطابًا معاديًا للفلسطينيين وللعرب والمسلمين عامة، باعتبارهم جنسًا أدنى أو ثقافة تحمل التخلف المزمن.

وهنا تبلغ القومية المصرية المعاصرة قاع الانحطاط مرة أخرى بإنتاجها خطابًا مناهضًا لغالب المصريين أنفسهم، وهو ما يشير كذلك إلى تفاهتها لأنها لا تعدو أن تكون انبعاثات أو إفرازات تطفو في المجال العام الافتراضي من وقت لآخر لتعبر عن نزعات أو رغبات تحمل بعض ملامح العُصاب في بعض الأحيان لدى بعض أعضاء "النخبة" المصرية.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.