تشيع في الفضاءات الافتراضية هذه الأيام، وبالتزامن، خطابات معادية للعروبة، تدعو لإحياء وتمجيد الهويات التاريخية السابقة على ظهور الإسلام وانطلاق مسار التعريب، تنبثق من حسابات الكيميتيين المصريين والكوشيين السودانيين والفينيقيين في المشرق، وغيرها من الحسابات التي تضج بها السوشيال ميديا.
لا مشكلة في ذلك على الإطلاق، فمن الطبيعي والصحي وجود وحضور تيارات ثقافية وسياسية مختلفة ومتنوعة، وإن كانت رجعية وماضوية ومعادية للحريات، أو حملت عملية ترويجها وتسييدها بصمات أمنية ممنهجة أو أموال إماراتية إسرائيلية. ففي التحليل الأخير؛ لن ينتشر أي خطاب أو شعار إلا إذا كان معبرًا عن حاجات موجودة بالفعل لدى قطاعات معينة في المجتمع تسعى إلى تلبيتها، فيشتبك مع ما يتماس ويتقاطع مع تصوراتها عن ذواتها الفردية والجمعية.
صدى هذه الخطابات يجد قبولًا لا بأس به عند قطاع من الأقليات الدينية والعرقية في المنطقة، وهي تشعر بتهديدات وجودية لها ما يبررها. كما يلقى آذانًا صاغيةً عند الذين يربطون النزعات العروبية بالإسلام السياسي باعتبارها نتيجة لسبب. ولا يمكن بأي حال تناسي المشاهد الداعشية التي وسمت الطور الأخير للإسلام السياسي في المشرق العربي، ولا يمكن القفز عليها وعلى أثرها الشديد على وعي وخيال الكثيرين، فقد تجسدت وتجلت مستويات غير مسبوقة من العنف العبثي العدمي.
أنتج العبث العدمي الداعشي نسخًا مختلفة من ردود الفعل النفسية والذهنية، ومعها ثغرات نفذت منها خطابات معادية للعروبة والتقدم معًا، تتناص فيها عبادة الماضي والدولة وأجهزتها مع كراهية العروبة وربيعها الديمقراطي ومعها القضية الفلسطينية بالطبع، وذلك على مستوى الموقف السياسي.
لا يمكن عزو هذه الخطابات والتصورات إلى نزعات علمانية أو جمهورية واضحة، ولا يمكن أيضًا اعتبارها حركات تقدمية وهي لا تدعو حتى إلى تحديث استبدادي من أعلى، لأنها فعلًا ليست شغوفة بسؤال التقدم ولا تطرح أي دعوات عن الحرية أو المساواة أو المواطنة. بل هي غارقة في عصبية وماضوية أخرى تواجه بها ماضوية وعصبية الإسلام السياسي، كما لو أنها تسعى لتعويض غيابه أو اقتسام كعكة التطرف معه، ولكن من موقع ماضوي مختلف.
جاهلية عربية بنزعة فرعونية
لكن أكثر ما لفت نظري في هذه الخطابات المعادية للعروبة باسم ماضويات بديلة، أنها ولسخرية الزمان منغمسة بكامل وجدانها في شفرات الجاهلية العربية نفسها التي تسعى إلى نقدها، كما لو أنها تحاول إثبات أن للعرب هوية راسخة بحق لا يمكن الإفلات منها.
الجاهلية التي أقصدها هنا ليست جاهلية الكفر المعاصر في خصومته مع العصبة المؤمنة كما تحدث عنها سيد قطب في ستينيات القرن العشرين. أعرف تمامًا أن هناك من سيتصيد اللفظ للتدليل على أني من الإخوان المسلمين مثلًا، ونحن الآن في جاهلية وجهالة تسمح بذلك مثلما سمحت لفنان كبير بوزن محمد صبحي أن يتحدث بثقة على شاشة التليفزيون عن الأرض المسطحة.
لم يعد مطلوبًا من المصري أن يفخر بمصريته المعاصرة لأنها تستحق الفخر بل لأنه امتداد جيني لأجداده
خطابات الجاهلية المعاصرة هذه تستخدم نفس العروض والشفرات العربية في التعبير عن ذاتها وعلاقتها بالماضي والآخر؛ تلك العلاقات الملتبسة والمعقدة مع الإخوة وأبناء العمومة؛ حب وكراهية وتضامن وغضب وغيرة، الهجاء وقد أصبح ردحًا عاميًا. بكاء ناحب على الأطلال ينتهى إلى الفخر بها، ومعه حديث عن انتظام النَسَب الشريف وتأصيله حتى ولو لآلاف السنين. لن تجد إلا أقبح ما أورثته العرب لنا من جاهليتها؛ الثأر والحماسة والفخر بالأنساب والبكاء على الأطلال.
المشروع الحداثي العربي بكل أزماته، الذي تنازعت فيه واختلطت دعوات إحياء التقليد الإسلامي مع آمال التأسيس الجمهوري، لطالما انتقد ونفر مما اعتبره نزعات قيمية ومكونات جاهلية عربية في عصبيتها وغرورها وافتتانها القبلي. إعلاؤها للقوة محل العقل، وللمكانة الموروثة والنسب محل الفضيلة كسلوك حي، مع عشقِ كلِّ ماضٍ توجسًا من أيِّ مستقبل.
سنجد هذه الأيام ترويجًا حماسيًا لشفرات الجاهلية العربية، بأردية فرعونية وفينيقية وأمازيغية. ستتسرب إلى موبايلك آلاف البوستات التي تحاول إثبات أنك حفيد رمسيس الثاني وبالخرائط الجينية، وأخرى تطابق صور فنانين ومشاهير مصريين معاصرين مع تماثيل مصرية قديمة، إثباتًا لامتداد النسب. ليس مطلوبًا منك سوى الاكتفاء بمحاولة إثبات أنك محمد بن رمضان بن سقنن رع.
لم يعد مطلوبًا من المصري أن يفخر بمصريته المعاصرة لأنها تستحق الفخر وتحقق له السعادة، أو لأنها تسهم إيجابًا في الحضارة الإنسانية فتُشعره بالرضا عن وجوده. بل لأنه امتداد جيني لأجداده، يشبه تماثيلهم وصورهم، أحمد الجندي ليس بطلًا أوليمبيًا عظيمًا لأنه ضرب كل الأرقام العالمية والأولمبية متحديًا تخلف بنية المنظومة الرياضية في مصر، بل لأنه حفيد الملك خفرع.
الهجاء إذ يصبح ردحًا وبكاءً على الأطلال
من سمات الخطابات الترويجية للنزعات الماضوية السابقة على العروبة والإسلام استخدام الردح منهجًا في الجدل. الردح هنا هو الوجه الآخر للفخر وصورة معاصرة للهجاء، يقوم الردح على الدفع بمثالب أبناء العمومة إذا ما واجهوك بنقيصةٍ ما فيك.
فمثلًا؛ إذا قيل للمصري إنه لا يقوم بما ينبغي عليه القيام به، ستكون الردود على شاكلة أين كنتم حين كنا، والقافلة تسير والكلاب تعوي، وموتوا بغيظكم، ومن أنتم ونحن أحفاد ماء السماء، وهل لديكم أهرام كأهرامنا، وتأدب حين تتكلم أو لا تتكلم لأني لا أريد أن أراك، فقد سبق أن أعطينا ولم نأخذ لقاء تضحياتنا، وأنتم لم تراعوا العمومة فيمن هلك والأعراب أشد كفرًا ونفاقًا.
وهكذا يمكن استخدام كل شيء لتبرئة ذاتٍ جريحة من تهمٍ تُلقى عليها ممن تعتبرهم دونها شأنًا ومقامًا، ألسنا هنا في أجدب جب في صحارى العرب؟
أطلالنا آثار، وأهرامنا أطلال، ومعابد طيبة أطلال. وأطلقنا عليها اسم "آثار" لأنها أثرٌ لحضارة زالت ودليلٌ على وجودها في يوم ما، وعلى أن هذا الوادي شُيِّد عليه ما صمدت شواهده لآلاف السنين، عنادًا للزمن والطبيعة، ولكنها تظل أطلالًا لأنها لم تعد جزءًا من حياتنا اليومية ومفردات حضارتها.
على العكس، فمساجد مثل السيدة زينب والسيدة نفيسة وجامع الست فاطمة النبوية في الدرب الأحمر ودير المحرق في أسيوط ليست آثارًا ولا أطلالًا، لأن عامة الناس يداومون على زيارتها وهم يؤمنون بأن هناك ما يربط حياتهم ومستقبلهم بها. ينفقون من أموالهم، ويطعمون وينذرون ليصونوا هذه الدور. هم سبب استمرار وجودها، مثلما يعتقدون أن في وجودها علة تُعينهم على احتمال الحياة ومشقتها، هذه الدور لا تزال حية، لأن الأحياء يُحيُون بقاءها.
لكنَّ أطلالنا وآثارنا أصبحت مع هؤلاء الفراعنة الجدد نوعًا من الطواطم، ديانات بدائية لما قبل التاريخ يكتفي المؤمنون بها بعبادة لأسلاف من دون سردية متماسكة عن المعنى والهدف من الوجود. فجدي كان عظيمًا وكفى، لأنه أول من حرث الأرض ولعب الهوكي وتبرز في حفرة.
سيصل الأمر إلى الفخر بأن الفلاح المصري المعاصر يستخدم الأدوات نفسها والطرق الذي استخدمها أجداده لآلاف السنين، ستجد صورًا فخورةً لامرأة مصرية أمام فرن ريفي وهي تخبز بنفس طريقة جداتها.
لن يتوقف هؤلاء أبدًا عند هذه المقارنة الفخورة باعتبارها تعبيرًا عن تخلف مخزٍ في الريف المصري وتجسيدًا لبؤس وفقر وصل بشعب أنه لا يزال يستخدم الطرق والأدوات نفسها منذ آلاف السنين دون تغيير.
ما الفارق بين هذا الخطاب وخطاب منتسبي بعض فرق الإسلام السياسي التكفيري التي كانت تؤمن بوجوب الحياة في خيام مصنوعة من شعر وجلد الدواب؟ الفارق في الحقيقة أن الفرق التكفيرية كانت أكثر استقامة في طرحها، لأنها كانت على الأقل ترى أن هذه الحياة واجبة على الجميع دون استثناء.
أما هؤلاء الفخورون بعجين الفلاحة في صعيد مصر وهم يحاكون أجدادهم في الطيبة والبؤس، فهم في الأغلب لا يتصورون حياتهم الشخصية إلا في أبراج دبي وأبوظبي والعاصمة الإدارية. أما الفلاحة والفلاح فلهم رب يحميهم، رب لم نعد نعرف اسمًا له.