بعد مرور عام على عملية طوفان الأقصى والعدوان الإسرائيلي الذي أعقبها على غزة، صارت الحرب إقليميةً باتساع نطاقها إلى لبنان وإيران. يزيد تجاوز الطوفان حدود غزة والأقصى من المخاطر الاقتصادية المحدقة بمصر.
يستعرض هذا التقرير التبعات الاقتصادية للصراع الإقليمي، وأثر العدوان الإسرائيلي على الاقتصاد المصري الذي يكافح منذ عامين للخروج من أزمة شح النقد الأجنبي.
الطاقة عنصر محوري في الأزمة
على الرغم من أن أقرب نقطة جغرافيًا في مصر للحرب الدائرة هي سيناء، التي تضم عددًا من أبرز المقاصد السياحية في مصر، إلا أن إيرادات السياحة لم تتأثر بشكل لافت، حيث استقرت تقريبًا عند نفس معدلاتها خلال النصف الأول من العام الجاري، بالمقارنة بالفترة نفسها من العام السابق.
لكن أثر الحرب على مصر بدا أكثر وضوحًا عندما قررت إسرائيل إغلاق أكبر حقل غاز لديها، حقل تمار، لعدة أسابيع، في أعقاب عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر من العام الماضي، وتكررت الأزمة في يونيو/حزيران الماضي عندما تحدَّث رئيس الوزراء المصري وقتها عن تأثر إمدادات مصر من الغاز بـ "عطل فني" في أحد حقول "دول الجوار".
رغم تواضع حجم التبادل التجاري بين مصر وإسرائيل، فإن صادرات الغاز تحديدًا تمثل أهمية استراتيجية لمصر، بسبب الجوار الجغرافي الذي يسمح بوجود قنوات لتوصيله بين البلدين.
وتعتمد مصر نسبيًا على الغاز الإسرائيلي للمساهمة في تغطية فجوة بين الإنتاج والاستهلاك المحلي تقدَّر بـ 1.8 مليار قدم مكعب يوميًا، وازدادت أهمية الغاز الإسرائيلي مؤخرًا مع تراجع إنتاجية أكبر حقول الغاز المصرية المكتشف في 2017، حقل ظهر.
الانقطاعات في توريد الغاز الإسرائيلي دفعت الجانب المصري إلى كبح صادرات الغاز لتوفيرها للاستهلاك المحلي، ما ساهم في انخفاض مدوٍ لصادراتنا بنحو 6.6 مليار دولار في 2024/2025 مقارنة بالعام السابق ، حسبما أظهرت بيانات البنك المركزي.
لم يكفِ ترشيد الصادرات في تغطية احتياجات الاقتصاد المصري من الطاقة، ما اضطر الحكومة للحد من تدفق الطاقة إلى الصناعات كثيفة الاستهلاك، وانعكست آثاره بصورة واضحة على صناعة الأسمدة في مصر، حيث شهدت هذه الصناعة موجتي انقطاع في تدفق الغاز خلال نوفمبر/تشرين الثاني 2023 ويونيو الماضي.
ضربة في صميم الصناعة المصرية
على أثر الحد من تدفق الغاز لمصانع الأسمدة، انخفضت طاقاتها الإنتاجية وتراجعت قدراتها التصديرية، بعدما كانت الأسمدة من أكثر الصناعات إسهامًا في النشاط التصديري.
وكنتيجة لانخفاض الطاقة الإنتاجية ارتفع سعر طن السماد الحر في يوليو/تموز الماضي، المباع خارج منافذ وزارة الزراعة، بنحو 61% مقارنة بأسعاره قبل الغلق، في مايو/أيار الماضي.
ويقول محمد الخشن رئيس شعبة الأسمدة باتحاد الغرف التجارية لـ المنصة إن هذه المستويات من الأسعار لا تزال سائدة في السوق، ويستشعر القطاع الزراعي أثر الارتفاع الكبير في أسعار الأسمدة خلال أكثر فترتين تتم فيهما عمليات التسميد في أكتوبر الجاري وفبراير/شباط المقبل.
ويرى الخشن أنه من الممكن الوصول إلى توافق مع منتجي الأسمدة لخفض سعر الطن إلى 13 ألف جنيه، لكن في المقابل هناك حاجة لتخفيف الضغوط عليهم من خلال رفع سعر طن السماد المدعم من 4500 جنيه إلى نحو 8 آلاف جنيه.
وتلزم وزارة الزراعة منتجي الأسمدة بتخصيص 55% من إنتاجهم للبيع عبر منافذ الوزارة بسعر جبري عند 4500 جنيه للطن.
لم تكن مصانع الأسمدة وحدها المتأثرة من نقص إمدادات الغاز، ولكن الصيف الماضي ازدادت كثافة انقطاعات التيار الكهربائي، خاصة مع ارتفاع استهلاك الطاقة بسبب حرارة الجو، التي أثرت في قطاع واسع من الأنشطة الاقتصادية، ولم تَصدُر بيانات رسمية لحصر هذه الخسائر.
تأثير الحرب في موازيننا الخارجية
وفي مواجهة الاحتياج المتنامي للغاز، لجأت الدولة للتوسع في استيراد الغاز المسال، وتكلفت الشحنات الواردة بين أبريل/نيسان وأغسطس/آب الماضيين 1.2 مليار دولار، لتضيف أعباء جديدة على ميزاننا التجاري.
"أهملنا في السعي لتحقيق اكتشافات جديدة بعد حقل ظهر لتعويض ما يتم استهلاكه"، كما يقول الخبير البترولي، رمضان أبو العلا، لـ المنصة.
وتعكس آخر البيانات المتاحة انخفاض معدلات إنتاج الغاز الطبيعي في مصر إلى أدنى مستوى لها منذ 2018، وهي الفترة التي كان فيها الإنتاج مزدهرًا بفضل بدء إنتاج حقل ظهر.
وأشار أبو العلا إلى أنه يمكن حل تلك الأزمة، بوضع خطط قصيرة الأجل لتنمية إنتاج الحقول القائمة، إضافة إلى وضع خطط طويلة الأجل من خلال تسريع استكشاف مناطق جديدة. وبذلك يمكن عودة الإنتاج إلى معدلاته القديمة تدريجيًا.
من جهة أخرى، ساهم طول أمد الحرب على غزة في نشوء عمليات قرصنة واستهداف من قبل جماعة الحوثي في اليمن للحاويات العابرة من قناة السويس، ما أثر بشكل لافت في إيرادات القناة، التي تراجعت بـ61.7% خلال النصف الأول من العام الجاري، وأشار رئيس الجمهورية لهذا الرقم الصادم في واحد من خطاباته.
الآفاق المستقبلية للأزمة
اقتراب حدود مصر من الحرب الدائرة كان دافعًا وراء تحريك الماء الراكد بين مصر وصندوق النقد الدولي، فبعد شهور من رفض الصندوق إجراء المراجعات الدورية للقرض الذي اتفق عليه مع مصر في ديسمبر/كانون الأول 2022، بسبب عدم تطبيق إصلاحات مطلوبة، بدأت مديرة الصندوق تتحدث في نوفمبر الماضي عن ضرورة دعم البلاد.
وساهم القلق من تأثير الحرب على مصر في الوصول لاتفاق مع الصندوق في مارس/آذار الماضي، ليس فقط بالعودة لإتمام المراجعات ولكن بتضخيم قيمة القرض من ثلاثة إلى ثمانية مليارات دولار.
لكن هذه الخطوة لم يكن لها أن تتم إلا بدعم من حزمة إنقاذ إماراتية في صورة استثمار مباشر في رأس الحكمة ساهمت في توفير تدفقات دولارية تساعد على إتمام أكثر إصلاح كان يطالب به الصندوق، تحرير سعر صرف الدولار في مارس الماضي.
ساعدت هذه الإجراءات الاستثنائية على استقرار الوضع في مصر، لكن استمرار الحرب واتساعها إقليميًا بعد اغتيال رئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية في طهران، ثم زعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله، والرد الإيراني على إسرائيل يفرضان الكثير من المخاوف بشأن المستقبل الاقتصادي للبلاد.
من ناحية، قد تتجدد أزمة الغاز في الصيف المقبل إذا استمرت الحرب، حيث يتزايد استهلاكنا المحلي للطاقة مع ارتفاع حرارة الجو، كما أن استمرار أعمال القرصنة قد يعصف بالجانب الأكبر من إيرادات قناة السويس.
من جهة أخرى فإن اقتراب الحرب من إيران، الداعم الرئيسي لحزب الله وحماس، يثير المخاوف من أي ضربة محتملة على واحدة من أكبر منتجي النفط عالميًا ما يساهم في ارتفاع أسعار الخام وتضرر بلدان تعتمد على استيراده مثل مصر.