حتى مطلع الشهر الجاري، كانت دوائر السياسة العربية تتعاطى مع تهديدات إسرائيل باجتياح رفح باعتبارها قنابل دخان يُطلِقها ساسة تل أبيب لإرضاء المستوطنين اليمينيين. فجيش الاحتلال لن يقامر بفتح هذه الجبهة وهو يتكبَّد الخسائر في غزة وجنوب لبنان، وأمريكا لن تقبل بتوسيع الحريق الشرق أوسطي، بينما يستهدف الحوثيون في اليمن سفنها.
لكنَّ التصاعد الدراماتيكي للأحداث أثبت أنَّ بعض الظن العربي، إن لم يكن كلُّه، إثم نابع من عجز فادح عن قراءة الواقع كما هو، لا كما يرتسم في مُخيلة قاطني قصور الحكم. لعل العملية الافتتاحية التي شنها جيش الاحتلال ضد الفارين من غزة إلى رفح تعني بدون فذلكة أنَّ "ساعة التهجير اقتربت".
يومًا بعد يوم، كانت تنجلي الحقيقة أمام كلِّ ذي عينٍ ورأسٍ، ويتضح أنَّ التشكيل العصابي المسمى زورًا "دولة إسرائيل"، ماضٍ في تنفيذ مؤامرة التهجير، وهو الأمر الذي يتسق فكريًا مع الفلسفة الإقصائية للحركة الصهيونية.
في غضون النكبة الأولى، قال بن جوريون لدى اعتماده الخطة دالِت لتطهير فلسطين عرقيًا "لا أجد أزمة أخلاقية إزاء تهجير العرب"، ثم نصح مجرمي الحرب الصهاينة "كل هجوم ينبغي أن ينتهي بدمار وطرد ومن ثم استيلاء على الأرض. لسنا في حاجة إلى قرية تهاجمنا، بل سنبادر نحن. وسنبدأ تنفيذ سياسة الدفاع العدائي، يجب أن يعي القادة العسكريون، أننا متفوقون على العرب، وسنفعل ما يلزم لطردهم وتحطيمهم معنويًا".
أليس هذا ما يحدث الآن؟ ألا يدفع الساسة والعسكريون الإسرائيليون بأنّ العدوان على غزة هو دفاع عن النفس، حتى وإن لم يستخدموا المصطلح ذاته؟
لم يكن مُفاجئًا أن يطلق الرئيس الأمريكي كلامًا مائعًا لزجًا يؤيد ضمنيًا مؤامرة التهجير وإن أعلن رفضها
وفق المؤرخ اليساري الإسرائيلي إيلان بابيِه، يُعدُّ التطهير العرقي جزءًا من الخارطة الجينية لـ"دولة اليهود"، والأزمة أنَّ شفاءها من هذه الصفة الوراثية مُستعصٍ بالمعايير المنطقية.
ذات يوم من عام 1948 قال بن جوريون إن الدولة اليهودية لن تكون آمنة ما بقي العرب يشكلون أكثر من 20% من سكانها، واليوم يقول وزير المالية بتسلئيل سموتريتش إن وجود مليوني فلسطيني في غزة غير مقبول، ولن يُسمح به متى وضعت الحرب أوزارها.
وفي الشهر الأخير من عام 1947، قال مدير إدارة الأراضي في الصندوق القومي اليهودي، يوسف فايتس، إن مخطط إخلاء الأرض لا ينبغي إرجاؤه. لا يجب أن نتساهل مع بقاء عشيرة عربية واحدة. والآن يقترح وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو ضرب غزة بقنبلة نووية.
سؤال إسرائيل الوجودي
تضع المرجعية الفلسفية لإسرائيل مسألة إخلاء الأرض من العرب على رأس أسئلتها الوجودية، والتحركات الراهنة على جبهة القتال، بما تشمله من تجويع الغزيِّين، وقصفهم عشوائيًا، واستهداف المنشآت العلاجية، والمناطق التي تعلن إسرائيل بذاتها أنها آمنة، كلها مشاهد تتضافر مع بعضها بعضًا، لتشكل بلغة صحفية متنًا، عنوانه العريض "لا تنازل عن التهجير".
دعونا نجنح إلى إحسان الظن، فنقول بأن الأنظمة السياسية العربية خُدعت، بضم الخاء لا فتحها، بتعويلها على تطمينات البيت الأبيض. فأي تطمينات أمريكية، لا ينبغي أن تُوضع في ميزان القرار العربي في هذه اللحظة المفصلية من التاريخ، ذلك أن تعهدات واشنطن لا تساوي جناح بعوضة، وليس أسهل عليها من "لحس كلامها". فبايدن الذي يفخر بصهيونيته الموروثة عن أبيه، لم يبدِ حراكًا ولم يرتجف له جفن إزاء الجرائم النكراء التي تقع منذ أكثر من أربعة أشهر.
وعليه، لم يكن مُفاجئًا أن يطلق الرئيس الأمريكي كلامًا مائعًا لزجًا يؤيد ضمنيًا مؤامرة التهجير، حتى وإن أعلن رفضها، عندما أكد أنه يتفهم حق إسرائيل في الدفاع عن أمنها، لكنه يخشى من وقوع خسائر بشرية واسعة في العملية البرية.
إن أحدًا لا يفهم مغزى مفردة "واسعة" تلك، بعد سقوط نحو ثلاثين ألف شهيد، 70% منهم من النساء والأطفال. أليست هذه خسائر واسعة؟
التعاطي مع تصريحات بايدن بوصفها أكثر من محاولة لذر الرماد في العيون، لا يستساغ بأي حال، خاصةً مع الأخذ في الاعتبار دعم إدارته الأعمى لجرائم إسرائيل، بل إن الرئيس الديمقراطي يمضي أبعد من ذلك، مغامرًا بفرصة تجديد رئاسته إثر خسارته قواعده الشعبية من الناخبين الشباب، استجابةً لنداءات صهيونيته الموروثة.
وهكذا.. تمضي الأحداث بخطى متسارعة نحو الاجتياح.
الاقتراب من المجزرة
الواقع أن رفح قاب قوسين من مجزرة قد تكون الأكثر دموية في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، بالنظر إلى جموح الائتلاف الحكومي الإسرائيلي الذي يريد، ويحتاج، تسويق أيِّ إنجاز للمستوطنين، حتى يسترد شعبيته المستنزفة.
ليس رجمًا بالغيب، إن جيش الاحتلال سيعمد إلى تعقيد الأزمة الإنسانية، وسيحاصر أكثر دخول المواد الغذائية والدواء، وسيقترف مجازر جماعية، وعندئذٍ لن يجد الفلسطينيون المحشورون في رفح بُدًّا من الاندفاع نحو مصر.
الاجتياح يعني بداية مخطط النكبة الثانية. وفي حال نجاحه، فإن الهزيمة ستلحق بالأمة بأسرها، وليس المقاومة الفلسطينية فحسب.
إن أوراق اللعبة اليوم في يد القاهرة لا في يد إسرائيل وأمريكا
ماذا عسى العرب أن يفعلوا إزاء الخطر المرتقب؟ أو تحريًا للدقة، ماذا ستفعل مصر باعتبار التهجير فضلًا عن كونه يصفي القضية الفلسطينية بفرض الأمر الواقع، سيحمل تحديات معقدة على أمنها القومي؟
من الغريب أن قراءة الإشارات الصادرة عن القاهرة تُظهر تضاربًا غير مفهوم، أو قل لا يتناسب مع الواقع. فعلى الأرض تحرَّكت حشود عسكرية إلى الحدود الشرقية، وبالتوازي هناك تسريبات بشأن رفض القاهرة المساس بالوضع الديموغرافي لقطاع غزة، وخدش أمن شبه جزيرة سيناء، مع التلويح بتجميد معاهدة السلام.
لكنَّ هذه التسريبات، في مفارقة بائسة، ليست منسوبةً إلى مصدر معلوم، وهذا يُفقِدُ الرسالة مقدارًا لا يُستهان به من قوتها.
والأغرب أن هناك تصريحات أخرى لمصادر معلومة، من بينها وزير الخارجية سامح شكري، بعد سويعات من اجتياح رفح، بأن "اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، سارية على مدار الأربعين عامًا الماضية... وسوف تستمر".
ما المطلوب أكثر حتى تردَّ القاهرة على "السفالة الإسرائيلية" ردًا يوازي قيمتها؟ ما الذي يمنعها، الآن وليس غدًا، إعلان تجميد معاهدة السلام احتجاجًا على التصريحات والتحركات الإسرائيلية الوقحة بشأن التهجير؟
تجميد المعاهدة لا يعني إعلان الحرب كما يخرّف المتنطعون. هناك شعرة بين ضبط النفس والتراخي، وإن انقطعت تؤول الأمور إلى "الهوان".
إن أوراق اللعبة اليوم في يد القاهرة، لا في يد إسرائيل وأمريكا. كل المطلوب هو موقف حاسم حتى تكف إسرائيل عن عدوانها على غزة، وهو بالبداهة عدوان مزمع على سيناء. هذا مع ملاحظة أنَّ دولة الاحتلال أضعف من أي وقت مضى، وأنَّ الفلسطينيين صامدون، والرأي العام العالمي ضد الإجرام بحقهم، والظهير الشعبي سيصطف وراء أي نظام يُبدي شيئًا من النخوة.
بعد النكبة الأولى تحرّك الضباط الأحرار في مصر لإسقاط الملك فاروق وإعلان الجمهورية، وكانت شرعيتهم مستمدة بالأساس من قضية تحرير فلسطين بعد هزيمة الجيوش العربية في حرب 1948. ومع اقتراب النكبة الثانية، صارت شرعية يوليو على المحك. والمعلوم أنَّ التاريخ قد يكرر حلقاته، والذين يقولون إنَّ هذا غير وارد مثل الذين يظنون أنَّ العاصفة لا تضرب المكان ذاته مرتين.