شبح الساداتية في اللحظة الفلسطينية الراهنة
في 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، دعا وزير الخارجية بدر عبد العاطي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الانخراط في الأزمة السودانية لإنهاء الكارثة الإنسانية هناك. وقال الوزير إن دعوته تكرارٌ لما طلبه الرئيس السيسي مباشرةً من نظيره الأمريكي خلال توقيع اتفاق شرم الشيخ.
ربطُ اتفاقِ شرم الشيخ المتعلق بغزة بحلِّ أزمةٍ في بلدٍ عربيٍّ آخر معناهُ واضحٌ؛ مثلما اهتم الرئيس الأمريكي بـ"أزمة" غزة، فاستطاع حلها، بإمكانه حل "أزمة" السودان، إن اهتم بها. وهو منهج يستند على أحد أركان المدرسة الساداتية في مفاوضات كامب ديفيد والسياسة الخارجية، ألا وهو أن 99% من أوراق اللعبة، أيِّ لعبة، في يد أمريكا. وعلى مصر أن تورط الولايات المتحدة في التفاوض المباشر، كطرف. بدلًا من أن تفاوض عدوًا واحدًا، إسرائيل، فاوضت عدوين متفاهمين تمامًا فيما بينهما.
الزمن الترامبي أخطر بما لا يقاس من زمن كارتر في السبعينيات. فلا وجود الآن لقوة دولية توازن الثقل الأمريكي، مثلما كانت الكتلة الشرقية. وكارتر لم يكن مهووسًا مثل ترامب، الذي يتعامل مع السياسة -الخارجية والداخلية- باعتبارها مسارًا سيسير فيه منفردًا، وسيؤدي حتمًا لمنافع مالية له ولعائلته ولشريحة رجال الأعمال التي يمثلها.
سيؤدي كذلك لتعظيم صورته باعتباره رجل الأزمات الكبرى. الرجل الذي يفاوض منفردًا روسيا على حل "أزمتها" مع أوكرانيا، ويعدها بأراضٍ أوكرانية، من دون العودة للحكومة الأوكرانية أو للاتحاد الأوروبي. ويهدد شعبي الأرجنتين وهندوراس بوقف المساعدات إن لم ينتخبوا مرشحيه المفضلين. ويلعب دور البلطجي مع فنزويلا وكولومبيا.
حتى لحظة كتابة هذا المقال، يظل المشهد الأكثر تمجيدًا لترامب عالميًا، كـ"one man show"، أو كفاعل يتجاوز كل القوانين والأعراف الدولية، وينسحق الجميع أمامه، هو مشهد توقيع أوراق شرم الشيخ. رغم أن الجميع يعلمون أنها لا تنهي الإبادة، ومن الممكن للاتفاق أن ينهار في أي لحظة. ولذلك تحديدًا يحاول ترامب حماية الاتفاق وتأبيده، بمشهد جديد؛ قرار مجلس الأمن 2803 المتعلق بمشروع "السلام" في غزة.
قرار يبدو كصندوق مغلق، لا أحد يعرف كيف يُفتح. يتحدث عن أشياء دون أن يوضح مضمونها أو كيف ستتحقق؛ مجلس سلام برئاسة ترامب لم يُحدِّد أعضاءه. إعمار لم يُحدِّد من سيموله أو برنامجه. نزع سلاح فصائل لم يُحدِّد القوة التي ستنفذ ذلك. وغيرها من مسائل، يعلم الجميع أن صياغتها الركيكة والغامضة مقصودة.
لنترك قرار مجلس الأمن الترامبي مؤقتًا. هل نتذكر منظمة غزة الإنسانية؟ نسي أغلبنا الاسم، ومن لم ينسَ ستكون ذكرياته مشوشة، مرتبطة بهؤلاء المرتزقة الأمريكيين الذين هربوا فجأة من غزة، بعد أن قتلوا أهلها في الأقفاص المعدة لهم للانتظام في طوابير توزيع الطعام القليل.
ثم فجأة، وقبل أن نعلم من أحضرهم، اختفوا! أفرغوا مقراتهم ومعسكراتهم واختفوا في غضون ساعات بينما كان مشروع ترامب قيد التوقيع في شرم الشيخ، بعد أن كانوا يقولون إنها ستلعب دورًا أساسيًا فيما يسمى بـ"اليوم التالي". وهو ما تكرر مع مشروع ياسر أبو شباب، الذي أُنفِق الكثير لتغيير صورته من مجرد تاجر مخدرات وزعيم عصابة لصوص ليصبح سياسيًا بديلًا عن حماس، فينتهي خلال دقائق. وهو المصير نفسه القابل للتكرار مع مشاريع ترامب وقراراته ومجلسه للسلام؛ أن تتبخر فجأة.
غزة الجديدة
لا بد أن أهل غزة يتذكرون ملامح كل فرد من هؤلاء المرتزقة جيدًا. فالأهل لا ينسون وجه القاتل الغريب الذي كان ينظم الأبناء والأقارب والجيران في طوابير داخل أقفاص، ليتسولوا الطعام، ثم يطلق عليهم الرصاص. ولن ينسوا عصابة أبو شباب التي لم يجُع أفرادها في غزة طوال سنتين كان الجميع يجوع ويعطش فيهما.
لكنَّ الإنهاك، وكثرة الأحداث وتواترها السريع، والانتقالات والترحال بإيقاع لاهث، وعشرات الآلاف من الضحايا، والدم الذي لا يتوقف، تضعف الذاكرة. هذه الحقيقة لا بد أن نراعيها حين نتحدث عن الفلسطينيين. والأهم من الذاكرة الآنية، حقيقة أخرى نعلمها جميعًا؛ أن الفلسطينيين وصلوا لحالة الإنهاك القصوى بعد هذه الحلقة الاستثنائية من الإبادة طيلة عامين. وأن خطر التهجير، وتفريغ القطاع لا يزال قائمًا، بل إنه أكثر حضورًا من أي وقت مضى، ما دام الموت والجوع والنوم في العراء حاضرين بدورهم.
ما يمنع الآن التفريغ الطبيعي لقطاع غزة مجموعة عوامل متشابكة؛ المعابر المغلقة أغلب الوقت، وغياب الوجهة، وغياب القدرة على الدفع لمرتزقة وسماسرة، جدد وقدامى، متنوعي الجنسيات، يستثمرون في مآسي الشعب الفلسطيني. والأهم، عدم استجابة النظام المصري، حتى هذه اللحظة، لمشروع التهجير الإسرائيلي/الترامبي.
إغفال هذه الحقيقة لا يفيد أحدًا، وهي الخطر الأساسي الآن على مستقبل الشعب الفلسطيني، قبل أن يكون الخطر نزعَ سلاح المقاومة، وقبل أن يكون قرارَ مجلس الأمن المنزلق لمستوى من الركاكة والانحطاط المطلقين، وقبل أن يكون ظهورَ منظمات من نوعية "غزة الإنسانية"، وغزة "الشبابية".
لكننا نتوقف أكثر أمام هذا النوع من القرارات الأممية لأنه يخيفنا لما يعنيه إقراره وقبول العالم به. تخيفنا لأن لها صفة قانونية دولية، فيما تناقض منطق وجوهر القانون والعدالة، قبل أن تخيفنا بسبب ما ستنتجه من واقع على الأرض. فتتحول دلالة القرار للشيء المرعب؛ أن العشوائية والجهل في السياسة، المسماة بـ"البرجماتية الساداتية"، أصبحت منهجًا معممًا. أن العالم رضي بما سيفعله ترامب من دون أن يسأله عما سيفعله. بالإضافة لمحاولة استثمار حالة الإنهاك القصوى الفلسطينية، خصوصًا إن قبلت بهذه الترتيبات أطراف إقليمية مثل مصر، التي تدعو تاجر العقارات الذي يحكم أمريكا لتكرار ألعابه في "ريفييرا" أخرى؛ السودان.
يدشن القرار لاحتلال من النوع القديم، الكلاسيكي، لقطاع أساسي من فلسطين، في عودة لزمن انتدابات سايكس بيكو. ويفصل هذا القطاع، لأول مرة في تاريخ الأمم المتحدة، عن بقية فلسطين بترتيبات خاصة مطاطة وغير مفهومة. أي "الكامب ديفيدية" من جديد، وإن كانت في صيغة قرار أممي يَصدر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، متضمنًا ما هو جديد تمامًا؛ أن توجيهات الأمم المتحدة غير ملزمة لمجلس السلام الذي أنشأته. كل ذلك في كفة، وفي كفة أخرى توقيت الإصدار؛ مرة أخرى لحظة الإنهاك القصوى التي وصل إليها أهل القطاع والضفة الغربية، وغياب قيادة فلسطينية تحظى بحد أدنى من القبول، وقادرة على التصدي إليه وعرقلته.
لا يلتفت القرار للواقع والحقائق أبعد من مجرد محاولة الاستفادة، بأسرع ما يمكن، من حالة الإنهاك. لا يلتفت إلى أن تركيبة الشرق الأوسط لا تحتمل الجديد من الألعاب البهلوانية. مجرد مثال وحيد على ذلك، أنه لا يلتفت للأثر الاجتماعي والسياسي المحتمل لمشروع الريفيرا وتفريغ غزة من أهلها على كل المنطقة، وليس فقط على فلسطين ومصر والأردن. مثلما لا يلتفت أحدٌ إلى أن الركض لتوقيع لاتفاقيات، أو على الأقل تفاهمات، بين سوريا ولبنان من ناحية، وإسرائيل من ناحية أخرى، في هذا التوقيت تحديدًا، وبعد كل ما شاهدته شعوب المنطقة خلال سنتين، هو لعب بقنبلة قد تنفجر في أي لحظة.
غزة القديمة جدًا
بعد اقتحام أسطول الصمود يوم 1 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، واقتياد النشطاء لسجن إسرائيلي، فُصل بين النساء والرجال. كان من نصيب النساء عنبرٌ مكوَّنٌ من 13 زنزانة موصولة بحوش مشترك وصغير. ثُبتت على أحد جدران هذا الحوش صورة ضخمة لغزة مدمرة تمامًا، مع جملة ترحيب بالمعتقلات الدوليات: أهلًا بكم في غزة الجديدة.
ليست غزة جديدة. إنها غزة في هذه اللحظة الانتقالية بعد عملية تدمير وإبادة لم يشهد العالم مثلها على الأقل منذ الحرب العالمية الثانية. وهذه الألعاب النفسية من ضمن أشكال سوء المعاملة ليست جديدة بدورها. تعبر الصورة عن مشروع إسرائيلي واقعي، لم تتوقف دولة الاحتلال عن تنفيذه لحظة واحدة منذ تأسيسها، ألَّا يكون هناك بيت فلسطيني واقف على قوائمه. والبيت الذي لا يستطيعون الاستيلاء عليه وتحويله لبيت إسرائيلي، يجب تحويله لركام، أيًا كانت طريقة تدميره.
إنه المشروع الإسرائيلي القديم، متداخلًا مع مشروع ترامب الجديد في نقطة أساسية؛ انتهاز الفرصة لتثبيت وتأبيد الصورة اللحظية، وتحويلها لواقع دائم ومستقر. ففانتازيا إسرائيل وإدارة ترامب في جوهرها هي العودة بغزة والضفة الغربية لما هو قديم للغاية؛ منطقتين نظيفتين من اللاجئين، مثلما كانتا قبل 1948. واحدة منهما تتزين للسياح ورجال الأعمال، ويعمل الباقون من أهلها جرسونات وخدمًا. والأخرى تتزين بالمستوطنين الذين حققوا حلم السيطرة التامة على "يهودا والسامرة" النقيتين، بعد طرد اللاجئين وغير اللاجئين.
يهودا والسامرة هي التسمية الصهيونية للضفة الغربية. التسمية التي رضي السادات باستخدامها خلال مفاوضات كامب ديفيد، موهومًا وقتها بالمستحيل، أنَّ بإمكانه الإشراف على حكمها الذاتي إن امتنع الأردن عن ذلك. متصورًا أن اللاعبين الوحيدين هم الحكام، لاغيًا وجود الشعوب، بعد أن وضع 99% من الكروت في يد كارتر. وهنا كان مقتله.
إنه ما يتكرر عصريًا في حالة غزة، مع فارق أساسي؛ أن السؤال الآن لا ينحصر في هوية الطرف الذي سيكون واجهة القمع المباشر للفلسطينيين في غزة -لاجئين وسكانًا أصليين- ونزع سلاح الفصائل، وبالتالي سيتحمل العبء الأكبر للنتائج الكارثية التي ستنتج عن هذا المشروع. بل إن السؤال الأصعب، الذي لا يجرؤ أحد على إجابته، ويتجنبونه، يتعلق بالخلل الذي سيسببه التهجير والتطهير العرقي في أسس بقاء واستقرار المنطقة بأكملها، إن تركت للعب المنفرد لترامب وإسرائيل.
يدعو وزير الخارجية المصري ترامب للتورط في السودان. كيف؟ أن ينصر الطرف المدعوم من مصر، أم الطرف المدعوم من الإمارات، وهما طرفان متحاربان؟ ربما كانت زلة لسان. لكنها زلة لسان تثير القلق بخصوص مدى إدراك الإدارة المصرية لتعارض الأمن القومي المصري جذريًا مع الإدارة الأمريكية فيما يخص فلسطين، قديمًا وحديثًا، وإن كانت تدرك أن حالة الإنهاك الفلسطيني ليست أبديةً أو نهائيةً. فبدلًا من محاولة تضييق الساحات أمام ترامب بأقصى ما تستطيع، وكسب الوقت، تدعوه للعب في ساحات جديدة إضافية.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.