انتخابات النواب... هندسة أتلفها الارتباك
الهندسة السياسية لتشكيل مجلس النواب 2025 التي بدأت مبكرًا في سبتمبر/أيلول الماضي وكان من المفترض أن تؤدي لمشهد انتخابي شبه متفق عليه، لم تنته كما أريد لها، بل أثارت أسئلةً أكثر مما طرحت من إجابات.
منذ دخول رئيس الجمهورية على الخط بالبوست الذي باغت به الجميع، داعيًا الهيئة الوطنية للانتخابات إلى فحص المخالفات ولو أدى ذلك إلى إلغاء العملية الانتخابية برمتها، تشهد انتخابات مجلس النواب الجارية ما قد يكون سابقة في الحياة النيابية المصرية. فالاستحقاق الدستوري الذي بدأ بالإشادة بنزاهتها والإقبال عليها، أُلغيت نتائج ثلثي دوائر مرحلته الأولى، بينما نجت المرحلة الثانية من ذات المصير رغم ما شابها من مخالفات مماثلة.
يطرح ذلك أسئلة جديّة حول شرعية واستقلالية مجلس النواب المقبل، الذي يُرجّح سياسيون أن يُقدم على تعديل دستوري لإطلاق مدد الرئاسة.
رجمًا بالغيب
خلال مقابلته مع الإعلامي عمرو أديب في برنامج الحكاية، وضع رئيس الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي فريد زهران تقديرًا بأن "بعض الجهات، بعض الأوساط، بعض القيادات، قررت أن ترسل جرس إنذار للرئيس تقوله إن الحكاية ما تمشيش كده".
زهران توقع في حواره مع أديب أن يكون "الرئيس استجاب"، غير أنه في حديثه إلى المنصة أقرَّ بأن "كثيرًا من الأمور لا نعرفها ولا نعرف أسبابها العميقة. لسنا في مطبخ العملية وكثير من المعلومات تظهر مع مرور الوقت".
يتفق مع زهران قيادي حزبي قال لـ المنصة طالبًا عدم نشر اسمه، إن المشاهد التي نراها للمرة الأولى في استحقاق انتخابي مصري "ليست إلا صراعًا بين عدد من الأجهزة الأمنية، وخلافًا على أسلوب الإدارة".
لكن على الجانب الآخر، يرى قيادي في حزب الجبهة الوطنية حديث النشأة أن ما يتعلق بتدخل جهاز أو جهة في العملية الانتخابية "ما زال مجرّد تكهنات لا يمكن اعتبارها معلومة موثوقة"، مضيفًا في حديث إلى المنصة "محدش عارف إيه اللي بيحصل بشكل مؤكد، والكلام عن صراعات الأجهزة مش أكتر من تحليل أو أحاديث أطراف مختلفة ممكن يكون صحيح أو لأ".
تتوافق أحاديث تدخل بعض الجهات الأمنية في العملية الانتخابية مع ما نشرته المنصة الشهر الماضي عمَّا يتردد في الكواليس السياسية والبرلمانية بأن جهازًا أمنيًا قدم تقريرًا للرئيس بشأن الانتخابات حذر فيه من المخالفات والغضب الشعبي، ويدعمه مصدر قانوني دائم التعامل مع محاكم مجلس الدولة لفت الانتباه أمس الاثنين إلى "توقيت وكثافة" استخدام المحكمة الإدارية العليا قاعدة "النكول" في إبطال نتائج 30 دائرة انتخابية.
يُقصد بالنكول أن يمتنع ممثل الجهة الإدارية (الحكومة) عن تقديم المستندات والأوراق التي بحوزته، التي تعتبر الدليل الوحيد للفصل في الدعوى، رغم تكليف المحكمة له بذلك. ومع أن ذلك لا يُعتد به دليلًا دامغًا؛ فيحق للمحكمة أن تعتبره قرينة لصالح الطرف الآخر، استنادًا إلى أن الجهة الإدارية تخفي ما يدينها.
وقال المصدر القانوني الذي تحدّث إلى المنصة طالبًا عدم نشر اسمه، إن استخدام المحكمة الإدارية العليا لهذه القاعدة "سابقة قضائية نادرة، وربما تكون الأولى من نوعها على مدار الاستحقاقات الانتخابية التي شهدتها مصر خلال آخر 10 سنوات" رغم تشابه الظروف وتكرار تأخر الجهات الإدارية في تقديم الأوراق أحيانًا.
ورجح المصدر أن يكون هذا التشدد القضائي المفاجئ في تطبيق "النكول" مرتبطًا بالسياق العام وتوجهات الدولة لضبط المشهد الانتخابي.
لكن الخبير القانوني والمحامي بالنقض عصام الإسلامبولي لا يتفق مع ذلك الاتجاه، موضحًا أن لجوء المحكمة الإدارية العليا لتطبيق هذه القاعدة بكثافة لإبطال نتائج عشرات الدوائر الانتخابية، مرده الأساسي هو أن المستندات المطلوبة للفصل في صحة العملية الانتخابية (محاضر الفرز) تقع حصريًا تحت يد الهيئة الوطنية للانتخابات ولا بديل عنها لإثبات الحقائق.
فجوات في الشرعية الهندسية
ورغم ما أعلنه المدير التنفيذي للهيئة الوطنية للانتخابات المستشار أحمد بنداري من أن إبطال المحكمة الإدارية العليا نتائج الانتخابات حدث لأسباب "فنية وإجرائية" متعلقة بامتناع اللجان الفرعية للانتخابات عن تسليم وكلاء المرشحين محاضر الحصر العددي للأصوات بها، فإن حيثيات الحكم كشفت عن فجوة واسعة بين الرواية الرسمية للهيئة، وعنوان الحقيقة الذي صاغته أرفع محكمة إدارية في مصر.
شواهد الارتباك الإداري والقانوني في أداء الهيئة الوطنية للانتخابات، الذي كشفت عنه حيثيات الأحكام التي حصلت المنصة على نسخة منها، لم تقف عند حد امتناعها عن تقديم محاضر الفرز الخاصة بعدد من اللجان المطعون على نتائجها، بل امتد ليشمل تقديمها محاضر "منقوصة" أو أقل من العدد المطلوب قانونًا للفصل في الطعون الخاصة بدوائر أخرى، وهو ما اعتبرته المحكمة "تقصيرًا في تقديم المستندات يحول بينها وبين إنزال صحيح حكم القانون على الوقائع محل الطعن الماثل".
فقد اعتبرت المحكمة ذلك الامتناع "خطأً جسيمًا" من قبل الهيئة، يدعم حديث مقدمي الطعون عن وجود مخالفات جسيمة في حساب وتجميع الأصوات أسفرت عن صعود مرشحين غير مستحقين لجولة الإعادة، تستوجب نسف النتائج، لتؤكد أن ما أعلنه بنداري كان توصيفًا غير دقيق لواقع انتخابي مأزوم.
قد يُفسّر ذلك الارتباك الدهشة التي سرت في أروقة الهيئة الوطنية من أحكام البطلان، خاصة وأن المحكمة لم تبطلها بسبب أخطاء في الفرز رصدتها على غرار أحكام سابقة أصدرتها المحكمة ببطلان إعلان نتيجة 3 دوائر في انتخابات مجلس النواب 2020، وإنما ألغت النتيجة استنادًا لقاعدة النكول.
ومع الغموض وشح المعلومات الرسمية؛ ردَّ رئيس حزب العدل عبد المنعم إمام على سؤال صحفية المنصة عن ارتباك المشهد ضاحكًا "لو فهمتي اللي بيحصل فهميني"، واستطرد "كان فيه موجة تشكيك في المرحلة الأولى لمسناها وتكلمنا عنها، وتدخُّل الرئيس جعل كل الجهات تقوم بدورها بأريحية وتفحص الأوراق وتدققها دون ضغوط".
مصطلح "الأريحية" الذي استخدمه إمام، سبقه إليه في السياق ذاته المستشار بنداري، خلال مؤتمر صحفي الشهر الماضي بعد إعلان نتائج المرحلة الأولى على وقع بيان الرئيس.
ورغم ذلك، طالبت منظمات حقوقية بإلغاء نتائج الانتخابات برمّتها لأنها "خاضعة لإرادة الرئيس"، خاصة وأن غرف عمليات عدد من الأحزاب وثّقت عددًا من المخالفات التي شابت العملية الانتخابية. لكن لا يبدو أن هناك توجهًا لإلغاء العملية بأكملها، أخذًا في الاعتبار حديث المصدر الحزبي الأول عن ممارسة ضغوط على الأحزاب والمرشحين لاستكمال الانتخابات "بيكلمونا يتحايلوا علينا نعديها".
يثير هذا المشهد بالنسبة للإسلامبولي "الشك والريبة"، بعد أن أصبحت الانتخابات موضع استياء عام نظرًا لما شابها من "ممارسات رديئة باتت معلومة للكافة"، مشيرًا إلى أن فوز بعض أعضاء القوائم بهذه الطريقة يجعلهم أقرب لـ"المعينين" منهم للمنتخبين.
لكنَّ القيادي في حزب الجبهة الذي دشَّنه وزير الإسكان السابق عاصم الجزار مطلع العام الحالي ويضم في هيئته التأسيسية تركيبة متباينة من الشخصيات العامة والسياسيين ورجال الأعمال الموالين للنظام، اعتبر أن إلغاء الدوائر التي شهدت مخالفات "يُحصّن المجلس المقبل من أي تشكيك".
ويرجّح المصدر أن يُجري مجلس النواب المقبل "تعديلات قانونية وربما دستورية" قد تجعل من الانتخابات الحالية "آخر انتخابات تجري بنظام القائمة، ليعود الفردي هو النظام الوحيد للانتخابات"، داعيًا إلى "إجراء تعديل تشريعي يشمل القائمة المغلقة المطلقة وقانون تقسيم الدوائر وقانون مباشرة الحقوق السياسية".
وبينما تتواصل عملية لإنتاج ما يُفترض أن يصبح برلمان السيسي الأخير في مشهد مرتبك، ستكون له تداعياته المالية والسياسية؛ تؤكد ضبابية المشهد وحرص أطرافه على إبقاء تفاصيله بعيدًا عن أعين الإعلام أن الخلاف لا يتعدى حدود الشكل، وضرورة تجميل صورة الانتخابات ومخالفاتها.

