لم يُسجن عبد العاطي بسبب بقبقة البطة
أمس، قضت محكمة القاهرة الاقتصادية بحبس محمد عبد العاطي، صاحب قناة مع كامل احترامي، لمدة سنتين، وتغريمه مائة ألف جنيه، بتهمة "بث محتوى خادش للحياء".
قبلها بنحو عشر سنوات؛ كنتُ أنا نفسي داخل القفص بالتهمة ذاتها؛ "خدش الحياء العام"، بعد نشر فصل من روايتي استخدام الحياة. يومها قضت محكمة الاستئناف بحبسي لسنتين، قضيت منهما سنةً داخل السجن، قبل أن تقرر محكمة النقض الإفراج عني وإعادة المحاكمة أمام جنايات القاهرة، التي أدانتني مجددًا بالتهمة نفسها، لكن مع تخفيف العقوبة إلى الغرامة.
بعدها غادَرتُ مصر إلى الولايات المتحدة، حيث أعددتُ الماجستير في الكتابة الإبداعية بجامعة نيفادا في لاس فيجاس، وأُدرِّس منذ ثلاث سنوات الكتابة لطلبة من جنسيات مختلفة، وفي الفصل الدراسي المقبل لديَّ منهج عن الأدب والكتابة الخادشة للسلطة والحياء.
كنت أول من يُسجن بتلك المادة، ووقتها علق خبراء قانونيون ودستوريون -منهم من شارك في صياغة دستور 2014- بأن العقوبة تتعارض مع نصّ الدستور الذي يحظر توقيع عقوبات سالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب بطريق النشر أو العلانية إلا في أحوال معينة هي: التحريض على العنف والتمييز والطعن في الأعراض.
وبينما كنت في السجن، حاول برلمانيون تعديل المواد القانونية التي تسمح بالحبس في قضايا النشر، لكن مبادراتهم تعطلت في منتصف الطريق، وبعدها واجهت الحياة البرلمانية المصرية عثرات متتالية وصلت بها إلى وضعها الحالي المُعلَّق الذي يعلمه الجميع.
تفاهة القمع وفشله
منذ 2016 وحتى اليوم، حُوكم وسُجن المئات بتهمة "خدش الحياء العام" وما شابهها من تهم متعلقة بالنشر. مذنبون لا يعرفون ذنبهم، واتهامات لا تُحدّد جملةً ولا لفظًا، وقضاة يُصدرون أحكامًا بلا ملامح، كأنها مكتوبة في غياب الكاتب. والمجتمع المصري، كعادته، يتقلب بين طرفين: واحدٌ يصفق لأنه وجد ضحية جديدة يسكب عليها إحباطه، وآخر يصرخ بدهشته ليغطي بصوتها المرتفع أصوات مخاوفه.
الرئيس عبد الفتاح السيسي نفسه لا يكفّ في خطاباته عن الحديث عن "أزمة أخلاق". ومع كل توجيه رئاسي لعلاج هذه المشكلة التي تشغله منذ توليه الحكم، لا تتحرك الجهات المسؤولة إلا باتجاه المزيد من الرقابة والقبض، دون أن يتحسن شيء، ودون أن نفهم أصل هذه "الأزمة الأخلاقية" التي تبرَّر بها كل تلك الإجراءات.
أصدقاء محمد وزملاؤه من صانعي المحتوى اليوم في حيرة، لا أحد يعرف أين يقع الخط الأحمر
لكن الأهم من ذلك، أن توالي هذه الحملات لم ينجح رغم تشديد العقوبات طوال عشر سنوات، في تحسين مستويات الآداب والأخلاق العامة في المجتمع المصري وفق تصريحات الرئيس الأخيرة. فلماذا إذن يُصرُّ السادة في الأجهزة المعنية على اتّباع نفس السياسات؟ هل هذا نتيجة إصرار على الخطأ؟ أما محاولة للتهرب من حل مشكلة الأخلاق وتوجيهات الرئيس؟!
حتى الآن لا أعرف لماذا سجنت عامًا كاملًا. لا مرافعة النيابة ولا حيثيات الحكم حددت الجُمل أو الكلمات التي خَدشتُ بها الحياء. ولم أعد مهتمًا بأن أعرف، فإذا كانت هناك كلمة أو جملة في روايتي خدشت الحياء، فعبد العاطي كان أكثر حذرًا، يبتعد عن أي مواضيع تثير التفكير أو تتحدى أي قيم سائدة، بل إنه يذهب إلى ما هو أبعد، ليغطى كل لفظ حساس في حلقاته بصوت بقبقة البطة. ومع هذا لم ينجُ.
أصدقاء محمد وزملاؤه من صانعي المحتوى اليوم في حيرة. لا أحد يعرف أين يقع الخط الأحمر، ولا ما هي "القيم الأُسرية" التي يُفترض ألَّا تُمسّ. كل واحد يهمس بتوقعات: ربما تلك الحلقة؟ ربما ضيف معيّن؟ ثم يصمتون، يبلعون السؤال، ويمضون في الحياة بحذر من مجهول لا يمكن تفسيره. وهكذا تتحول العدالة إلى لعبة مرايا: أنت متهم بشيء لا يمكن تحديده، ومحكوم عليك بشيء لا يمكن تعريفه، ومطلوب منك أن تعتذر عن شيء لا يمكن رؤيته.
من قلب هذه اللعبة يتولد الخوف. لا الخوف من السجن وحده، بل الخوف من اللا مسمّى، من المجهول الذي لا تستطيع أن تمسكه بيدك ولا أن تتجنبه.
يُصفِّق الجمهور الذي تُسكره فاشية "خليها تنضف" لكل حكم بالحبس والمصادرة، لكنه في الحقيقة غير راضٍ عما يحدث. ينظر حوله فيسمع ما هو أوسخ وأقذر من "بقبقة" بطة عبد العاطي، ويرى نفسه مدفوعًا بتفاهة الشر في التشفي بسجن البلوجر سين أو صاد، ثم يكتشف الخديعة حين يفتح التليفزيون. هناك، في المهرجانات الرسمية وحفلات علية القوم، يشاهد ما هو أجرأ على "قيم الأسرة المصرية" من فيديو رقص فتاة في غرفتها، أو أم مطلقة تحاول إعالة أولادها بتناول حلة محشي أمام الكاميرا.
سلطان الخوف
ومع استمرار ماكينة الحبس، لا الأخلاق تحسنت، ولا صانعو المحتوى قادرون على معرفة قواعد اللعبة، لاتقاء شر اليد الباطشة، ولا الجمهور يدري بأي ذنب حُبست هذه وبأي ذنب كُرِّمت تلك، فيشعر في النهاية بالغبن، وينكشف الانحياز الطبقي في تطبيق القانون. لكن ماكينة العقاب لا تهتم بهذه التناقضات: فهى تعمل وتدور بلا معنى، بلا هدف، بلا تصور عن مجتمع ترغب في بنائه. وهذه الآلة لم تعد وسيلة لضبط المجتمع، بل أصبحت هي نفسها "القيمة العليا" التي يقوم عليها المجتمع الرسمي.
وسط كل ذلك تبقى الضحية الحقيقية هي الأسرة. حين سمعت خبر القبض على عبد العاطي أول من تذكّرته هو والده؛ رأيت فيديوهاته وهو يناشد، وكتابات بروفايله التي هي سلسلة طويلة من الأدعية والتضرع إلى الله بازاحة الغمة وإعادة ابنه لحضنه. أفكر في هذا الأب، في أسرته، في ابنه الذي يُفترض أن يكون سنده في كبره وشيخوخته، تجد الأسرة نفسها تسير خلفه من قسم لقسم، ومن محكمة لمحكمة، ثم إلى الزيارة الأسبوعية بما فيها من إهانات ومصاريف تكسر الظهر. قلبي معهم، ومن أجلهم نتمنى جميعًا الإفراج عن محمد وكل سجناء الرأي في مصر.
الرقابة والعقاب صارا هما طريقة عمل النظام نفسه، جوهره وبنيته، لا مجرد إجراءات استثنائية
أعلم أنه لا أمل في أن يتحقق هذا الحلم قريبًا، لكني أعلم أيضًا أن محمد عبد العاطي سيخرج إن لم يكن غدًا، فالأسبوع المقبل، أو الذي يليه. لأن كل سجين مصيره الحرية. وحين يخرج، فمثل كثيرين سبقوه في ذات الطريق، سواء كانوا كتابًا أو ممثلين أو صانعي محتوى، سيسافر، على الأرجح إلى دبي أو السعودية، ويستأنف عمله من هناك.
شركته الصغيرة التي فتحها منذ سنوات في القاهرة ستغلق وسيخسر العاملون معه وظائفهم. العملة الصعبة التي كانت تدخل مصر ستذهب إلى بلد هجرته المستقبلية، والمحتوى الذي يصنعه سيصبح جزءًا من خطاب إعلامي ليس مصريًا. الخاسر الوحيد هو مصر، التي سيستمر التجريف العنيف لثروتها البشرية التي أصبحت تهاجر ليس بحثًا عن ثروة أو تحسين ظروف العيش فقط، بل فقط لتتنفس بحرية الهواء الذي أصبحت محرومة منه في وطنها.
الحقيقة أن الهدف من سجن عبد العاطي ليس حماية الحياء العام، ولا إنقاذ "القيم الأسرية". الهدف هو تثبيت سلطان الخوف. لم تعد الدولة بحاجة إلى ضرب المربوط ليخاف السايب كما كان الحال حين سُجنت أنا. فالنظام متماسك، وهيمنته ليست موضع تهديد. لكن الرقابة والعقاب صارا طريقة عمل النظام نفسه، جوهره وبنيته، لا مجرد إجراءات استثنائية. دولة لا تحتاج إلى خطر لتضرب، ولا تحتاج إلى تهديد لتخاف؛ الخوف أصبح بنية النظام لا رد فعله.
يُمكن اختزال التصورات الرسمية عن "القيم الأسرية" اليوم في كلمة واحدة: الخوف. الفرد المطلوب إنتاجه هو المواطن الخائف دائمًا وأبدًا. خوف بلا موضوع محدد وليس بغرض إبعاده عن أفكار هدّامة قد تدعو لقلب نظام الحكم، بل لإنتاج فرد صامت، لا يفتح فمه إلا لينبح "أحسن، خليها تنضف".
والغرض من استمرار عمل ماكينة الرقابة والعقاب والسجن، ليس معاقبة عبد العاطي، فلا هو ولا أحد يعلم ما هو الذي فعله مخالف للقانون. الغرض هو إخراس أي فرصة لنقاش عقلاني قد يفتح مجالًا للحديث عن الدستور والقوانين وحقوق المواطنين وحرية الرأي والتعبير، ليتحول النقاش إلى "هوهوة" نباح؛ بين من يريدونها أن "تنظف"، والمتعاطفين مع عبد العاطفي وهم يتساءلون بدهشة مصطنعة "كيف تسجنون شخصًا بسبب صوت البطة؟"، بدلًا من التعبير عن تضامنهم بإعلان انحيازهم لحرية الرأي والتعبير.
السؤال الضروري طرحه ليس عن سبب حبس عبد العاطي أو ما هو الخادش في صوت البطة، بل: كيف نخرج من دائرة الخوف الجهنمية؟ كيف نتوقف عن مطاردة الأَحبّة في السجون والمنافي، ونعود للحديث عن القيم التي نحتاجها لنعيش كبشر؟ الحق في التعبير، في التنظيم، في الاعتقاد، في أن نتنفس دون خوف.
وأن نذكّر أنفسنا دائمًا: كلنا أحرار، وكلنا نستحق أن نتكلم دون أن نخشى بقبقة بطة أو قفصًا حديديًا.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.