مع إقرار دستور 2014، الذي تضمن نصوصًا قاطعةً تحظر توقيع عقوبات سالبة للحرية في قضايا النشر، ظن البعض أن عصر حبس أصحاب الرأي ولى إلى غير رجعة، وأن الصحفيين سيمارسون واجبهم في رقابة الحكام لصالح المحكومين دون أن يسلط سيف الملاحقة على رقابهم.
لجنة الخمسين التي صاغت الدستور الجديد بعد سقوط حكم الإخوان، وضعت نصوصًا غير مسبوقة تدعم حرية الرأي والتعبير وتضمن استقلال الصحافة والإعلام، وتنهي عهود الرقابة والمصادرة والوقف، وتلغي العقوبات السالبة للحرية في جرائم النشر والعلانية، وتسند تنظيم المشهد الصحفي إلى مجالس وهيئات مستقلة عن السلطة، بما يضمن حرية وحياد وتنوع المنصات الصحفية.
وبعد نحو ستة أشهر من إقرار الدستور، دفعت الجماعة الصحفية في اتجاه تحويل تلك النصوص الدستورية إلى تشريعات قانونية، فبادرت نقابة الصحفيين في يونيو/ حزيران 2014، وبعد التشاور مع أبناء المهنة وممثلي الهيئات الصحفية والمنصات الإعلامية المختلفة بتشكيل "اللجنة الوطنية للتشريعات الصحفية والإعلامية"، التي أنيط بها وضع مسودة مشروعات قوانين لتنظيم المجال الصحفي والإعلامي، باعتبارها قوانين مكملة للدستور.
ضمت اللجنة 50 عضوًا يمثلون الهيئات التي لها علاقة بمجال الصحافة والإعلام، وهي: نقابة الصحفيين ونقابة الإعلاميين تحت التأسيس، والنقابة العامة لعمال الصحافة والطباعة والنشر والإعلام، وغرفة الإعلام المرئي والمسموع، والمجلس الأعلى للصحافة، ونقابة الصحفيين الإلكترونيين تحت التأسيس، بالإضافة إلى عدد من أساتذة وخبراء القانون والصحافة.
وبعد أن بدأت لجنة الخمسين اجتماعاتها، ورصدت عددًا من القوانين التي تحتاج إلى تعديل بما يتناسب مع مواد الدستور الجديد، أصدر رئيس الوزراء في تلك الفترة، إبراهيم محلب، قرارًا بتشكيل لجنة موازية بقرار منفرد لـ"تحديد التشريعات الصحفية والإعلامية المطلوبة وصياغتها"، بحسب دراسة لمركز "هردو لدعم التعبير الرقمي".
أثار تشكيل لجنة "الثمانية" الحكومية غضب الجماعة الصحفية بدعوى عدم تمثيلها فعليًا لأصحاب المصالح الحقيقيين
ضمت اللجنة الحكومية التي ترأسها وزير العدل آنذاك المستشار محفوظ صابر في عضويتها، المستشار إبراهيم الهنيدي، وزير العدالة الانتقالية وشؤون مجلس النواب، والمهندس محمد الأمين، رئيس مجلس إدارة مجموعة المستقبل، والدكتور صفوت العالم الأستاذ بكلية الإعلام جامعة القاهرة، وأسامة هيكل وزير الإعلام الأسبق، وعصام الأمير رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون، ومكرم محمد أحمد نقيب الصحفيين الأسبق، وصلاح منتصر الكاتب الصحفي.
أثار تشكيل لجنة "الثمانية" الحكومية غضب الجماعة الصحفية بدعوى عدم تمثيلها فعليًا لأصحاب المصالح الحقيقيين، ولما كان هامش الحرية في ذلك الوقت يسمح بنقد الحكومة، بل والهجوم عليها، رضخ رئيس الوزراء واعتمد تشكيل لجنة "الخمسين" نزولًا على رغبة الصحفيين والإعلاميين.
قُسِّم العمل بلجنة الخمسين على خمس لجان، عمل بعضها على إعداد أبواب مشروع قانون موحد لتنظيم المشهد الصحفي والإعلامي، والبعض على إعداد ميثاق جديد للشرف الصحفي، ورصدت أخرى القوانين التي تتضمن عقوبات سالبة للحرية في قضايا النشر والعلانية تمهيدًا لتنقيحها من تلك المواد.
وفيما كانت لجنة الثمانية انتهت بالفعل من وضع مشروع قانون موحد لتنظيم الصحافة والإعلام، أخرجت لجنة الخمسين نسخة نهائية من مشروع قانونها المماثل بعد نقاشات وجلسات موسعة استمرت نحو سنة.
ورغم خروج مشروعيّ قانونين لتنظيم الصحافة والإعلام إلى الفضاء العام، وانعقاد جلسات وندوات لمناقشة ما جاء بهما في المؤسسات الصحفية والإعلامية والمنظمات الحقوقية المعنية، فإن كلا القانونين ظل في "ثلاجة" الحكومة حتى نهاية عام 2015، انتظارًا لتقديمهما إلى البرلمان لمناقشتهما وإقرار أيٍ منهما.
ومع بداية 2016، أثيرت زوبعة حول شبهة عدم دستورية بعض مواد مشروع قانون لجنة الخمسين، وذهب البعض إلى أن هناك نوايا حكومية للالتفاف على إرادة الجماعة الصحفية، وأن البرلمان الجديد ينوي "طبخ" مشروعات تم تفصيلها على مقاس السلطة التي بادر معظم أعضائه بتأييدها ودعمها.
وفي منتصف عام 2016 جرت واقعة اقتحام نقابة الصحفيين، وألقي القبض على صحفيين اثنين من مقرها للمرة الأولى في تاريخها، وتبع ذلك موجة احتجاجات واسعة عبر عنها أعضاء الجمعية العمومية للصحفيين في أكثر من حشد واجتماع.
ومع ارتفاع منسوب النقد والهجوم الذي طال رأس السلطة إلى مستوى غير مسبوق، صدرت قرارات غير معلنة بتدجين ما يمكن تدجينه من وسائل الإعلام، وممارسة أقصى درجات التضييق والحصار على المنصات التي قاومت النهج الجديد، وتمخض عن تلك الحالة تأميم معظم وسائل الإعلام، وحجب من أبى الدخول في معية السلطة، وملاحقة عشرات الصحفيين وأصحاب الرأي، وانتهى الأمر بإحالة نقيب الصحفيين ووكيل النقابة والسكرتير العام إلى المحاكمة.
وفي ذات العام عمل البرلمان الذي كان يترأسه الدكتور علي عبد العال والذي كان بالمصادفة عضوا باللجنة الوطنية للتشريعات الصحفية والإعلامية، على فك وتركيب مشروع القانون الموحد للصحافة والإعلام والذي ضم أبوابا تحدد صلاحيات وواجبات المجالس والهيئات الصحفية والإعلامية إلى جانب أبواب أخرى لتنظيم المهنة، وتم فصله إلى قانونيين، الأول خاص بالتنظيم المؤسسي للهيئات الثلاثة (المجلس الأعلى للإعلام، والهيئة الوطنية للصحافة، والهيئة الوطنية للإعلام)، والثاني قانون لتنظيم المهنة.
مرَّر البرلمان القانون الأول في 14 ديسمبر/ كانون الأول بأغلبية ثلثي أعضائه باعتباره من القوانين المكملة للدستور، أما الثاني فتعهد رئيس المجلس بإصداره في غضون شهر من تشكيل المجالس والهيئات الصحفية والإعلامية الجديدة "حتى يتسنى للمجلس عرضه عليها لإبداء الرأي فيه كما نص الدستور".
تشكلت المجالس في 12 أبريل/ نيسان من عام 2017، ومع ذلك ظل مشروعا قانوني تنظيم الصحافة والإعلام وإلغاء الحبس في جرائم النشر والعلانية حبيسا أدراج البرلمان، فيما تفرغ رؤساء وأعضاء المجالس والهيئة الصحفية والإعلامية الجديدة لمعارك المقرات والصلاحيات وتبعية موظفي الهيئات التي ورثوها، فضلًا عن مشاركتهم بشكل أو بآخر في عملية "التحكم والسيطرة" على منصات الإعلام والتي شرعت السلطة في تنفيذها قبل شهور.
في "الثلاجة"
في الربع الأخير من عام 2017، أحالت الحكومة إلى البرلمان مشروع قانون جديد لتنظيم الصحافة والإعلام، عُرض على نقابة الصحفيين وأبدت عليه بعض الملاحظات العارضة، فأدخل هو الآخر إلى "الثلاجة" نفسها التي يحفظ بها البرلمان أي قانون يُعزز الحقوق والحريات العامة، وبعد نحو ثمانية أشهر خرج المشروع إلى النور بعد أن تم تقسيمه إلى 3 مشروعات منفصلة، الأول خاص بالمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، والثاني للهيئة الوطنية للصحافة، والثالث للهيئة الوطنية للإعلام.
مواد مشروعات القوانين الجديدة التي فُصلت خصيصًا لتناسب الحالة الجديدة، تصادمت مع نصوص الدستور والاتفاقيات والعهود الدولية المعنية بالحقوق المدنية والسياسية التي وقعت عليها مصر، وبأحكام المحكمة الدستورية العليا التي اعتبرت أن "حرية التعبير وتفاعل الآراء التي تتولد عنها لا يجوز تقييدها بأغلال تعوق ممارستها".
ورغم اعتراضات الجماعة الصحفية، طبخ البرلمان القوانين الثلاثة ومرَّرها ضاربًا عرض الحائط بغضبة الصحفيين على العديد من المواد التي قننت الحجب والوقف والمصادرة، وجعلت من المجلس الأعلى رقيبًا على منصات الإعلام، فضلًا عن تقييدها لعلمية إنتاج محتوى صحفي يتوافق مع الحد الأدنى للقواعد والمعايير المهنية، وهو ما دفع الجمهور إلى هجرة وسائل الإعلام المصرية المتاحة والبحث عن منصات أخرى ترضي شغفه؛ في الحصول على معلومة موثوقة وتحليل موضوعي ورأي يعبر عن آلامه وأوجاعه.
اشتبك عشرات الصحفيين والكتَّاب مع مواد القوانين الثلاثة في منصات كان أغلبها محجوبًا في ذلك الوقت، لكن فات على العديد من هؤلاء مشروع القانون الذي سقط مع سبق الإصرار والترصد من الأجندة التشريعية للبرلمان، فمشروع قانون تعديل المواد الخاصة بالجرائم التي ترتكب بطريق النشر والعلانية في قانون العقوبات وغيره من قوانين والتي أعدته لجنة الخمسين، لم يحظَ كما غيره من قوانين تنظيم الصحافة باهتمام الجماعة الصحفية التي وجهت جام غضبها ونقدها نحو القوانين الجديدة.
ما المواد التي وردت في مشروع قانون إلغاء العقوبات السالبة في جرائم النشر التي أعدته لجنة الخمسين؟ وهل آن الأوان لإخراجه من "ثلاجة" البرلمان لتنقيح القوانين القائمة من عقوبة الحبس في قضايا النشر؟ هذا هو موضوع مقالنا المقبل.