برخصة المشاع الإبداعي-ويكيميديا
ضريح السيد البدوي في طنطا

هل نسميه "كرنفال سان بدوي"؟

منشور الثلاثاء 21 تشرين الأول/أكتوبر 2025

في المقال السابق، تحدثت عن صناعة الأنظمة والأجهزةِ الاستخباراتية لرموزها. وضربُت مثلًا بالطفل بافليك مروزوف في روسيا، وبحادثة موكينجبيرد/mockingbird في الولايات المتحدة، نموذجين فادحين لكيفية تحويل الإنسان إلى أداة دعاية تُعيد من خلالها الأنظمة إنتاج ذاتها في شكل أسطورة رسمية، لا فرق في ذلك بين نظام شمولي وآخر يدعي الديمقراطية، ويتشدق بحماية الحريات وحقوق الإنسان، على رأسها الحق في المعرفة.

واليوم، مع حلول مولد السيد البدوي، وما أثير حوله من لغط واتهامات، يجدر الحديث عن الطرف الآخر من المعادلة؛ الرمز الشعبي الذي تصنعه الجماهير لتقدّم سرديتها في مواجهة السرديات الرسمية التي تُصاغ في دهاليز السلطة لتجميل وجهها.

طريقة صناعة البطل الشعبي

كل الأمم تتعرض للانكسارات والهزائم وفترات الاضمحلال. وحين تمر الشعوب بهذه المراحل، تبحث في وعيها الجمعي عن وجه يرمم الإهانة، ليولد البطل الشعبي في لحظات الانحدار.

الفيلسوف الإيطالي أنطونيو جرامشي تحدث عن المثقف العضوي الذي يخرج من صلب الطبقات المقهورة ليعبّر عنها، في مقابل المثقف التقليدي الذي تصنعه النخب. الشيء نفسه يحدث في صناعة الرموز؛ الأنظمة تصنع رموزها من أعلى، والشعوب تخلق أبطالها من أسفل.

حين تُخنق الأصوات، وتضيق مساحات الأمل، يأتي الناس برموزٍ من اللحم والخيال معًا. رموز تتحدث بألسنة الناس وتنتصر لهم ضد القهر، كما فعل الفلاحون الفرنسيون حين صنعوا من جان دارك أسطورة، أو كما غنّى الأمريكيون لروبن هودهم الأسود مالكوم إكس، وكما نسج المصريون حكايات عن أدهم الشرقاوي الذي يأخذ من الغني ليعطى الفقير.

حين تصنع الأنظمة رموزها تَسكب عليها ماء الذهب أما الناس فتُخلّد أبطالها في الموالد

وفي العالم العربي، أفرزت كل موجة انكسار بطلًا شعبيًا. بعد نكسة 1967، لم يخرج المصريون في جنازة ناصر ليبكوا الزعيم فحسب، بل ليودّعوا رمزهم. فرغم رسمية منصبه، كان "منهم". ولم يحدث لكثيرٍ من أصحاب المناصب الرسمية أن جعلتهم الجماهير زعماء شعبيين.

فالأنظمة الرسمية محدودة الخيارات؛ ملك، رئيس، سلطان، زعيم. أشخاص يملكون السلطة أو يقتربون منها. أمّا الجماهير فخياراتها بلا حدود، ولا يمكن رشوتها بالعناوين ولا المناصب.

حين تصنع الأنظمة رموزها، تسكب عليها ماء الذهب وتكتب قصصها في كتب مدرسية، وتخلّد أسماءها في الشوارع والميادين. أما الناس، فتُخلّد أبطالها في الأغاني، في الحكايات، في الموالد، في المآذن.

ولأن الناس أصدق من المؤسسات، فهم لا يختارون رموزهم اعتباطًا. لو كانت الحكاية مجرد "تأليف"، فلِمَ اختاروا أحمد البدوي دونًا عن غيره؟ لماذا لم يقع اختيارهم على شيخ أو وليٍّ آخر؟ 

الرجل الذي صار حكاية

السيد أحمد البدوي، كما جاء في الطبقات الكبرى للشعراني وخلاصة الأثر للمحبي، حُسينيُّ النسب، أي أنه من سلالة الإمام الحسين بن علي، الذي يحظى في قلوب المصريين بالمحبة الغامرة. تروي بعض المراجع وكل المحبين أن البدوي نزل مصر مع والده علي البدري وأخيه الحسن الأبطح وأقام في طنطا، وكان حافظًا للقرآن ودارسًا للعلوم الشرعية.

لُقِّب بـ"السطوحي" لأنه كان يجتمع بمريديه على سطح داره، ويعلّمهم القرآن والذكر. أما لثامه الذي كان يغطي به وجهه، وبسببه لُقِّبَ بصاحب اللثام، فاختلفت الروايات حوله؛ قيل حياءً، وقيل تورعًا، وقيل خوفًا من أعين الناس. ويُروى أنه كان يُحب اللون الأحمر، وربما لهذا سُمّي "البدوي" لهيئته القريبة من لباس البدو، أو لكونه "يتبدّى" أي يرتحل طلبًا للعلم.

تقول الرواية إن الظاهر بيبرس سمع بكرامات السيد البدوي فدعاه فرفض لأنه لا يجالس السلاطين

في زمانه، كانت مصر تمرّ بمرحلة حرجة بسبب غارات الصليبيين وسقوط الخلافة العباسية واجتياح المغول. كانت الحملات الصليبية تترك خلفها مناوشات وسرقات واختطافًا للأسرى من شواطئ الدلتا. لم تُفصِّل كتب التاريخ الكبرى الكثير عن تلك الحوادث، لكن من يقرأ ما بين السطور، يدرك أن تلك "المناوشات الصغيرة" كانت كافية لإشعال روح الجهاد في النفوس.

في هذا السياق، أود الإشارة إلى خطابات احتفظت بها أسرة والدتي، أتت من خال جدي، يروي له كيف ضرب "الطوليان" (الإيطاليون)، مرفأ بيروت عام 1909. الثابت تاريخيًا أن معركة مرفأ بيروت بين العثمانيين والإيطاليين بدأت عام 1912، وما رواه خال جدي من مناوشات على المرفأ البيروتي لم يجده المؤرخون ذا بال يستحق التفصيل كما فصَّل خال جدي السيد خليل الحصري في روايته، كونه حادثًا لا يؤثر في مجرى التاريخ، لكنه أثر على قوارب خالي وتجارته. والشاهد من القصة أن المؤرخين لا يروون لنا كل ما أثر في الأحياء في فترة زمنية. 

إذن فمن الطبيعي أن السيد البدوي حثّ أتباعه على مقاومة الصليبين، سواء بالسلاح أو بالدعاء. فالرجل الذي ترك مكة والمدينة ليستقر في طنطا، وكانت يومها ثغرًا من ثغور الدلتا، لم يكن يسعى إلى عزلة، بل إلى موقع دفاعي وروحي في آنٍ.

توارث الناس روايةً شعبيةً لم توثقها إلا الألسنة، بأن الظاهر بيبرس سمع بكرامات السيد البدوي وشعبيته، فدعاه للقائه، فرفض في البداية قائلًا إنه لا يجالس السلاطين، فغضب بيبرس وقرر مضايقته، الأمر الذي حدا بأخيه الحسن الأبطح، لأن يسرع قادمًا من مكة ليتوسط عند السلطان. أُعجب بيبرس بالأبطح، وبات يستدعيه للمشورة، ثم ذهب للقاء السيد البدوي بنفسه حتى توطدت علاقتهما.

أما عن الأسرى الذين حرّرهم البدوي من الصليبيين، فقد اختلفت الروايات الشعبية؛ منهم من قال إنه قاد بنفسه مجموعة من المريدين وحررهم قتالًا، ومنهم من قال إنه دعا الله ففُكّ أسرهم. وكما هو الحال مع القصص الشعبية، لا يمكن إثباتها توثيقيًا، لكن تسلسل الأحداث يبدو منطقيًا ومحمولًا على الذاكرة الجمعية.

كيف توافقت أعمدة "التنوير" مع السلفيين؟

يكره السلفيون البدوي، لأن المولد الذي يُقام له كل عام هو تجسيد حي لانتصار الناس على الوصاية. يرى السلفيون في المولد فشل مشروعهم. بعد عقود من الدروس، والأشرطة، ومشايخ أضفيت عليهم ألقاب ما أنزل الله بها من سلطان، مثل "أعلم أهل الأرض" و"أرق قلب مؤمن" و"المنافح عن دين الله"، والتمويلات التي صُبّت عليهم من كل صوب. يجيء مولد السيد البدوي فيلقّنهم درسًا عمليًا في التأثير على البشر.

ما يربو عن مليون مواطن حول مقام وليٍّ صوفيّ، يغنّون ويدعون ويضحكون ويأكلون الحمص، كأنهم يقولون نحن هنا، والروح المصرية ما زالت بخير.

أما أعمدة التنوير التي تُسلِّط أضواءً عامية على حياتنا وكأننا في ظلام، فكرههم من نوع آخر، أكثر أناقة في مظهره، لكنه لا يقلّ تعاليًا في جوهره. تمامًا كما يظن المتطرفون في غيرهم الكفر. 

هؤلاء الذين يحتفلون بسانت فالنتاين، وينبهرون بكرنفالات روما والبندقية وريو دي جانيرو لا يرون في مولد البدوي إلا "جهلًا شعبيًا". نسي هؤلاء أن لكثير من الكرنفالات في العالم أصل ديني؛ من عيد Saturnalia الروماني إلى Carnival of Venice الكاثوليكي، إلى مهرجان Oktoberfest الألماني الذي وُلد أصلاً احتفالًا بزفاف ملكي!

فلماذا نحتفي بكرنفالات "الآخرين" بينما تُحرَّم علينا احتفالاتنا؟

هل لو غيّرنا اسم المولد إلى "كرنفال سان بدوي" سيهدأ غضبهم؟ حسنًا، فلنسمِه إذًا كرنفال سان بدوي، حلو كده؟

سيمفونية مصرية

المولد المصري ليس فقط احتفالًا بوليّ، بل هو مسرح حيّ لذاكرة الأمة.

ألوانه الخضراء والذهبية تحكي عن فلاحٍ يرى في الأخضر وعدًا بالخير، منذ احتفالات المصريين بمولد أوزوريس صاحب اللون الأخضر، ومثله مارجرجس والأخضر يعني لنا البهجة والخير. أناشيد إسلامية تشبه الترانيم القبطية، وإيقاعًا يُذكّرنا برسومات المصريين القدماء على الجدران، حين كانوا يقفون في صفوف يغنّون للآلهة وللنيل.

حلوى ملوّنة امتدادًا لطقوسنا القديمة في الاحتفال بالمواسم، ورقصات تذكّرنا بأننا شعب يحتفل بالحياة رغم الفقر، بالفرح رغم القهر.

في المولد، تبكي امرأة وتطلب الفرج حاملة ابنًا مريضًا، أو مربتةً على كتف شابة تأخر زواجها وهي تنظر إلى المقام في رجاء، بينما يهتف خلفها شباب بالمديح، في مشهدٍ لا يخلو من التناقض تتماوج فيه صور الحياة.

مشهد فني وروحاني وإنساني، لا يستطيع عقل بيروقراطي أن يفهمه، ولا أيديولوجي متشنّج أن يحتمله.

السيد أحمد البدوي في الوعي الجمعي للمصريين ليس رجل كرامات فقط، بل رمز للانحياز للشعب ضد السلطة. قاتل حين كانت الدولة ضعيفة، ورفض مكافآتها حين قويت، معلنًا "لا أجالس السلاطين".

نموذج للبطل الذي لا يبيع نفسه في سوق المناصب، بل يبقى في صف الناس، حتى بعد موته. لهذا، يذهب إليه الناس كل عام، بالملايين، لأنهم يشعرون أنه منهم، وأنه ما زال -من ضريحه- يساندهم. وفي زمنٍ تصنع فيه الأنظمة أبطالها بالميزانيات والإعلانات، يصنع الشعب بطله بالحكاية والحنين.

فإذا أردت أن تعرف من الذي يحكم حقًا، انظر إلى الكتب الرسمية. أما إذا أردت أن تعرف من الذي يعيش في قلوب الناس، فاذهب إلى طنطا في المولد، حين تنطفئ السياسة وتضيء الأرواح.