IMDB
لقطة من فيلم بقرة من إخراج داريوش مهرجويي، وإنتاج 1969

"بقرة" مهروجيي و"تِينَة" رسولوف.. سينما إيرانية تهزم الشاه والملالي

منشور الأحد 16 مارس 2025

إثارة الفيلم الإيراني The Seed of the Sacred Fig/بذرة التين المقدس، الذي نافس قبل أيام على جائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي، لا تتأتى فقط من موضوعه، لكن من الطريقة التي جرى تصويره بها ثم تهريبه من بلاده ووصوله للعرض في أكبر المنصات والمهرجانات العالمية. 

يتناول بذرة التين المقدس لمخرجه محمد رسولوف، إنتاج سنة 2023، الاحتجاجات التي تبعت مقتل الفتاة الإيرانية مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق في إيران، بعد إلقاء القبض عليها بادعاء خرق قواعد الحجاب.

مشهد من الفيلم الإيراني "بذرة التين المقدس" الذي ينتقد القيود الفجة على الحريات الشخصية في إيران

لم يكن ظهور الفيلم في الأوسكار هو الأول له، فقد ترشح أيضًا لجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان وجائزة الجولدن جلوب، كما سبق وعُرض بمهرجان الجونة في مصر دورة 2024.

رسولوف يتحدي خامنئي 

قصة مطاردة السلطات الإيرانية لمخرج الفيلم محمد رسولوف والحكم عليه قبيل تصويره فيلمه الأخير بالجلد والسجن 8 سنوات أضافت زخمًا كبيرًا للفيلم، كذلك الأمر فيما خص تهريبه إلى الخارج.

رسولوف الذي تمادى في تحديه للسلطة، أصر على تصوير "بذرة التين" خارج منزله، رغم الحكم الصادر ضده، وسعى لاستغلال الوقت الذي يستغرقه القضاء في نظر الالتماس الذي قدمه ضده سجنه، ليصور فيلمه عن مهسا.

استخدم رسولوف كل المعدات المتاحة له، من الكاميرات الديجيتال إلى كاميرات الهواتف المحمولة. ولسوء الحظ لم يستغرق القضاء وقتًا طويلًا في نظر الالتماس ورفضه وجدد قرار حبسه، ما اضطره للتعجيل بالفيلم، وإضافة مشاهد تسجيلية من مظاهرات مناهضة للسلطة وضد ارتداء الحجاب لسد فراغات السرد التي لم يستطع تصويرها.

حمَل المخرج فيلمه عبر القرى الإيرانية النائية، بعيدًا عن أعين السلطات، حتى تمكن من عبور الحدود الإيرانية سيرًا على الأقدام ثم انتقل به إلى مدينة هامبروج ومن ثم وصل إلى مهرجان كان لعرضه لأول مرة. 

لتكلل بالنجاح محاولة جديدة من السينما الإيرانية في تحدي القمع الذي لم يبدأ مع حكم الملالي، لكنه امتد لحكم الشاه الذي يتغنى كثيرون داخل وخارج إيران بليبرالية نظامه وتقدميته! 

3 أجيال تمر إلى العالمية

تصنع السينما الإيرانية، بدءًا من الثمانينيات إلى وقتنا الحاضر، زخمًا عالميًا، فعقب سقوط الشاه، وتحت حكم نظام الملالي، توالت ثلاثة أجيال من السينمائيين؛ فأفلام مثل طعم الكرز ولحظة من البراءة ولون الجنة لمخرجين مثل عباس كياروستامي ومحسن مخملباف ومجيد مجيدي تمثل كلاسيكيات هذه الحقبة.

 أما أفلام زمن الخيول الثملة وتسلل وفي الخامسة مساء لباهمان جوبادي وجعفر باناهي وسميرة مخملباف فهي أفلام جيل الوسط، انتهاء بالموجة الجديدة لأفلام مثل انفصال والبائع المتجول لـ أصغر فرهادي الذي وصل إلى أعلى درجات الانتشار بتحقيق المعادلة بين النجاح في المهرجانات والنجاح التجاري أيضًا. 

شجعت سلطات الشاه إنتاج أفلام تحتفي بالوجه العصري للبلاد أو تتعاطى مع مشكلات وجودية

ورغم اختلاف الهم الفني والاجتماعي لأفلام الأجيال الثلاثة، وكون هذه السينما أُنتجت في ظل حكم الثورة الإسلامية التي أطاحت بحكم الشاه عام 1979، فإن هناك سمات عامة تشترك فيها تتمثل في القصص الإنسانية البسيطة التي تقع أحداثها إما في الريف الإيراني أو في الأحياء المهمشة في المدن. كما أنها تقدم قيمًا أصيلة من الثقافة الإيرانية، وتتحسس تجاه المحاذير الرقابية الثلاثة؛ السياسة والجنس والدين، لتفلت إن استطاعت من مقص الرقيب، ومن استهدافها من السلطات بتهم الإساءة لسمعة البلاد واستهداف النظام الإسلامي. 

بقرة حسن تفضح العصرنة

هذا عن سينما ما بعد الثورة، أما قبلها، بالأخص في عهد الشاه الأخير محمد رضا بهلوي، فإن الصناعة التي بدأت في إيران سنة 1900 عكست رغبة السلطة وحرصها على عصرنة الحياة وطلائها بالنمط الأوروبي، والقضاء على أو تجاهل الريف ومهمشي المدن بقدر الإمكان.

أصبح التقدم مرادفًا للتأثيرات الغربية على الثقافة والحياة في طهران بشكل كبير، لذا شجعت السلطات إنتاج الأفلام التي تحتفي بذلك الوجه العصري للبلاد، أو التي تتعاطى مع مشكلات وجودية أو عاطفية أو مجتمعية مماثلة للأفلام الأوروبية المنتَجة في ذلك الوقت. 

على سبيل المثال تدور أحداث فيلم مال قارون، إنتاج عام 1965، في أوساط تتميز بالثراء والفخامة عن رجل غني لا يشعر بالسعادة رغم امتلاكه لكل شيء. بالمقابل انتشر نوع آخر من السينما يمكن أن يمثله فيلم قيصر المنتمي لنوع أفلام النوار الذي تقع أحداثه في أوساط فقيرة إلا أنه فيلم حركة تتجلى فيه مشاهد الانتقام والاغتصاب والانتحار والقتل على خلفية الأحداث. وهذه النوعية كانت الأنجح جماهيريًا ما يشجع على إنتاجها.

إلا أنه وفي زحام أفلام الحركة والميلودراما، لم نعدم أفلامًا غرَّدت خارج السرب، لكنها لم تنجُ من تبعات ذلك. ففي نفس إنتاج قيصر عام 1969، أخرج داريوش مهروجيي فيلمًا أصبح من الكلاسكيات اسمه بقرة.

تقع الأحداث بكاملها في قرية إيرانية بسيطة لا يملك أهلها الكثير؛ فعلى عكس بطل فيلم قارون، لا يملك حسن إلا بقرته التي يحبها كثيرًا ويسعد بتدليلها، وإشغال وقته وحياته بها. ولكن عندما تموت البقرة، يُجنُّ جنونه، ويصاب بصدمة عصبية تجعله يتصور نفسه بقرته الراحلة، فيمشي على أربع ويأكل التبن ويصدر خوارًا مشابهًا لها، ليعيش في تعاسة وجنون بعد أن خسر كل ما يملك. 

لدى عرض "بقرة"، جُن جنون السلطات وما كان منها إلا منع الفيلم من العرض. فصورته لا تعكس ما تحاول الدولة ترسيخه في الأذهان عن إيران الحديثة.

وكما نجح رسولوف في تمرير "بذرة التين" إلى الخارج، في العام الماضي، أي بعد أكثر من نصف قرن، تمكن مهروجيي من تهريب فيلمه، وعرض في مهرجانات عالمية ونال جوائز وإشادات في الأوساط الثقافية الأوروبية، وهو ما وضع السلطات في ورطة.

ولكي تتجنب الاتهام بالرجعية وضيق الأفق وتحافظ على صورتها العصرية المستنيرة، أُجبرت سلطة الشاه على عرض الفيلم وتوصلت لحل وسط، واشترطت على مخرج الفيلم أن يكتب في مقدمته أن أحداثه تقع في عصور قديمة جدًا!

صورة ضبابية في المرآة

أغرى نجاح بقرة وحضوره الدولي عددًا من المخرجين على تقديم أفلام مشابهة، إلا أنها لم تفلح في الهرب من قبضة الرقيب وتعرضت للتضيق والتهميش، من بينها  حياة ساكنة لصهراب شهيد ثالث عن عامل تحويلة في السكك الحديدية في منطقة رعوية نائية يخرج على المعاش فتنتهي حياته في ذلك المكان، ويصبح عليه أن يبحث عن بداية جديدة في مكان جديد.

كذلك الحال مع فيلم مطر غزير لبهرام بيضائي عن المدرس الذي يترك المدينة ليعيش في الريف، حيث يجد معنى لحياته فيما بدا له في البداية فوضى وهمجية وتخلفًا، وفيلم المسافر لعباس كياروستامي الذي يحكي عن طفل من مدينة صغيرة يجمع نقودًا بالتسول والسرقة والحيلة لكي يذهب لمشاهدة مباراة فريقه المفضل في ستاد طهران. 

عندما لا يجد المشاهد على الشاشة ما يمكنه التوحد معه فإنه يشعر بالغضب والرغبة في تكسير تلك المرآة التي لا تظهر صورته

بالرغم من جودة تلك الأفلام على مستوى المضمون والحرفية فإنها عانت في التوزيع والتحقق داخل سياق السينما الإيرانية في ذلك الوقت، حيث لا صوت علا فوق صوت الأكشن وميلودراما الطبقات الثرية المستغربة. يشبه عالم الاجتماع والناقد السينمائي الفرنسي كريستيان ميتز في كتابه The Imaginary Signifier Psychoanalysis and the Cinema طقس مشاهدة الأفلام بطقس النظر في المرآة، فعندما يجلس المشاهد أمام الشاشة فهو يبحث فيها عن صورته أو صورة قريبة منه يمكنه التوحد معها. بتطبيق نظرية المشاهدة هذه على سياق السينما الإيرانية في العشر سنوات التي سبقت الثورة مباشرة، نستطيع أن نتخيل ما الذي كان يختبره الجمهور الإيراني عاشق السينما عندما كان يذهب إلى دور العرض ليشاهد أفلامًا إيرانية تتحدث عن واقع لا يعرف عنه شيئًا وأنماط حياتية ومشكلات لا تعبر عنه على الإطلاق، بل وتتجاهل مشاكله وأنماط حياته الفعلية. ينظر في المرآة فلا يجد صورته أو أي صورة يمكنه التوحد معها. 

يذهب ميتز إلى أن المشاهِد عندما لا يجد على الشاشة ما يمكنه التوحد معه فإنه يشعر بالغضب والرغبة في تكسير تلك المرآة التي لا تظهر صورته؛ قد تساعدنا هذه النظرية على تفسير تحول علاقة الحب الكبيرة بين الشعب الإيراني والسينما إلى ذلك الغضب الذي دفع عددًا كبيرًا من متظاهري ثورة 1979 إلى تدمير حوالي 125 دار عرض سينمائي في جميع أنحاء البلاد. فالأفلام التي كانت تعرض بداخلها كانت تسيء إلى صورة هذه الجماهير.

سينما على مسطرة الخميني

لا يمكننا إرجاع تدمير دور العرض فقط إلى الخلفية الدينية لشريحة كبيرة من المتظاهرين، لأنه في أول مقابلة تليفزيونية مطولة مع الرئيس الجديد للبلاد وزعيم السلطة الدينية آية الله الخميني، سُئل عن موقف الدولة الجديدة من صناعة السينما، فتحدث عن حبه الكبير لفن السينما وتأثره بالعديد من الأعمال السينمائية الواقعية التي تعبر عن مشكلات الناس الحقيقية، وتقدم صورة أمينة للثقافة الإيرانية وقيمها الرفيعة مثل فيلم بقرة! الفيلم الذي منعه نظام الشاه السابق بتهمة الإساءة لسمعة البلاد. 

اعتُبر ما قاله الخميني في تلك المقابلة التلفزيونية مانفستو السينما المقبولة من النظام الجديد؛ أفلام عن حياة البسطاء، منخفضة التكاليف، ممثلون غير محترفين، واحتفاء بخصوصية الثقافة الإيرانية. أفلام تشبه تلك الأفلام غير المحتفى بها في عصر الشاه. ولأن ما أساء إلى صورة الشاه هو مدعاة فخر للنظام الذي قام ضده، والعكس بالعكس، فقد منع على سبيل المثال فيلم "قيصر" تحديدًا بناء على فتوى من السلطة الدينية التشريعية لأنه يقدم صورة مسيئة لقيم المجتمع الإيراني المحافظ. 

هذه ملامح السينما الإيرانية الجديدة التي لم تمنعها السلطة الدينية في إيران لعدم إساءتها لسمعة البلاد، بل واحتفت بنجاحاتها في الخارج أيضا طالما ابتعدت عن ثالوث السياسة والدين والجنس، أما الأفلام التي تطرقت لانتقاد السلطة ولو بشكل غير مباشر فتعرضت للمضايقات والقمع.

فيلم باشو لبهرام بيضائي انتقد فكرة الحرب بشكل عام أثناء الحرب العراقية الإيرانية، فما كان من الرقابة إلا أن قصت العديد من المشاهد بل وغيّرت مشهدًا بالمؤثرات البصرية لحركة طائرات في السماء كي تتجه من يسار الشاشة إلى يمينها بدلًا من اليمين إلى اليسار ليكون، حسب تصريح الرقابة، دالًا على طائرات العدو العراقي القادمة من الغرب وليس الإيراني. أما فيلم جعفر بناهي هذا ليس فيلمًا، الذي صوره في منزله بعد صدور حكم قانوني يمنعه من مزاولة الإخراج، فاعتبر فيلمًا مسيئًا إلى سمعة البلاد وعدم سيطرة قانونها على أفرادها، وانتهى الأمر بسجن المخرج، بينما يحصد فيلمه احتفاء وجوائز خارج إيران.

تواصلت مغامرات بناهي في مواجهة السلطة، فبعد سنوات من فيلمه الذي يقدم حياته وهو في جنبات بيته، ممنوعًا من العمل، صور فيلمه تاكسي طهران وأصر على أن يتجول سرًا بالكاميرا في شوارع العاصمة، ليقدم رواية مضادة عن النظام الحاكم في بلاده، وبالطبع لم يرحب بالفيلم الذي نال جائزة الدب الذهبي من مهرجان برلين.  لم تتوقف محاولات السينمائيين الإيرانيين في تحديهم للسلطة، وبالطبع لم يرَ نظام خامئني في "بذرة التين" الصورة التي يريد للعالم أن يراها عنه، مثله مثل نظام الشاه الذي لم يرَ صورة بلاده العصرية في "بقرة".