تصميم يوسف أيمن- المنصة
يكفي الرجل أن يطهر قلبه ويخلص في تقواه وإيمانه ليترقى في مراتب القداسة كما الخضر.

قديس من العامة

الخضر وموسى وبحث العوام عن الاتصال بالسماء

منشور الاثنين 28 نوفمبر 2022 - آخر تحديث الخميس 22 أغسطس 2024

تبدو حكاية الخضر وموسى معروفة على القدر الذي تحمله من الإلغاز؛ رجل رفعته اﻷقدار  إلى درجة فوق بشرية وعدّته من الخالدين، يطوي الأرض في لمح البصر، ويُرشد السالكين في طريق المحبة، ويُبشّر الحكام أو يقرعهم، يفعل ذلك على ما يبدو من قبل لقائه بالنبي موسى، في زمن قريب بعد الطوفان، وحتى الوقت الحاضر.

الخضر رجل عادي يشبه العامة، لديه من علم "لدني"، أي علم ينزله الله في قلب المؤمن، يصفه الناس بـ"البصيرة" وصاحبه "مكشوف عنه الحجاب"، وهو لا يزال حيًا حدّ الرواية الشعبية، يحضر في أي مجلس بمجرد ذكر اسمه، لذا يتوجب على من ذكره أو سمع من يذكره أن يرد التحية "وعليكم السلام"، وأن يرفع يده كأنه يحيي شخصًا حل وجاء.

كيف يصير الرجل العادي قديسًا؟ ومن أين نبعتْ الفكرةُ في تاريخ التصور الشعبي؟ وهل يمكن أن تتقاطع قصة الخضر مع مصادر تاريخية أخرى؟ وهل وقعت المروية حرفيًا أم أنّها مجرد حكاية رمزية صنعتها المخيلة الإنسانية؟

المصري الذي يعرف

في إشارة تبدو نادرة في التاريخ المصري القديم، يتوقف عالم الأنثروبولوجي إيفان كونج أمام برديات تعود لزمن بناة الأهرام وتروي عن "الشخص الذي يَعرف"، أناس صالحون لجأ إليهم الملوك بعد أن استنفد كبار الكهنة المشهورون أو الرسميون حيلهم لشفاء مرض عضال أو تحقيق أمنية مستحيلة، و"لم يُشر لهم بأي ألقاب كهنية رسمية وكانوا يوصفون بأنهم من العامة لكن لديهم قدرات خارقة". [1]

ويربط كونج في كتابه السحر والسحرة عند الفراعنة، بين المعرفة والقدرة على اجتراح المعجزات، فالكهنة لا يولدون كهنة لكنهم يجب أن يبدأوا أولًا بتعلم الكتابة، ويستمد الفرعون قدسيته بوصفه الكاهن الأول الذي اطلع على علم الآلهة ويتلقى تعاليمها ورسائلها.

وبعد ذلك العصر بقرون عدّة، يروي التلمود، كتاب اليهود المقدس، قصة بعنوان "الوثوق بالله" [2]، تدور أحداثها بين الرابي الحكيم أو الحبر يوحنان بن ليفي، وإلياهو الملك "إليا أو إلياس"، الذي رُفع إلي السماء، وتتشابه أحداثها مع أحداث القصة التي جرت بين الخضر وموسى إلى حد بعيد.

ينخرط الرجلان في رحلة عبر البلاد، ويأتي إلياهو بأفعال غريبة تصيب يوحنان بالدهشة، بعد أن تسبب اﻷول في موت بقرة أسرة فقيرة ضيّفتهما، ودعا لأهل قرية أساؤوا استقبالهما بأن يصلوا جميعًا للرياسة، بينما دعا لأهل قرية أخرى أحسنوا ضيافتهما بأن يصل واحد منهم فقط للرياسة، وتكفل بإصلاح جدار في بيت رجل لم يحسن إليهما.

في آخر القصة يرد إلياهو على أسئلة يوحنان فيقول له "اسمع وتعلم الوثوق بالله، حتى وإن لم تفهم طرقه". تكاد تتطابق الروايتان القرآنية والتلمودية للقصة، فما التفسير؟ سنعود لذلك لاحقًا.

بعل يُسيّر السحاب

يقدم فراس السواح تفسيرًا مختلفًا لشخصية الخضر [3]، ويرى أن من المفارقات أن النبي إيليا الذي قضى حياته في صراع مع المعبود الوثني بعل تحول هو نفسه إلى بعل مسيحي ومن بعد ذلك لإسلامي، إذ جعلته المسيحية الشعبية في دور إله الخصب السوري القديم بعل لدى فلاحي بلاد الشام وأقطار البحر المتوسط، بعد أن فقدت تلك الشرائح شفيعها الزراعي الذي يهبها المطر وخصب الأرض والماشية بتحولها إلى المسيحية، ووجدت في شخصية إلياس الذي صعد من عالم البشر إلى العالم القدسي بديلًا عن بعل وأقرانه من الآلهة المتحكمة في مظاهر الطبيعة، ودعته بـ "مارالياس" أي القديس إلياس.

يرى السوَّاح أن الخيال الشعبي وجد عددًا من نقاط التشابه بين بعل ومارالياس، فالأول كان متحكمًا بالمياه بعد إخضاعه لإله البحر والأنهار المدعو بالكنعانية "يم"، كذلك إلياس الذي تظهر سلطته على المياه من خلال فلقه لمياه نهر الأردن.

على أن فلق المياه وإن كان معجزة موسى في الأديان السماوية فإن كونج يشير إلى قصة أقدم تعود إلى عصور بناة الأهرامات لساحر يستعين به الفرعون، بعد أن سقطت حلية من ضفيرة جارية ضمن حاشيته في النيل، يحضر الساحر وينطق ببضع كلمات ليفلق ماء النيل إلى نصفين، ويجد الحلية مستقرة على شقفة في القاع فيلتقطها، ويصعد مرة أخرى للشاطئ، ثم يتلو بضع كلمات فتعود المياه لما كانت عليه. [4]

الكاهن الخالد

وفق أستاذ التاريخ بجامعة بايلور الأمريكية فيليب جنكينز  Philip Jenkins فإن القصص القرآني يعيد إنتاج أبطال معروفين من اليهود والمسيحيين بطرق مدهشة، لكنّه نادرًا ما يخترع الشخصيات دون أساس تاريخي. هذا المبدأ جعل جينكينز يعيد النظر في تحديد شخصية الخضر، على ضوء أنه "يجب أن يكون شخصية معروفة في التاريخ اليهودي والمسيحي، باعتباره رجلًا يتمتع بقوى خارقة، ويحيط الغموض بملابسات مولده أو وفاته".

يستنتج، وبعد الإطلاع على كتاب كهف الكنوز، وهو كتاب تراثي يهودي يحكي تاريخ العالم منذ بداية الخليقة ويغطي نحو 5500 سنة، أن الشخصية اليهودية التي أعاد القرآن إنتاجها، وفيما بعد الأدبيات الإسلامية لتتحول إلى الخضر هي شخصية ملكي صادق، ملك القدس، الذي شارك سام بن نوح في إعادة دفن جثمان آدم بعد الطوفان، ويصفه العهد القديم بأنه"بِلاَ أَبٍ، بِلاَ أُمٍّ، بِلاَ نَسَبٍ. لاَ بَدَاءَةَ أَيَّامٍ لَهُ وَلاَ نِهَايَةَ حَيَاةٍ. بَلْ هُوَ مُشَبَّهٌ بِابْنِ اللهِ. هذَا يَبْقَى كَاهِنًا إِلَى الأَبَدِ".

نبوءة العوام 

يمكن تفسير المبالغات والتحميلات الأسطورية لسيرة الخضر بأنّها نابعة من توق العقل الجمعي للعوام لشق سبيل للقداسة والرياسة غير سبيل النبوة أو النسب الشريف أو الطريق التقليدية المقيدة؛ للظفر بمكانة اجتماعية عليا، فيكفي الرجل أن يطهر قلبه ويخلص في تقواه وإيمانه ليترقى في مراتب القداسة كما الخضر.

فتح الباب لنيل القداسة والتأييد السماوي للبشر العاديين في الإسلام غير الأنبياء والرسل، من بعد وفاة النبي محمد، لم تكن قاصرة على شخصية الخضر

وفي مجتمعاتنا الشرقية توجد نماذج كثيرة لأناس صبغوا أنفسهم بصبغة القداسة، يعتقد أتباعهم في قدرتهم على اجتراح المعجزات، ويخضعون لهم ويقدمون لهم فروض الطاعة والولاء حتى مع تواضع مكانتهم الاجتماعية بمقاييس النسب الشريف، أو المال والنفوذ أو العلم، فقط يتفوقون باتصال مزعوم بالسماء، وتلقي الإلهام النوراني الذي يجيب عن أسئلة المستقبل والحاضر والماضي.

محاولات أسطرة العوام أو لنقل فتح الباب لنيل القداسة والتأييد السماوي للبشر العاديين في الإسلام غير الأنبياء والرسل، من بعد وفاة النبي محمد، لم تكن قاصرة على شخصية الخضر، فهناك فرق إسلامية شيعية تُعرف بـ"الغلاة" أي "المتطرفين" لم تكتف برفع علي بن أبي طالب وأبنائه إلى منزلة القديسين الخالدين فقط، لكنهم اعتبروهم آلهة بالمعنى الحرفي للكلمة، وجديرين بالعبادة. [5]

وفق أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة توبنجين الألمانية هاينس هالم فإن الصراع بين الفرس الساسانيين والروم، ساهم في الحفاظ على بقايا الديانات الغنوصية القديمة، التي اختفت من العالم المسيحي تقريبًا بسبب الاضطهاد، خاصة الديانة المانوية نسبة للنبي ماني، الذي اعتبر منافسًا للمسيح، باستثناء أراضي الإمبراطورية الفارسية خاصة أجزاء واسعة من العراق.

ويقول أستاذ الفلسفة اليونانية بكلية الآداب جامعة سوهاج شرف عبد الحميد للمنصة، إن الغنوصية أو العرفانية، فكرة قديمة قدم الأديان ذاتها لكنها تحولت إلى فلسفة على يد الفلاسفة اليونان الأوائل خصوصًا فيثاغورس إيمبيدوكليس.

تتقاطع الغنوصيات وتتفق وتشترك في مطلب واحد تسعى إليه هو الخلود، والإنسان كما أنه إنسان عاقل حسب تعريف أرسطو ومحب للحكمة فهو أيضًا كائن يحب الخرافة ويعشق الأساطير، ويتحقق الخلود بوسائل عدّة مثل: تناسخ النفوس، والتصوف، أو الاتحاد بالإله، وخلود النفس وبقائها بعد الموت.

وكل كاهن غنوصي لأنه يدعي أنه يتلقى المعرفة الإلهية، وأنه الوسيط بين الآلهة والبشر. وهذا هو المعيار: المعرفة الإلهية أو ما نسميه العرفان.

خرقة ألبسه الله إياها

نأتي إلى السؤال اﻷخير: ماذا لو أننا كنا جميعًا نسير في الاتجاه الخاطئ؟ لماذا نبحث عن أصل شخصية ربما تكون من صنع الخيال وربما تكون القصة كلها بين الخضر وموسى رمزية ولم تحدث على أرض الواقع؟ الرأي الذي أدعمه بأسئلة أخرى: أين ذهب فتى موسى أو خادمه؟ لماذا لم ينتقم أهل القرية من الخضر الذي قتل غلامًا دون ذنب؟ لماذا لم يثر أصحاب السفينة ضد الخضر الذي خرق سفينتهم دون مبرر واضح؟

ربما يكون الجواب في الخرقة الصوفية، أو الرداء الذي يخلعه الشيخ ويلبسه لتلميذه معلنًا بذلك اجتيازه لجزء من الطريق أو ارتقاءه عتبة من عتبات السلم النوراني، كما حدث مع ابن عربي الفقيه الصوفي الشهير، الذي كتب "لبست خرقة الخضر من يد تقي الدين عبد الرحمن بن علي بن ميمون بن أب التوزري ولبسها هو من يد صدر الدين شيخ الشيوخ بالديار المصرية وهو ابن حمويه وكان جده قد لبسها من يد الخضر". [6]

 أعاد القرآن سرد قصة موسى والخضر لتأهيل جماعة المسلمين القليلة الضعيفة للإقدام على أعمال شديدة الخطورة، من خلال تمرير قصص عجائبية ذات مضمون واحد، وهو التسليم لخطة الرب أو إرادة الله

وهذه الخرقة أو الرداء الذي يفوز به السالك في طريق المحبة الصوفي يحيلنا إلى ترنيمة اللؤلؤة، ضمن أعمال الرسول توماس المنحولة، التي يصنفها الفيلسوف الألماني هانس يوفاس في كتابه الديانة الغنوصية كنموذج آسر للأدب الغنوصي المعتمد على الرمزية. [7]

في الترنيمة الطويلة يوجد "ابن ملوك" يرسله أبواه إلى مصر ليجلب اللؤلؤة التي يحرسها ثعبان عملاق (تنين)، فلما وصل مصر وشرب وأكل مع المصريين ولبس لبسهم نسي وسكر وتاه، لكن والده أرسل له رسالة على هيئة صقر ذكرته بمهمته، حينها توجه إلى الثعبان الضخم ونطق باسم والده فأصيب الثعبان بالشلل ونام فانتزع اللؤلؤة وعاد بها إلى مملكة أبيه حيث استقبله الخدم على الأبواب بردائه البهي المنير.

يترجم "يوفاس" رموز الترنيمة فيقول إن اللؤلؤة هي النفس الطاهرة وطعام وشراب ولبس المصريين هي الدنيا ومغرياتها وأن مجاراة ابن الملك لأهل مصر هي نوع من التمويه الضروري وإلا ارتابوا في أمره وأيقظوا الثعبان ليأكله، والثعبان الضخم هو الشيطان أو إله الظلام، والرحلة هي رحلة الخلاص الروحي.

وبهذه الكيفية، أي قراءة القصة بين موسى والعبد الصالح باعتبارها قصة غنوصية رمزية، استخدمها النبي موسى مع بني إسرائيل كبرمجة عصبية تؤهلهم لاتباعه وتنفيذ تعليمات الرب دون إخضاعها لحسابات العقل، ومن ثم أعاد القرآن سردها، لتأهيل جماعة المسلمين القليلة الضعيفة للإقدام على أعمال شديدة الخطورة، من خلال تمرير قصص عجائبية ذات مضمون واحد، وهو التسليم لخطة الرب أو إرادة الله.


1- السحر والسحرة عند الفراعنة - إيفان كونج - ص 48.

 2- التلمود كتاب اليهود المقدس - أحمد أيبش - ص 346.

3- أساطير الأولين - القصص القرآني ومتوازياته التوراتية - فراس السواح - ص 138.

4- إيفان كونج -مرجع سابق - ص47.

5- الغنوصية في الإسلام - هاينس هالم - ص 25.

6- الفتوحات المكية - ابن عربي - جزء 1 - ص 187.

7- الديانة الغنوصية - هانس يوفاس - ص 143.